باتريك سيل باتريك سيل

أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان

على رغم تفاقم الكارثة اللبنانية الحالية, اتفق كل من الرئيس بوش وحليفه البريطاني توني بلير على منح إسرائيل مهلة حتى نهاية الشهر الجاري على الأقل, كي تنجز أهدافها المعلنة لهذه الحرب. ورفض كلاهما كافة النداءات الدولية الداعية إلى وقف فوري لإطلاق النار بين الطرفين, سواء تلك الصادرة من كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة, أم من القادة الأوروبيين والعرب, أم تلك التي عبر عنها السخط الشعبي العام الذي ساد الرأي العام العالمي. والفكرة السائدة في كل من واشنطن ولندن هي أن أي وقف فوري لإطلاق النار سيكون سابقاً لأوانه.

وقد عبر عن هذه الفكرة "توني سنو" السكرتير الإعلامي للرئيس بوش بعباراته النارية الغاضبة: "ليس لأحد أن يتوقع من الولايات المتحدة أن تتدخل وترفع راية وقف إطلاق النار". هذا ومن المقرر أن يلتقي كل من بوش وبلير في الثامن والعشرين من الشهر الجاري (تموز) في البيت الأبيض, لتقييم الوضع واتخاذ موقف مشترك حياله. وفي الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل دمارها المنظم للبنان, تجري كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية الآن زيارة للمنطقة ضمن مسعى دبلوماسي يهدف إلى تعزيز المصالح الإسرائيلية على حساب التجاهل التام لمصالح العرب.

بيد أن في مجرد التفكير في زيارة كهذه في الظروف الراهنة, إنما تخاطر "رايس" مخاطرة كبيرة بخطوتها هذه. ذلك أن مراجل الغضب الشعبي العربي من سياسات واشنطن إزاء المنطقة, وموقفها الراهن من الحرب اللبنانية تشعل في أوساط الجماهير رغبة لا تقاوم في الإفصاح عن الاستياء منها لو رأوها في بلادهم. ثم إن زيارتها هذه تواجه على الأرجح خيبة سياسية شبه محققة. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية, لم يسبق مطلقاً لواشنطن أن انحازت قدر انحيازها هذين اليومين لصف إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت لم يسبق لها أن بدت بكل هذا البعد والسلبية التي هي عليهما الآن في وجهة نظر الرأي العام العربي الإسلامي. وبالقدر ذاته لم يسبق لواشنطن أن عجزت هذا العجز وتمنعت تمنعها الحالي عن التصدي لأعقد مشكلات المنطقة وأهمها كما نرى اليوم.

وبعد فإن علينا أن نتساءل عن أبعاد وأهداف هذه الحرب الإسرائيلية الدائرة على لبنان، وعن سر مساندة الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل, لنتساءل بعد ذلك عن مدى وآفاق النجاح الممكنة لهذين الحليفين في الحرب؟ ولكي لا نسرف في التحليل, فإن الهدف المباشر المعلن لإسرائيل من حربها هذه, يتمثل في تدمير حركة المقاومة اللبنانية التي يرمز إليها "حزب الله", وقتل حسن نصر الله زعيم الحزب. وفيما لو بدا متعذراً ومستحيلاً إلحاق دمار شامل بـ"حزب الله", فليكن الهدف إذن تجريده من أسلحته على أقل تقدير, إلى جانب إرغامه على الخروج ومغادرة معاقله الحالية في الجنوب اللبناني, مع إحلال قوات دولية محله بالتعاون مع قوات وطنية لبنانية, بغية إنشاء "منطقة أمنية" جديدة في الشريط الحدودي من شمال إسرائيل. لكن وفيما وراء هذه الأهداف المعلنة, توجد أجندة أخرى أبعد وأكثر طموحاً, ترمي إلى إعادة ترسيم الخريطة السياسية اللبنانية, بحيث تتسلم مقاليد السلطة والحكم في بيروت حكومة هزيلة لا تتردد في إبرام صفقة سلام منفردة مع إسرائيل, تحت رعاية ومباركة أميركية. ولنا أن نعبر عن هذا الهدف بالقول إن القصد منه هو تنصيب حكومة لبنانية طيعة خنوعة تقبع تحت إبط إسرائيل ونفوذها المهيمن.

