كاسترو يحلل بوش نفسيا

في الذكرى الحادية والخمسين لـ 26 من تموز 1953، ذكرى الهجوم على ثكنة المونكادا، ألقى الرئيس الكوبي فيدل كاسترو خطاباً، أفرده للحديث عن الادعاءات والهجوم الذي تشنه أميركا على كوبا، ليتحول الخطاب إلى محاكمة حقيقية للرئيس الأمريكي جورج بوش، محاكمة وتحليل للقيصر والإمبراطورية حسب التعبير الذي أطلقه كاسترو لأميركا ورئيسها الذي يهدد كوبا.

وفيما يلي نص الخطاب:

أيها المواطنون الأعزاء

أيها الضيوف الأعزاء

في الذكرى الحادية والخمسين ليوم السادس والعشرين من تموز 1953، وهي ذكرى الهجوم على ثكنة المونكادا، سوف أكرّس خطابي لشخصٍ مشؤوم، يهدّدنا ويشتمنا ويفتري علينا. إنّها ليست نزوةً ولا خياراً جيداً، بل هي ضرورةٌ وواجب.

في 21 حزيران، وفي محكمة مناهضة الإمبريالية، قرأت الرسالة الثانية على رئيس الولايات المتحدة رداً على تقرير مشين لوزارة الخارجية حول الإتجار بالبشر، وهذا التقرير هو إحدى الوثائق العديدة التي تحضّرها حكومة ذلك البلد، منصّبةً نفسها قاضياً أعلى للأخلاق في العالم، وفي هذا التقرير اتهمت كوبا بأنّها تنتمي إلى البلدان التي تشجّع على السياحة الجنسية وعلى خلاعة الأطفال.

بعد أسبوعين بالكاد، لم يلزم بوش صمتاً لائقاً أمام الحقائق غير القابلة للدحض التي احتوتها رسالتي، فقد ذكرت البرقيات الصحفية أنّه، في خطابٍ انتخابي في تامبا (فلوريدا)، أطلق اتّهاماتٍ جديدة وشتائم جديدة أكثر إثارةً للغثيان، ومن الواضح أنّه هدف من ذلك إلى الافتراء على كوبا، وتبرير تهديداته بالاعتداء عليها والإجراءات الوحشية التي تبناها مؤخراً ضدّ شعبنا. 

في 16 تموز، أرسلت وكالة الأنباء الفرنسية البرقية التالية من تامبا: شنّ الرئيس جورج دبليو بوش هجوماً قاسياً على كوبا التي وصفها بأنّها "الوجهة الرئيسية للسياحة الجنسية". وأكّد أنّ واجب الولايات المتحدة يحتّم عليها قيادة النضال العالمي ضدّ الإتجار بالبشر الهادف إلى استخدامهم في أشغال شاقة أو إلى استغلالهم جنسياً.

كوبا واحدٌ من البلدان العشرة التي أوردتها وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرٍ نشر في حزيران وأشار إلى الحكومات التي تتسامح مع الإتجار بالبشر أو لا تحارب تلك الجريمة محاربةً كافية.

وأكّد بوش أنّ "نظام فيدل كاسترو حوّل كوبا إلى الوجهة الرئيسية للسياحة الجنسية"، فحلّت بذلك محلّ جنوب شرقيّ آسيا باعتبارها الوجهة المفضّلة للشواذ الذين يميلون إلى الأطفال في الولايات المتحدة وكندا.

في مؤتمرٍ انعقد في تامبا (فلوريدا)، أشار الرئيس إلى كوبا باعتبارها أحد أسوأ المنتهكين في هذا المجال. 

واتّهم كوبا بأنّها ’تستخدم السياحة الجنسية كمصدرٍ حيويّ للعملة الصعبة يسمح لها بالحفاظ على حكومتها الفاسدة’.

وأشار بوش إلى أنّ القضاء على الاتجار بالبشر سوف يمثّل جزءاً أساسياً من سياسته الخارجية. 

ووعد قائلاً: "إنّ الاتجار بالبشر يسبب الآلام والخزي لبلادنا، وسوف نوجّه نضالنا ضدّه."

ووجه كلامه إلى المندوبين في المؤتمر قائلاً: "إنّنا نشنّ نضالاً ضدّ الشرّ، والأمريكيون الشماليون ممتنّون لكم على إخلاصكم وخدماتكم." ’الحياة البشرية هبة من هبات الخالق، وينبغي ألاّ تباع أبداً’.

وأوردت الوكالة الإسبانية EFE: 

بوش يعلن في ولاية فلوريدا: "ليدنا مشكلة لا تبعد عن سواحلنا أكثر من 150 كم".

وذكر دراسةً ورد فيها أنّ كوبا قد حلّت محلّ جنوب شرقيّ آسيا بصفتها وجهةً لرحلات الشواذ الذين يميلون إلى الأطفال، والسوّاح الباحثين عن الجنس. وفق هذه الدراسة، ’حين تراخت القيود على السفر إلى كوبا في التسعينات، ساهم تدفّق الأمريكيين الشماليين والكنديين في مفاقمة بغاء الأطفال في كوبا على نحوٍ خطير." 

’إنّ إدارتي تعمل على حلّ هذه المشكلة حلاً كاملاً، وذلك عبر الانتقال السريع والسلمي نحو الديموقراطية في كوبا’.

وقد وضّحت برقيّاتٌ لاحقة أنّ تلك العبارة التي استشهد بها رئيس الولايات المتحدة في خطابه في تامبا ليدعم اتّهاماته الخطيرة قد ظهرت في دراسة كتبها تشارلز ترمبل، الذي كان في ذلك الوقت طالباً في المستوى التحضيري وأصبح الآن طالب حقوق في جامعة فانردبلت الأمريكية الشمالية، وقد أعلن بإلحاحٍ أنّ المقطع الذي استشهد به بوش يغيّر معنى جملةٍ وردت في تلك الدراسة، وأضاف التوضيحات التالية: 

لقد تفاقم البغاء فجأةً في الأمّة الأنتيلية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

عندما استلم كاسترو السلطة في العام 1959، أعلن أنّ البغاء غير شرعي، لكن لم تتوفّر له في البداية سوى وسائل ضئيلة لمكافحته. لكن بدأاً من العام 1996، تبنّت السلطات الكوبية إجراءاتٍ صارمة في هذا المجال. 

وعلى الرغم من أنّ البغاء لا يزال موجوداً، فهو لم يعد واضحاً مثلما كان وسيكون من الخطأ القول إنّ الحكومة تنشّطه. 

إنّ العديد من الناس في العالم لا يعلمون إلاّ النذر اليسير عن الثورة الكوبية، وربما يصبحون ضحايا الأكاذيب والخدع التي تنشرها حكومة الولايات المتحدة بفضل وسائل الإعلام الهائلة التي تحت تصرّفها. 

لكن هناك كثيرون غيرهم، وخاصةً في البلدان الفقيرة، يعلمون ما هي الثورة الكوبية، ويعلمون بأيّ حرصٍ كرّست نفسها منذ لحظاتها الأولى لتعليم وصحّة الأطفال والشعب كلّه، ويعرفون تضامنها الذي قادها إلى التعاون النزيه مع عشرات البلدان في العالم الثالث، ويعرفون ارتباطها بأرفع القيم الأخلاقية، ومبادئها الأخلاقية، وتصوّرها الذي لا أحد يتجاوزه عن الكرامة وشرف الوطن وشعبه، وكلّها أمورٌ كان جميع الثوريين الكوبيين مستعدّين على الدوام لتقديم أرواحهم من أجلها. هؤلاء الأصدقاء العديدون، في أيّ مكانٍ من العالم، سوف يتساءلون دون شكّ كيف يمكن أن يوجّه أحدٌ لكوبا أكاذيب بهذا القدر من الصفاقة والفظاظة.

إنّ هذا يرغمني على أن أفسّر بالكامل وبكلّ صراحة الأسباب التي توضّح، على الأقلّ من وجهة نظري، التأكيدات التي تفوق التصوّر وغير المسؤولة لرئيس أقوى أمّة على كوكب الأرض، والذي يهدّد فوق ذلك بمحو الثورة الكوبية من الخريطة. 

سوف أقوم بذلك بأكبر قدر ممكن من الموضوعية، دون أن أطلق تأكيداتٍ اعتباطية ودون أن أحرّف على نحوٍ صفيق جمل وكلمات ومفاهيم الغير، ودون أن أدع مشاعر الانتقام أو الكره الشخصي الدنيء تقودني.

إذا كان هناك مسألة أوضحت باستفاضة في العديد من الأعمال العلمية البارزة ومن قبل شخصياتٍ أمريكية شمالية أخرى، فهي مسألة اعتماد رئيس الولايات المتحدة على الكحول على مدى عقدين من الزمن، حين كان بين العشرين والأربعين من عمره. وقد تناول هذه النقطة بجدّيةٍ علميةٍ مدهشة عالم النفس جستن فرانك في كتابٍ أصبح مشهوراً عنوانه: Bush on the couch.

يبدأ الدكتور فرانك بتوضيح أهميّة أن يجري تحديد علمي لمعرفة إن كان بوش مدمناً سابقاً على الكحول أو أنّه لا يزال كذلك. وقد كتب: 

إنّ أكثر المسائل إلحاحاً هي معرفة إن كانت سنواته التي أمضاها مدمناً غير نادم على الكحول، ثمّ امتناعه التالي عن شرب الكحول لا يزالان يمارسان عليه وعلى المحيطين به تأثيراً.  

ويتابع قائلاً، وأنا لا أزال أذكر كلماته بالنص:

إدمان الكحول مرضٌ ربما يكون قاضياً، مرضٌ يدوم طيلة الحياة، يصعب كثيراً إيقافه نهائياً (الصفحة 40). 

ثمّ يؤكّد، متحدّثاً عن رئيس الولايات المتحدة بالتحديد: 

لقد قال بوش علناً إنّه توقف عن الشرب دون عونٍ من منظمة الكحوليين المغفلين [وهي منظمة تكرّس نفسها لمساعدة المقلعين عن تناول الكحول] أو أي برنامجٍ آخر ضد الاستخدام غير الصحيح للمواد الممنوعة، وأكّد أنّه تخلّى نهائياً عن تلك العادة مستعيناً بأدواتٍ روحية، كدراسة التوراة والأحاديث التي تبادلها مع الواعظ الإنجيلي بيلي غراهام.

في الصفحة 40، يحكي فرانك نقلاً عن ديفيد فروم، المحرّر الأسبق لخطابات الرئيس، أنّ بوش، حين دخل إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، استدعى مجموعةً من القادة الدينيين وطلب منهم الصلاة، ثم قال لهم: 

السبب الوحيد الذي يعود إليه وجودي في البيت الأبيض وليس في خمّارة هو أنّني اكتشفت الإيمان، أنني التقيت بالله. أنا هنا بفضل قوّة الصلاة. 

مقدّراً أنّ هذا التأكيد يمكن أن يكون صحيحاً، يكتب الدكتور فرانك: 

إنّ جميع الأمريكيين الشماليين يرغبون بالتأكيد أن يعلموا أنّ الرئيس قد أقلع عن شرب الكحول، حتى ولو لم تكن لدينا وسائل لمعرفة إن كان ذلك صحيحاً. في هذه الحالة، فإنّ ذلك يستوي مع صورة المدمن السابق الذي توقّف إدمانه لكنه لم يعالج.

ويضيف: 

إنّنا نعرف المدمنين السابقين على  الكحول الذين يتوقّفون عن الشرب دون مساعدة برنامج الكحوليين المغْفلين باسم: "السكّيرين الجافّين"، وقد جال هذا الوصف لبوش على الإنترنت وفي مجالاتٍ أخرى. 

إنّ تعبير "سكّير جافّ" ليس تعبيراً طبياً، ولا هو تعبيرٌ يمكن لي استخدامه في محيطٍ طبيّ. لكن، حتى دون أن أصم بوش بأنّه كذلك، يصعب على المرء السكوت عن العديد من العوامل الإشكالية لطبعه بين السمات التي تربطها الأدبيات المتعلقة باستعادة الصحة بالإدمان على الكحول، ومن بينها الهوس بالعظمة، والطبيعة المفخّمة، وعدم التسامح،  والافتقاد إلى العاطفة، وإنكار المسؤوليات، والميل إلى الشطط في ردود الأفعال، والميل إلى الاستبطان (الصفحة 41).

ويلحّ الدكتور فرانك على واقع أنّه عالج شخصياً مدمنين على الكحول توقّفوا عن الشرب دون علاجٍ مناسب، ولم ينجح معظمهم في تعلّم السيطرة على القلق الذي حاولوا في الماضي التغلّب عليه بواسطة استهلاك الكحول.

ويشرح قائلاً: 

إنّ جهودهم المتصلّبة للسيطرة على القلق تعيق أيّ تحليلٍ نفسي. بل إنّ بعضهم لا يستطيعون  تولّي القلق الذي يتضمّنه الاعتراف بإدمانهم على الكحول. 

ويتابع الدكتور فرانك قائلاً: 

لقد لاحظت أنّه دون مثل هذا الاعتراف، فإنّ المدمنين السابقين على الكحول لا يتمكّنون من التغيّر حقاً، ولا التعلّم من خبرتهم الخاصة. 

ثمّ يتحدّث عن بوش بالتحديد، فيستنتج ما يلي: 

يبدو أنّ نموذج إنكار الخطأ الذي يجهد الكحوليون في مرحلة التخلص من الإدمان لكسره متجذر في الشخصية الكحولية، ونادراً ما ينحصر في إدمانهم على الكحول. وعادة اتهام الآخرين وإنكار المسؤولية الشخصية مهيمنة في التاريخ الشخصي لجورج دبليو بوش إلى حدّ أنّها تبرز على نحوٍ واضح لدى مواجهة أيّ تهديد، مهما كان بسيطاً.

ويظهر التصلّب النمطي في سلوك بوش أوضح ما يظهر في انقياده المتميّز للروتين اليومي، والاجتماعات التي اشتهرت بقصرها، وبرنامج الرياضة المقدّس، والقراءة اليومية للتوراة، وساعات العمل المكتبي المحدودة. إنّ الشخص السليم قادرٌ على تعديل روتين حياته، أما الشخص المتصلّب، فغير قادرٍ على ذلك (صفحة 43). 

بطبيعة الحال، نحن جميعاً بحاجةٍ إلى الراحة والاسترخاء، بحاجةٍ إلى الوقت الذي نعود فيه لأنفسنا، لكن يبدو أنّ بوش يحتاج ذلك أكثر من معظمنا. وليس هناك ما يفاجئ في هذا الأمر، إذ إنّ القلق الذي يتضمّنه كون المرء رئيساً يمكن أن يمثّل، بين أسبابٍ أخرى، خطراً حقيقياً في العودة إلى تناول الكحول (صفحة 43). 

وتتشارك عمليات الفكر المتصلّب، وهي إحدى المميزات الأخرى لرئاسة بوش، مع الروتين المتصلّب. وندرك ذلك من تشبّثه العنيد، شبه الهوسي، بالأفكار والخطط، حتى تلك التي فقدت مصداقيتها، ابتداءً من صورته الخاصة كـ ’موحّد وغير مقسّم’، وصولاً إلى اقتناعه بأنّه كان لدى العراق أسلحة دمار شامل (أو، في حال عدم وجود مثل تلك الأسلحة، اقتناعه بأنّ "الولايات المتحدة قد فعلت على أيّ حال ما كان ينبغي عليها أن تفعله".) هذا التصلّب في التفكير ليس ناتجاً عن العناد وحسب: فالكحوليّ الذي لم يعالج، والذي تستهلكه وظيفة الاضطرار للسيطرة على أشكال القلق التي يمكن أن تقوده من جديد إلى الشرب، ليس بمقدوره أن يتحمّل أيّ تهديدٍ لوضعه القائم.

ويضيف الدكتور فرانك أنّ عدم التحمّل هذا يؤدّي بصورة عامة إلى ردود أفعال غير متناسبة مع حجم التهديد الحقيقي الذي يلحظه.

ربما يساعد ذلك على تفسير التناقض الجذري بين ردّ جورج دبليو بوش على صدّام حسين وبين ردّ أبيه الذي أقام بعنايةٍ تحالفاً، ولم يبدأ بالعمل إلاّ بعد غزو الكويت، ثمّ عمل بحذرٍ وتحفّظٍ بعد بدء القتال، أي أنّه سلك سلوك قائدٍ خبيرٍ يعلم أنّه مسؤولٌ عن حياة العديد من الناس، وليس سلوك كحوليّ اعتاد على اتخاذ إجراءاتٍ جذرية ليحمي نفسه.

يتابع الدكتور فرانك تحليله موضّحاً: 

هناك مسألتان يبدو أنّ الصحافة مصمّمة على السكوت عنهما، تحومان بصمتٍ من قبل أن يصعد بوش إلى سدّة الحكم: هل لا يزال يستهلك الكحول؟ وإذا كان الجواب بلا، هل هو مسكونٌ بكلّ تلك السنوات التي كان يشرب أثناءها؟ إنّ أيّ تفحّصٍ جدّي لحالته النفسية يتضمّن رداً على هذين السؤالين (صفحة 48). 

وحول موضوع السؤال الأول، يشير إلى أنّه من الوارد أن يكون بوش يلجأ إلى تهدئة قلقه بتناول أدويةٍ تبقيه بعيداً عن الكحول. وذكر على نحوٍ خاص سلوكه الغريب أثناء المؤتمرات الصحفية. وأضاف: 

معلّقاً على السلوك المتردّد لبوش أثناء مؤتمرٍ صحفي عقد مع بداية الحرب على العراق، رجّح الناقد توم شيلز أنّ ’الرئيس واقعٌ تحت تأثير عقارٍ خفيف’.

لكن ما يثير القلق أكثر في المؤتمرات التي تثير الشكوك، ليس طريقته في الكلام، بل ما يقوله. كثيراً ما رأيناه يخترع الأقاويل، معبئاً فراغ ذاكرته بما يعتقده وقائع. وكان أكثر تلك المؤتمرات دلالةً مؤتمر 14 تموز 2003، حين اخترع، وهو يجلس إلى جانب كوفي عنان، أنّ الولايات المتحدة أعطت صدّام حسين ’فرصةً للسماح بدخول المفتّشين وأنّه لم ينتهزها. (وكما أشارت الواشنطن بوست، فإنّه سمح في الحقيقة بالمفتّشين، ورفض بوش تمديد عملهم لأنّه لم يكن مقتنعاً أنّ ذلك التمديد ذو جدوى’. الاختراع ظاهرة شائعة عند مستهلكي الكحول، وكذلك الإلحاح الذي يترجم نفسه بميل بوش لتكرار كلماتٍ وجملٍ بعينها، كما لو أنّ التكرار يساعده على البقاء هادئاً والاحتفاظ بالتركيز (صفحة 49). 

ويلخّص الدكتور فرانك تحليله لأولئك السؤالين كما يلي: 

حتى إذا قبلنا أنّ أيّام إدمان بوش على الكحول قد ولّت وانقضت، تبقى مسألة الضرر الدائم الذي يمكن أن يكون قد تسبب به له قبل أن يتخلّى عنه، في تجاوزٍ للتأثير الكبير على شخصيته الذي نستطيع تتبّعه وصولاً إلى امتناعه عن تناول الكحول دون علاج. ينبغي على أيّة دراسةٍ نفسية أو نفسية تحليلية شاملة للرئيس بوش أن تستكشف إلى أيّة درجةٍ تغيّر دماغه ووظائف ذلك الدماغ خلال أكثر من عشرين عاماً من الكحولية. ففي دراسةٍ حديثة أجراها المركز الطبي في جامعة كاليفورنيا / سان فرانسيسكو، لاحظ الباحثون أنّ مستوى استهلاك الكحول عند الشاربين غير التائبين الذين لا يعتبرون أنفسهم كحوليين ’يمثّل مشكلةً تتطلّب علاجاً’. وقد لاحظ الباحثون أنّ أولئك الشاربين غير التائبين الذين جرى تحليل أوضاعهم ’كانوا معاقين على نحوٍ ذي دلالة في ما يتعلّق بالمؤشّرات المرتبطة بالذاكرة الفعّالة وسرعة المعالجة والانتباه والوظائف التنفيذية والتوازن’. هناك حالياً دراسة جدّية حول شفاء الكحوليين بعد استهلاكٍ للكحول على المدى البعيد. وقد أثبت العلم أنّ الكحول بذاته سامٌّ للدماغ، سواءً من حيث تشريحه (فالدماغ يصغر والشقوق بين نصفي كرة المخ وحولهما تكثر) أم بالنسبة لفيزيولوجيّته العصبية. لكن العديد من الكحوليين يستعيدون صحّتهم بعد امتناعٍ دائمٍ يزيد على خمس سنوات. إنّ بوش يؤكّد أنّه امتنع منذ أكثر من خمسة عشر عاماً عن تناول الكحول، ويمكن أن يكون قد تحسّن حتى المستويات السابقة لاستهلاك الكحول. والحال أنّه حتى الكحوليين المزمنين الذين يستعيدون وظائفهم العقلية يعانون بصورةٍ عامة من ضررٍ دائم في قدرتهم على معالجة أيّة معلومةٍ جديدة. فهناك وظائف عصبية نفسية هامّة تتضرّر. وتوضع المعلومة الجديدة على نحوٍ أساسيّ في مجلّدٍ ضائعٍ في مكانٍ ما من الدماغ. 

لكن بصورةٍ عامة، يعاني المدمنون السابقون على الكحول غير التائبين من صعوباتٍ في تمييز المعلومة الهامّة عن المعلومة الخالية من الأهميّة. وربّما يضيعون جزءاً من قدرتهم على البقاء في حالة تركيز. يكفي كي نلاحظ نقص انتباه بوش أن ننظر إليه وهو يستمع إلى خطابٍ يلقيه شخصٌ غيره، وأن نلاحظ سلوكه أحياناً في خضمّ الحملة الانتخابية أو رؤية الجهد الكبير الواضح الذي يبذله ليحافظ على تركيزه في جميع الخطابات التي يلقيها (الصفحة 50).

ويشير الدكتور فرانك أخيراً إلى أنّ بوش سيريح العديد من الأمريكيين الشماليين لو أنّه يخضع لاختباراتٍ نفسيّة قادرة على أن تقيس علمياً تأثيرات اعتماده على الكحول على وظائف دماغه. ويحذّر قائلاً:

دون مثل ذلك الاختبار، لا نستطيع سوى أن نوجّه شكوكاً مسنودة في رئيسنا معاق في ما يتعلّق بقدرته على فهم الأفكار والمعلومات المعقدة (صفحة 51).

ويخلص إلى القول:

ربما يخشى معظمنا قليلاً من التأكد من ذلك الأمر. فهو يحتلّ منصب الرئيس منذ ثلاث سنوات، وقد قاد أمّتنا إلى الحرب. لكنّنا إن لم نجر مثل هذا التأكّد، فربّما تديننا النتائج جميعاً (صفحة 51).

ويحلّل الدكتور جستن فرانك بعمقٍ وتفصيل مظهراً آخر في كتابه، وهو الأصوليّة الدينية لدى الرئيس بوش. 

يشرح الدكتور فرانك كيف أنّه من المرجّح أن يكون الرئيس بوش قد حاول تخفيف الفوضى الداخلية التي يهدّئها شرب الكحول في أحايين معيّنة، مفاقماً إياها في نهاية الأمر، فوجد في الدين مصدراً للهدوء لا يختلف كثيراً عن الكحول، وسلسلةً من القواعد التي تساعده على إدارة العالم الخارجي وعالمه الروحي الداخلي في آن.

في رأيه، فإنّ تحليلاً لدور الأصولية في حياة بوش سوف يُظهر أنّ استبدال المواد الممنوعة ببعضها ليس سوى واحدةٍ من المظاهر المختلفة لاعتماد بوش تجاه الدين كأليةٍ للدفاع. إنّ بوش يستخدم الدين لتبسيط الفكر، لا بل لاستبداله بحيث لا يعود مضطراً للتفكير بأيّ شكلٍ من الأشكال. ويضيف فرانك أنّ بوش، باصطفافه إلى جانب الخير، إلى جانب الله، يضع نفسه فوق نقاش وجدال العالم. وهو يستخدم الدين كمتراسٍ ليحمي نفسه من المشاكل، لا بل من تلك التي يمكن له أن يخلقها بنفسه بطريقةٍ أخرى.

ويتساءل: كيف وصل بوش إلى ذلك الحدّ، مشيراً إلى أنّ تراث عائلة بوش استند لسنواتٍ طويلة إلى العقيدة، إلى الإيمان بإلهٍ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستقامة الأخلاقية، لكنّه يقدّم التمييز التالي:

والحال أنّ التوجّه الديني للرئيس بوش يمثّل تغييراً ذا دلالة بالنسبة لتقاليد العائلة. فحتّى إذا كانت بعض مظاهر تقاليد العائلة قد بقيت، وخاصةً المشاركة الدينية الرسمية، فإنّ تحوّله عند بلوغه النضج إلى مقاربةٍ أكثر أصوليةً يتناقض تناقضاً جذرياً مع الحياة الروحية لأبيه. 

يبرهن تحليل الأحداث التي دفعت بوش إلى التبنّي الواعي للأصولية على أنّه قد وصل إلى لحظةٍ أخذ يبحث فيها بحماسٍ عن حلول، إلى لحظة الضرورة الملحّة. 

يشير الدكتور فرانك إلى أنّ الأديان الأصولية تضيّق عالم الاحتمالات وتقسم العالم إلى أخيار وأشرار، وذلك بعباراتٍ مطلقة لدرجة أنّها لا تترك حيّزاً لإعادة النظر. وفي هذا الصدد، يقول مفسّراً: 

يتبسّط أيضاً تصوّر الأنا. ومثلما تنكر التعليمات الأصولية عن الخلق التاريخ، فإنّ المفهوم الأصولي عن التحوّل أو الانبعاث يدفع المؤمن إلى أن يجد نفسه مقطوعاً عن التاريخ. والدفاع المتهرّب والمصلحي الذي يتبنّاه بوش عن حياته قبل انبعاثه يظهر أساساً هذا الميل. يلحّ بوش قائلاً: ’ليس حسناً إقامة جردٍ للأخطاء التي ارتكبتها حين كنت شاباً. أعتقد أنّ افضل طريقةٍ للردّ على الأسئلة المتعلّقة بالسلوكيّات المحدّدة هي تذكير الناس بأنّني حين كنت شاباً وغير مسؤول، فقد كنت شاباً وغير مسؤول. لقد تغيّرت!’ بالنسبة للمؤمن، فإنّ قدرة الإطلاق الروحي لا تمحي ذنوب الماضي وحسب، بل تقيم أيضاً قطيعةً بين الأنا الحالي والمذنب التاريخي. 

يوضّح الدكتور فرانك أنّه ليس هناك ما هو غير مألوف في واقع أنّ بوش يبحث في الإيمان عن الحماية، وأنّ تصلّب نماذج تفكيره وخطابه وجدول أعماله اليومي يشير إلى هشاشةٍ كبيرة، حتى ولو كان الإيمان يجعله أكثر قوّة. ويشرح أنّ رعب بوش الكبير في مواجهة كلّ شيء تقريباً، بدءاً من المعارضة وانتهاءً بالهجمات الإرهابية، تبدو واضحةً بألمٍ أحياناً، حتّى (وخاصةً) في تعفّفاته، وأنّه شخصٌ يبحث بكلّ قواه عن حماية. ويتساءل: ’لكن ضدّ من يبحث جورج دبليو بوش بكلّ قواه عن حماية؟’ ويجيب عبر التحليل التالي: 

إنّ نظام الإيمان الذي يسانده بكلّ تلك القوّة يحميه من إعادة النظر في أفكاره ومنتقديه ومعارضيه، والأهمّ من ذلك أنّه يحميه من إعادة النظر في نفسه. وحين يذهب المرء أبعد من ذلك، يصعب عليه ألاّ يقتنع بأنّه يعاني من خوفٍ مرعبٍ لدرجة عدم قدرته على مجابهته. 

بالنسبة لشخصٍ يحاول بكلّ قواه ألاّ يفقد طريقه، فإنّ التشبّث بإيمانٍ ما (لا بل بجملٍ بعينها)، والتمسّك به طريقةٌ أخرى لحماية الذات من الانهيار. وتعطي مؤتمرات الرئيس بوش الصحفية براهين منذرة على هذا القلق المتواصل، وبرهاناً واضحاً لدرجة أنّ أحداً لا يستغرب أن يتردّد البيت الأبيض لهذه الدرجة في تنظيم المؤتمرات الصحفية. بعد مؤتمرٍ صحفي تميّز بكارثيّته في تموز 2003، لاحظ المعلّق السياسي تيموتي نواه أنّ ’حديث بوش بدا غير متجانس’. وفي افتتاحيّةٍ انتقاديّة نشرت في اليوم التالي، أشارت نيويورك تايمز إلى أنّ إجابات الرئيس كانت ’غائمة وأحياناً غير متماسكة تقريباً’، واقترح أنّ بوش كان ’مبهوراً بالأسطورة التي اخترعتها إدارته’. 

ويعطى أمثلةً على جملٍ تكرارية أثناء المؤتمر الصحفي:

(...) ’حسناً، قبل كلّ شيء، الحرب على الإرهاب تستمرّ، كما أذكّر الناس باستمرار. التهديد حول ما تسأله يا ستيف يذكّرنا أنّ علينا أن نكون يقظين لأنّ الحرب على الإرهاب تستمرّ’. 

’قلت لكم لتوّي أنّه يوجد تهديدٌ موجّهٌ للولايات المتحدة. ليس لديّ أيّ شكّ يا كمبل أنّ صدّام حسين كان يمثّل تهديداً لأمن الولايات المتحدة وتهديداً للسلام في المنطقة’. 

’كان صدّام تهديداً والأمم المتحدة كانت تعتبره تهديداً. وهذا هو السبب الذي يجعلها تصوّت على اثني عشر قراراً. أسلافي اعتبروه تهديداً. لقد جمعنا الكثير من المعلومات. كانت تلك المعلومات جيدة، معلوماتٍ قوية اتخذت قراراً انطلاقاً منها.

ويتابع الدكتور فرانك:

إنّ مخاوفه رهيبة لدرجة أنّه لا يستطيع حتّى مواجهتها. والنصيحة الشهيرة لدى الأمريكيين الشماليين، التي قدّمها لهم بعد أقلّ من أسبوعين على أحداث 11 أيلول، برهانٌ على أسلوبه التبسيطي في تحليل الوضع. ففي تلك النصيحة، مديراً ظهره للقلق والانشغال، نصح الأمريكيين الشماليين بالاستمرار في الشراء والسفر كما كان شأنهم في السابق، الأمر الذي يتناقض بوضوحٍ مع ضعف الأمة المكتشف حديثاً. قارنوا ردّ فعله بردّ فعل عمدة نيويورك، رودلف جيولياني، الذي واجه مخاوفه، وشمّر عن ساعديه وانخرط في العمل، بحيث شعر الناس أنّهم أكثر أماناً مما شعروا به أمام إنكار بوش المقصود.

منذ وصوله إلى الرئاسة، لم يتوقّف بوش عن ذكر التعليمات الإلهية لتبرير أفعاله. وفق هآرتس نيوز الإسرائيلية، قال بوش: ’لقد طلب مني الله أن أهاجم القاعدة وقد هاجمتها؛ وطلب مني بعد ذلك أن أهاجم صدّام، وفعلت’.

أخيراً، يقدّم الدكتور فرانك الملاحظة التالية: 

لقد دوّت المعركة التوراتية بين الخير والشرّ في جميع خطابات بوش منذ 11 أيلول، بدءاً باستخدامه المتكرّر لكلمة ’حرب صليبية’ ووصفه للإرهابيين بـ ’الأشرار’ انتهاءً بقراره إدخال العراق وإيران وكوريا الشمالية في ’محور الشرّ’. وفي الوقت نفسه، يقدّم الولايات المتحدة بوصفها أمّةً من الضحايا الأبرياء تماماً. بتقديم بوش للشرّ على هذا الشكل، فإنّه ينفي أيّة مسؤولية للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه حوّل رؤيته المفككة والطفولية للعالم إلى سياسةٍ خارجية مقاتلة تماماً (وبدائية). 

إنّ خطاب بوش يبرز الطريقة التي يماهي فيها مفاهيمه الخاصة، بوصفه رئيساً، مع الله والولايات المتحدة. بالنسبة له، تبدو هذه المفاهيم الثلاثة قابلة للتبديل في ما بينها. وبما أنّه غير قادر على بكاء موتى 11 أيلول على نحوٍ كافٍ ليسمح بإجراء تحقيقٍ مستفيض حول الطريقة التي جرت بها الأحداث، وحول مسؤوليتنا الخاصة المحتملة، فقد هاجم على نحوٍ أعمى "عدواً واحداً يراه في كلّ مكان، كما لو أنّ إرهابياً قد انبثق فجأةً من تحت كلّ حجر".

في كتابه: رجال بيض أغبياء، أشار مايكل مور إلى أنّ بوش يقدّم أعراضاً واضحة لعدم قدرته على القراءة مثلما يقرأ شخصٌ بالغ وكتب ما يلي في رسالةٍ مفتوحة وجّهها إلى بوش: 1. جورج، هل تستطيع القراءة والكتابة مثل شخصٍ بالغ؟ (...)

إنّ جميع الدلائل على هذه الأمّية موجودة، ويبدو أنّ أحداً لم يتحدّاك في هذا الشأن. والمؤشّر الأوّل على ذلك هو ما قدّمته على أنّه الكتاب المفضّل لطفولتك، The Very Hungry Caterpillar. لكن لسوء حظّك، لم ينشر هذا الكتاب إلاّ بعد عامٍ من خروجك من الجامعة. (...)

في كتابه Against All Ennemies، يحكي رتشارد كلارك ما يلي: ’لقد أبلغنا باكراً جدّاً أنّ الرئيس ليس قارئاً نهماً’، بعد قليلٍ من وصوله إلى البيت الأبيض.

في كتابه Bush at War، يحكي بوب ودوورد أنّ بوش قال في اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي أثناء حرب أفغانستان: ’أنا لا أقرأ افتتاحيات الصحف. لا أفعل ذلك. كلّ خبير وكلّ رائدٍ أسبق يعرف أنّ فرط التهوية الذي يميل إلى التشكّل حول تلك التقارير الصحفية وكل ذلك هو مجرّد ضجيجٍ في الخلفية’.

لقد قدّمت حتى الآن موجزاً شديد الاختصار لما قالته شخصيّاتٌ أمريكية شمالية هامة حول بعض المواضيع، قلت ما يساعد على تفسير التصرّف الغريب والميال للحرب لرئيس الولايات المتحدة.

لا أريد أن ألحّ حالياً على مسائل أكثر حساسيةً، كتلك التي كلّفت ج. هـ. هاتفيلد حياته، وهو مؤلّف كتاب Fortunate Son، أو مواضيع أخرى ذات أهمية كبيرة تطرّق إليها كتّابٌ أمريكيون شماليون آخرون يتمتّعون بالذكاء الحادّ والشجاعة. 

إن افتراءات وأكاذيب بوش وأقرب مساعديه قد فبركت بسرعة لتبرير الإجراءات الوحشية التي جرى تبنّيها ضدّ المواطنين من أصلٍ كوبي الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية ولديهم صلاتٌ عائلية في كوبا.

يمكن أن تكون لهذا التجاوز، كما حذّرت في 21 من حزيران الماضي، نتائج سياسية معاكسة في ولاية فلوريدا، تكون حاسمة في المعركة الانتخابية الحالية. وتقوى لدى الآلاف من الكوبيين الأمريكيين فكرة الامتناع عن التصويت، في حين أنّ العديد منهم كانوا في الحالة الطبيعية سيصوّتون لبوش.

إنّ الحقد والعماء اللذين أدّيا بهذه الإدارة إلى عملٍ غير أخلاقي وأحمق، تحت ضغوط المافيا الإرهابية التي منحت بوش انتصاراً مغشوشاً في حين أنّ الأصوات التي حصل عليها تقلّ بمليون صوت عن منافسه على المستوى القومي وأنّ أفضليّته الهزيلة وصلت إلى خمس مئة وسبعة وثلاثين صوتاً في فلوريدا، حيث لم ’يمارس’ العديد من الأموات حقّهم في التصويت وحسب، بل منع كذلك العديد من السود من ذلك بالقوة. يمكن أن يعيق خمسة عشر إلى عشرين ألف ناخبٍ طموحاته في إعادة انتخابه. وقد انتقدت إجراءاته الوحشية كذلك على المستوى القومي.

هذه المافيا الإرهابية، التي لم يكن قرارها أقلّ من انتخاب رئيسٍ للولايات المتحدة، يكوّنها أو يديرها في معظمها مناصرون قدماء لباتيستا والمتحدّرون منهم؛ ومجموعاتٌ شاركت طيلة عقود في أعمالٍ إرهابية وهجمات قراصنة، ومخططات لاغتيال قادةٍ ثوريين وأشكال مختلفة من الاعتداءات المسلّحة على وطننا؛ ومالكون عقاريون كبار وعائلات من البرجوازية العليا التي مسّتها القوانين الثورية وحصلت، مثلها في ذلك مثل سابقيها، على أشكال مختلفة من المزايا، وحصل العديد من أفرادها على نفوذٍ في قطّاعاتٍ مختلفة من السلطة داخل الإدارات الأمريكية الشمالية.

إنّ أكثر من 90 بالمئة من أولئك الذين هاجروا منذ انتصار الثورة قاموا بذلك عبر طرقٍ طبيعية ولأسباب اقتصادية، وكان رحيلهم من هنا مسموحاً تماماً. لكن بعد وصولهم إلى هناك، أرغموا على المرور بين الشباك الشوفينية لتلك المافيا القوية، التي لم يكن سهلاً عليهم الهروب من  نفوذها.

وخلافاً للملايين العديدة من الأمريكيين اللاتينيين، ومن بينهم أولئك القادمين من هاييتي ومن البحر الكاريبي، الذين دخلوا إلى الولايات المتحدة على نحوٍ شرعيّ أو غير شرعي والذين يطلق عليهم اسم المهاجرين، يوصف الكوبيون دون استثناء بالمنفيين.

من جهةٍ أخرى، كلّف قانون الإصلاح المشين العديد من الكوبيين حياتهم، من حيث أنّه يكافئ ويحفّز الرحيل غير الشرعيّ بمنح مواطنينا مزايا استثنائية لا يستفيد منها أيّ أجنبيٍّ آخر من أيّ بلدٍ من العالم.

والحال أنّه منذ سنواتٍ عديدة، وحتّى قبل انهيار الاتحاد السوفييتي والفترة الخاصة، وعلى الرغم من مخاطر التجسّس والخطط الإرهابية القادمة من الولايات المتحدة والتي كانت تتضمّن تبنّي إجراءاتٍ دفاعيّة مناسبة، سمحت كوبا للعديد من المهاجرين بزيارة عائلاتهم وبلدهم الأصلي، في حين تغلق إدارة بوش الأبواب أمامهم فجأةً، مدفوعةً بهوسها المتعصّب بخنق كوبا اقتصادياً.

ولهذا الهدف أيضاً، أي حرمان البلاد من أيّ مورد، تصف الصناعة السياحية الكوبية بأنّها ’سياحة جنسية’ وتصف القادمين من أمريكا الشمالية لزيارة بلادنا بأنّهم ’شاذّون يميلون إلى الأطفال’ و’باحثون عن المتعة’.

كذلك، فإنّ السيد بوش لا يتردّد في وصم السيّاح الكنديين بنفس الصفات، في حين أنّ الكلّ يعرف أنّ الغالبية العظمى منهم هم من المتقاعدين والمسنّين الذين يأتون بصحبة عائلاتهم بحثاً عن راحة البال والأمن الاستثنائيين، وعن التربية والثقافة والحفاوة التي تقدّمها بلادنا. 

كيف سيصف السيد بوش عشرات الملايين من السيّاح الذين يدخلون كلّ عامٍ إلى الولايات المتحدة التي تغصّ بالكازينوهات ودور القمار ومراكز البغاء المذكّر، التي لا يوجد واحدٌ منها في كوبا، والغريبة عن الثقافة الثورية لشعبنا؟

كيف سيصف عشرات الملايين من الأوروبيين الذين يزورون كلّ عام إسبانيا حيث تعطي العديد من صفحات الإعلام الأسماء والعناوين والمواصفات الجسدية والثقافية والذهنية والاختصاصات والمواهب المناسبة لجميع الأذواق، الخاصة بأولئك اللواتي يمارسن مهنة البغاء القديمة؟ هل سيصف الصناعة السياحية في أمريكا الشمالية وإسبانيا بالسياحة الجنسية؟

إنّ أيّاً من تلك النشاطات غير موجود في كوبا. لكن في الذهن الحامي والأصولي لزعيم البيت الأبيض كلّي القدرة وأقرب مستشاريه، ينبغي ليس فقط ’إنقاذ’ كوبا من ’الهمجية’: ينبغي الآن ’إنقاذ الأطفال الكوبيين من الاستغلال الجنسي ومن الاتجار بالبشر’، ’ينبغي تحرير العالم من هذه المشكلة العويصة على بعد مئة وخمسين كيلومتر فقط من الولايات المتحدة’.

ألم يقل أحدٌ لهذا السيد أنّ نحو مئة ألف امرأة كنّ يمارسن البغاء في كوبا قبل انتصار 1959، مدفوعاتٍ بالفقر والتمييز والبطالة، وأنّ الثورة هي التي علّمتهنّ وبحثت لهنّ عن عمل ومنعت ’مناطق التسامح’ التي كانت موجودة في ذلك الحين في الجمهورية تحت الوصاية والاستعمار الجديد اللذين فرضتهما الولايات المتحدة؟

ألم يقل أحدٌ لهذا السيد أنّ الأطفال الكوبيين، الذين تتمتّع صحّتهم الجسدية والعقلية والروحية بالأولوية في الثورة، هم محميّون بقوانين أكثر صرامةً بكثير من تلك السارية في الولايات المتحدة، وأنّهم جميعاً يذهبون إلى المدرسة، بما في ذلك أكثر من خمسين ألفاً يعانون من بعض النقص في قدراتهم، ويتطلّبون بالتالي رعايةً تدعمها مدارس للتعليم الخاص، ويحوزون على هذه الرعاية؟

ألم يقل أحدٌ لهذا السيد أنّ نسبة الوفيّات عند الأطفال في كوبا أقل من تلك الموجودة في الولايات المتحدة، وأنّ هذه النسبة تنقص باستمرار؟

ألم يجرؤ أحدٌ على أن يهمس في أذن هذا السيد أنّ كوبا تحتلّ في مجال التعليم مكانةً مميّزة معترفاً بها على المستوى العالمي؛ وأنّ جميع خدمات التعليم والصحة مجّانية ويتمتّع بها جميع السكّان، وأنّها تقيم برامج للتعليم والصحّة والثقافة تضعها دون منافس في مقدّمة دول العالم؟

لقد كشفت الجلسة التاريخية للمجلس الوطني للسلطة الشعبية في كوبا والتي انعقدت في الأول والثاني من تموز التقرير الفظ المؤلّف من أكثر من أربع مئة صفحة الذي يفصّل فيه البيت الأبيض بعناية البرامج الاستعمارية الجديدة والإلحاقية التي تقترح المجموعة الفاشية التي أنجبت مشروعاً مثيراً للغثيان إلى هذا الحدّ تطبيقها ضدّ الشعب الكوبي وسيادة البلد، لكنّها لم تتوصّل إلاّ إلى مزيدٍ من وحدة شعبنا وتعزيز حسّه النضالي.

ينبغي أن يكون المرء مجنوناً حقاً ليتحدّث عن وضع برامج لمحو الأمية والتلقيح في كوبا، حيث جرت تصفية الأمية منذ أمدٍ غير قصير، ويبلغ التعليم الإلزامي تسع سنوات، ويحصّن الأطفال ضدّ الإصابة بثلاثة عشر مرضاً. طالما أنّ الأمر قد وصل إلى هذا الحدّ، فالأفضل وضع مثل هذه البرامج لصالح عشرات الملايين من الأمريكيين الشماليين المستبعدين، الذين لا يستفيدون حتّى من تأمينٍ طبيّ أو لم يذهبوا إلى المدرسة أو هم أمّيون فعلياً أو وظيفياً. 

لم تجرؤ الإدارة الأمريكية الشمالية أن تقول كلمةً واحدة عن العرض السخيّ الذي قدّمته بلادنا لها: إنقاذ حياةٍ واحدة مقابل كلٍّ من ضحايا الاعتداءات على البرجين التوأمين خلال خمس سنوات، بتقديم العلاج المجّاني لثلاثة آلافٍ من الأمريكيين الشماليين الذين لا يستفيدون من خدمات الصحّة الضرورية للحفاظ على حياتهم. كما أنّ تلك الإدارة لم تجب على السؤال التالي: هل ستعاقب أولئك الذين ربما يقرّرون قبول هذا العرض فيأتون إلى كوبا؟

إنّه أمرٌ ذو دلالةٍ حقاً أن يكون اليوم الذي كان فيه السيد بوش يتفوّه بأضاليل وتهديدات مشينة لهذا الحد، هو نفس اليوم الذي وقّعت فيه مؤسّسةٌ بارزة في كاليفورنيا على اتفاقٍ مع مركز المناعة النووية لنقل التكنولوجيا المتعلّقة بالاختبارات السريرية، والإنتاج اللاحق لثلاثة لقاحاتٍ واعدة جرى تطويرها في بلادنا ضدّ السرطان، وهو مرضٌ يقتل كلّ عامٍ كما نعلم أكثر من نصف مليون مواطن أمريكي شمالي.

ومن العدل القول إنّ السلطات الأمريكية الشمالية لم تضع بالمقابل أيّ عائقٍ أمام ذلك الاتفاق.

إنّ هذا يبرهن أنّ ثمار كلّ ما قلته بدأت في الظهور في كلّ مكانٍ في بلادنا، رغم خمسةٍ وأربعين عاماً من الحصار الإجرامي واعتداءات الإدارات الأمريكية الشمالية.

والأمر لا يتعلّق بأسلحةٍ بيولوجية، أو أسلحةٍ كيميائية أو أسلحة نووية: الأمر يتعلّق بتقدّمٍ علميّ يمكن أن يساعد البشرية جمعاء.

نرجو الله ألاّ يعطي "تعليماتٍ" للسيد بوش بالهجوم على بلادنا وبأن يحثّه بالأحرى على تجنّب هذا الخطأ الفادح! الأحرى بالرئيس أن يسأل البابا والشخصيّات المهيبة الرفيعة ورجال الدين في الكنائس المسيحية عن صحّة أيّ قرارٍ حربيّ محتمل، طالما أنّه إلهيّ! 

أرجو منكم أن تعذروني، سيدي رئيس الولايات المتحدة، لأنني لم أشأ أن أوجّه لكم رسالةً ثالثة. إذ كان سيصعب عليّ تحليل هذا الموضوع عبر هذا الطريق. ربما كان سيبدو إهانةً شخصية. مهما كان الأمر، فإنني ألتزم بقواعد اللياقة الأدبية. 

تحيةً لك قيصر – وهذه المرة أضيف – منّا نحن الجاهزين للموت، نحن الذين لا نخشى قدرتك الهائلة، وغضبك الذي لا يمكن لجمه، وتهديداتك الحربية الخطيرة والجبانة ضدّ كوبا!

لتعش الحقيقة!

 

لتعش الكرامة الإنسانية!

معلومات إضافية

العدد رقم:
227
آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2016 14:31