خدعة جنيف بين المكان والزمان خدعة المكان

 ارتبط اسم سويسرا وخاصة عاصمتها السياحية جنيف خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها بالحياد والإنصاف والعدل.

والحقيقة هي أن سويسرا وجنيف بالذات هي أبعد ما تكون عن الحياد والعدل المزعومين فالجميع يعرفون أن سويسرا هي جزء من النظام الرأسمالي العالمي وتتركز فيها أكبر البنوك العالمية التي يسيطر عليها المصرفيون اليهود. مثل بنك ups (اتحاد البنوك السويسرية) وبنك كريدت أوف سويسرا فرع آل روتشيلد في سويسرا (من العشرة الأوائل) والجميع يعرفون أن سويسرا تعتمد في اقتصادها على الأعمال البنكية والمصرفية بالدرجة الأولى ثم السياحية وأخيراً الصناعية.

وفي هذا البلد يتم تصنيع كثير من المعدات الحربية التي تدخل في صناعة الأجهزة الحربية التي تصدر بصورة خاصة إلى إسرائيل مثل الأقنعة الواقية والبنادق القناصة التي يتم بها قتل العرب والفلسطينيين. ومالا يعرفه الكثير من الناس أن سويسرا تعتبر أكثر البلدان الأوروبية استيراداً للمواد الزراعية والفواكه المنتجة داخل إسرائيل والتي تباع فيها بأعلى الأسعار حيث تؤمن لإسرائيل أكبر مدخول مالي باعتبار أن مستوى المعيشة المرتفع في سويسرا يؤمن أموالاً طائلة لإسرائيل (حيث يعتبر متوسط دخل الفرد الواحد شهرياً ثلاثة آلاف دولار أي ضعف ماهو عليه في بقية البلدان الرأسمالية مما يجعل من المتعذر على أي إنسان غير سويسري أن يقيم في سويسرا إلا إذا كان من أصحاب الملايين والمليارات).

وهذا ما يتيح لسويسرا استضافة كبار مليارديرية العالم وبخاصة أثرياء العرب والمسلمين لوضع أموالهم في بنوكها أو للاصطياف والسياحة مما يجعل اقتصادها قوياً.

والحقيقة أن اقتصاد سويسرا هذا البلد الصغير الذي لايتجاوز عدد سكانه ستة ملايين نسمة والذي يتمتع بدخل مرتفع يقوم على وهم وخرافة إذ يستطيع أصحاب رؤوس الأموال اليهود إذا ما قرروا سحب رؤوس أموالهم أن يعيدوه إلى مستوى النمور الآسيوية المنهارة.

والحقيقة التي لايعرفها الكثير من الكتاب أن أكبر المراكز التجارية في سويسرا مثل اتحاد التعاونيات السويسرية coop وفيجروس وغيرهما خاضعة لغرفة التجارة الإسرائيلية السويسرية.

إن صفة الحياد الكاذبة تتيح للإعلاميين والسياسيين والجواسيس والمصرفيين الصهاينة العمل على جميع الأطراف (الاشتراكيين والرأسماليين والمحايدين) وجميع أنواع المرتزقة واللصوص والهاربين من دولهم.

ومالا يعرفه الكثيرون أنه على الرغم من أن عدد اليهود في سويسرا لا يزيد عن 4% من عدد السكان إلا أن اليهود الصهاينة يسيطرون على أهم مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية لدرجة أن أحد رؤوساء الاتحاد السويسري كانت امرأة يهودية اسمها روث دريفوس (حفيدة دريفوس) بعد أن أزيح الرئيس باسكال كوشبان قبل أن تنتهي ولايته الرسمية بسبب أنه قال: «أن إسرائيل قامت وتقوم بابتزاز السويسريين عندما فرضت عليهم دفع مليار دولار كتعويض عن أملاك اليهود الذين هم من أصل ألماني» إبان الحرب العالمية الثانية وأن الأب بيير وهو معادل للأم تيريزا قد أقيل من منصبه لأنه وجه انتقادات لإسرائيل.

ومالا يعرفه الكثيرون، تفرض سويسرا غرامة مالية كبيرة على كل من يشير إلى اليهود أو الصهاينة أو إسرائيل بسوء حيث فرض على صاحب إحدى المكتبات التي عرضت (مجرد عرض) في واجهتها كتاب روجيه غارودي «الأساطير المؤسسة للصهيونية» غرامة مالية كبيرة جعلته يعلن إفلاسه ويغلق المكتبة.

وهذا يجعل من المستحيل على أي عربي أو مؤيد للعرب أن ينشر أي كتاب أو مقال وأن يقيم أي مركز إعلامي لصالح القضية الفلسطينية. ولقد وجدت الصهيونية في سويسرا بلداً ملائماً تماماً لتمرير اتفاقيات كثيرة مثل اتفاقية لوزان وجنيف بسبب سمعتها كبلد محايد لأنها لم تشترك في أية أحلاف عسكرية شرقية أو غربية ولهذا وجدت الصهيونية فيها المكان الملائم لإقامة كثير من المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة بعد أن كانت مركزاً لعصبة الأمم المتحدة سيئة الذكر ولهذا السبب أيضاً شكلت سويسرا أرضاً مناسبة لعقد كثير من اللقاءات المتعلقة بأسرى الحرب واللاجئين (اتفاقية جنيف الرابعة) واتفاقية جنيف بين الأمريكيين والفيتناميين.

والحقيقة أن سويسرا لم تنصف أحداً في العالم بقدر ما أنصفت الصهاينة حيث قدمت هذه الحكومة لإسرائيل مليار دولار كتعويضات نتيجة لضياع أملاك بعض اليهود السويسريين من أصل ألماني تستطيع المحاكم السويسرية أن تنصف الصهاينة بكل جرأة لكنها تأبى على نفسها إنصاف الفلسطينيين ولو بالكلام مع أن اتفاقية جنيف الرابعة تتيح المجال لحكومتها أن تنصف ملايين الفلسطينيين الذين قامت إسرائيل بطردهم من بيوتهم وأراضيهم بالقوة. بعد أن دمرت قراهم وبلدانهم كما أن اتفاقية جنيف الرابعة تقر بحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم إلا أنه لم يصدر عنها أي قرار يدين إسرائيل لرفضها إعادة أي فلسطيني واحد إلى بلاده.

والملفت للنظر أن الموقعين على وثيقة جنيف بعد أن داروا العالم كله برلين ـ مدريد ـ أوسلو ـ لندن ـ موسكو ـ لم يجدوا غير جنيف سويسرا مكاناً مناسباً للتوقيع على هذه الاتفاقية التي تنهي الصراع العربي الصهيوني لمصلحة إسرائيل باحتفال مهيب ليعطوا انطباعاً عن حيادية وموضوعية وعدل تلك الوثيقة. وهو ما يشير أيضاً إلى أن كثيراً من الدول والعواصم المذكورة عندما رفضت أن يكون المؤتمر التأسيسي للحركة الصهيونية على أرضها رفضت أيضاً أن تكون الوثيقة أو الاتفاق الذي يتيح للصهاينة الهيمنة على المنطقة والعالم مرتبطاً باسمها. وهذا يؤكد أن بعض الدول تعتبر الوثيقة جريمة وإثماً تأبى أن ترتبط باسمها كي لا تدان في المستقبل من قبل شعوبها أو من قبل أحرار العالم.

والحقيقة أن بعض المتنفذين لم يعودوا يخشون أن يقال إنهم عملاء أو خونة لشعوبهم وبلدانهم حيث يتعاونون مع أعداء شعبهم علناً والبعض يجاهر في محطتي الجزيرة والعربية بأنه يفضل أن يتعاون مع ساسة لندن وواشنطن وإسرائيل من أن يتعاون مع الشيوعية أو سورية أو إيران أو مع حزب الله.

الوثيقة بين الماضي والمستقبل

(خدعة الزمان)

لو هيئ لأحد من العرب سواء أكانوا بين القادة أو النخبة المثقفة أو من عامة الناس المغمورين عام 1897 أن يعلم أن أول مؤتمر تأسيسي عقد في بال في سويسرا من أجل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين فإنه لا شك سوف يضحك من كل قلبه لمثل هذه الدعوة الخيالية، ومما لاشك فيه أن الكثيرين رأوا أن مجرد طرح فكرة أن يكون لليهود وطن قومي في فلسطين في ذلك الوقت هو نوع من الطموح الجامح السخيف الذي لم يكن يجد في الواقع العربي ما يسنده.

لذلك كان المؤتمر في نظر الكثيرين ليس أكثر من هراء.

إلا أن ذلك الهراء الذي بدأ في بال بسويسرا عام 1897 وجد استجابة سريعة لدى بريطانيا عام 1917 (أي بعد عشرين عاماً) فأصدرت وعداً تعطف فيه على إقامة مثل هذا الوطن القومي لليهود (وعد بلفور). ومع أن ذلك الوعد الهراء لم يثر وقتها إلا ضحك الساسة العرب ومنظريهم وسخريتهم إلا أنه تحول بعد ثلاثين عاماً (في عام 1947) إلى قرار دولي يقضي بتقسيم فلسطين من أجل زرع ذلك الوطن في أرض العرب وبعد أربعين عاماً أي في عام 1987 وجد ذلك الوطن القومي لليهود لدى نفر من الفلسطينيين أو ممن يزعمون أنهم فلسطينيون أو ممن يزعمون أنهم يمثلون الفلسطينيين والمجتمعون في ما يسمى بالمجلس الوطني في الجزائر من يقر أن تكون 78% من أرض فلسطين ملكاً خالصاً للصهاينة لا تشوبه نقيصة.

وهكذا تحول هذا الهراء بعد ثمانين سنة إلى دولة معترف بها على أرض فلسطين من قبل من يزعمون أنهم فلسطينيون وكانوا يهزئون بكل ما تمخض عنه مؤتمر بال سويسرا مما يعني أن ما نعتبره اليوم هراء تم في جنيف قد يصبح بعد عشرين عاماً حقيقة راسخة تختم المنطقة بختم الصهيونية.

 

■ فتحي رشيد