وقد كان ذلك هو الهدف عينه وراء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وما من شيء غيره يفسر كل هذا الدمار الشامل والمنظم الذي تلحقه آلة الحرب الإسرائيلية الفتاكة بالبنية التحتية اللبنانية اليوم. وبالنتيجة فإننا نشهد الآن مسعى إسرائيلياً بدعم واشنطن ومباركتها, يرمي إلى كسر شوكة المقاومة اللبنانية والقضاء عليها تماماً. وفي الوقت ذاته يجري أمر مماثل في الجبهة الفلسطينية, حيث تعمل تل أبيب– وبتأييد واشنطن ومباركتها أيضاً- على سحق وكسر شوكة المقاومة الفلسطينية, ممثلة في حركة "حماس". والهدف الذي ترمي إليه إسرائيل وراء تدميرها للبنية التحتية الفلسطينية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية, إنما هو تنصيب إدارة فلسطينية خنوعة مهزومة وعلى استعداد لقبول الشروط الأحادية الجانب التي تمليها عليها إسرائيل لحل النزاع الأزلي. وفي الجبهتين الفلسطينية واللبنانية كلتيهما فإن المرجح ألا تقبل تل أبيب بأية مفاوضات ريثما تتسنى لها الهيمنة المطلقة على حل النزاع وفق رؤيتها ومنظورها الخاص.

وفوق ذلك كله, فإن هناك هدفاً آخر إضافياً وراء هذه العمليات العسكرية الجارية في قطاع غزة ولبنان, مرماه إضعاف كل من سورية وإيران, بصفتهما القوتين الوحيدتين المحليتين الثابتتين في دعمهما المنتظم لحركة "حماس" و"حزب الله", علاوة على استمرارهما في مناهضة الهيمنة الأميركية- الإسرائيلية على المنطقة.

ولعل من الطبيعي أن نتوقع دفاع هاتين الدولتين الإقليميتين عن مصالحهما في وجه كل من تل أبيب وواشنطن. وفي مقدمة هذه المصالح الوطنية, استبعاد سورية السماح لتل أبيب وواشنطن بتوطيد قدميهما في لبنان, بكل ما تمثله خطوة كهذه من خطر مباشر على الأمن السوري. وفي المقابل فإنه ليس متوقعاً أن تتخلى طهران بكل هذه السهولة عن دورها في حماية الكيان الشيعي في لبنان, والدفاع عنه أمام الهجمة الإسرائيلية الشرسة التي يتعرض لها الآن. وعليه وفيما لو كان في نية طهران من الأصل تطوير أسلحتها النووية أم لا, فإن من غير المشكوك فيه حالياً, أن تسعى لمضاعفة الجهود التي تمكنها من تطوير ترسانتها النووية, أملاً في ردع إسرائيل وحليفتها أميركا, ووقفهما معاً عن أي اعتداءات مماثلة, وبما يتفق وإنشاء نظام إقليمي جديد لحفظ توازن القوى في المنطقة.

وفي معرض دهشة مؤرخي المستقبل إزاء هذه التطورات الدرامية للأحداث في منطقة الشرق الأوسط, ربما خلص هؤلاء إلى استنتاج مفاده أن واشنطن قد فقدت صوابها, إثر هجمات 11/9 التي تعرضت لها. وبالنتيجة فقد أصيبت بهلوسة وهوس "الخطر الإرهابي" ولوثة الثأر والانتقام, ما دفعها إلى سحل العراق, وحث حليفتها الإسرائيلية على سحل لبنان وفلسطين, وفق مخطط انتهز فيه مستشارو بوش الموالون لإسرائيل الفرصة الذهبية السانحة, بحيث يتم تعزيز الهوية والمصالح الأميركية-الإسرائيلية وحدها, على حساب هوية ومصالح دول المنطقة وشعوبها. بيد أن هذا الدمار الذي لا عمار له, الذي لحق بثلاث دول عربية حتى الآن, سيظل يطارد واشنطن وتل أبيب على امتداد عدة سنوات قادمة. وبغرسهما لبذرة الفوضى والعنف في المنطقة بل ودولياً, فإنهما لا شك ستحصدان ثمار المقاومة والتطرف والإرهاب والمزيد المزيد من الموت وحمامات الدماء, حين تستبد بالضحايا رغبة الثأر والانتقام الجامحة. فمن يزرع الريح لا يجني سوى العاصفة.

والملاحظ أن كوندوليزا رايس قد دعت إلى عقد مؤتمر دولي حول لبنان. بيد أن رؤيتها لهذا المؤتمر, تبدو قاصرة على حماية المصالح الإسرائيلية وحدها, مقابل تجاهل وسحق مصالح أعدائها. وعليه فإن الجهد الذي لا يزال على "رايس" أن تبذله حقاً, هو إقناع رئيسها بوش بإطالة نظره وتغييره مواقفه, بحيث لا يظل حبيس هاجس محاربة "الإرهاب" وحده, وإنما يسعى للتصدي لجذوره ومنابته. ولعل المطلب الأكثر إلحاحاً اليوم, هو عقد مؤتمر سلام دولي, تحت رعاية الأمم المتحدة, حول قضايا المنطقة المزمنة والمستعصية جميعها, بما فيها التطورات الأخيرة في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية.