عبدالعال الباقوري / كاتب وصحفي مصري عبدالعال الباقوري / كاتب وصحفي مصري

نبيل الهلالي «حيا وميتا» يرد علي أعداء الشيوعيين !!

رحل نبيل الهلالي. إذن دهت مصر دهياءُ، حسب تعبير الأخطل الصغير فيما أذكر في رثاء سعد زغلول. مات نبيل، وأنطوي عَلَمُُ. دمع غزير. ونقطة ثقيلة ومن أول السطر..

والسطر طويل، ممتد من " أسيوط " في صعيد مصر إلي القاهرة. وأسيوط مدينته – مدينتي. عند مدخلها من الجنوب، وبعد مبني مديرية الأمن التي شهدت أحداثاً دامية بعد اغتيال الرئيس السادات في أكتوبر- تشرين الأول 1981، عند هذا المدخل يطالعك واحد من أكبر شوارع المدينة: شارع الهلالي. كنت فيه قبل أسابيع معدودة. ومن قبل رأيت القصر، قصر الباشا، الهلالي، والد نبيل، وآخر رئيس وزراء لمصر عشية ثورة يوليو التي هبت مع قيامها رياح التغيير على مصر، على القاهرة وأسيوط، وعلى قريتي التي تبعد 20 كيلو مترا جنوبا من المدينة. وما بين القرية والمدينة، وما بين المدرسة والكتاب وقراءة المصحف وفك الخط في دنيا السياسة، سمعت اسمه: أحمد نبيل الهلالي. حيث لقيته بعد ذلك بزمن غير قصير بدا لي أني أعرفه منذ زمن طويل ..

شهادة واجبة.. ولكنها لا تكفي

الآن وهنا لن أحكي. ولن أبكي. أكتفي بأن أقلب صفحات من فكره السياسي الذي كم كنت أتمني لو أنه أعطاه وقتاً أطول. فلو تفرغ لمثل هذه المهمة، لو اهتم بها لقدم الكثير.. أعني أكثر مما فعل، لأنه أعطى وقدم الكثير وآثر علي نفسه كثيرين. هذه قصة أخرى. وهناك كثيرون أقدر مني علي روايتها وتأريخها. وأتمنى ألا يتأخروا ولا يؤجلوا .. فالشهادة واجبة. وآثم من يخفيها أو ينكرها..  

أبدأ رواية الكتابة والفكر من لقاء في جنازة أخري قبل شهور فقط.. جنازة الراحل محمد سيد أحمد وكان أيضاً مفكراً من طراز خاص، ولكن العمل السياسي والممارسة السياسية لم يأخذاه بعيداً عن الكتابة السياسية. في هذه الجنازة جلس أحمد نبيل الهلالي بجوار الأستاذ محمد حسنين هيكل، وعلى مقربة منهما جلست. بعدئذ روى الهلالي للصديق الدكتور إيمان يحيى أن هذا أول لقاء له مع هيكل منذ 1954..

هل هي مصادفة أن الأستاذ في  «سيرة صحفي ومسيرة وطن» التي يمتعنا بها عبر «قناة الجزيرة» تحدث في حلقة يوم الخميس الماضي عن نبيل الهلالي ووصفة بأنه من أفضل الناس؟.. لكن المصادفة تأتي من أن هذه الحلقات تسجل مقدماً، وربما تكون هذه الحلقة قد سجلت قبل رحيل نبيل الهلالي، فجر يوم الأحد 18 يونيو – حزيران الحالي. ويغلب علي الظن أن الهلالي لو كان بيننا لما تأخر في الرد على بعض ما ورد في حديث «الأستاذ» هيكل. خاصة وأن ردوده جاهزة، ومتاحة  كتباً وندوات. وأحد هذه الكتب عبارة عن دفاع قانوني – سياسي- فكري في قضية كان فيها نبيل الهلالي المتهم الأول، قضية الحزب الشيوعي المصري في 1979، والتي تحمل اسم الجناية رقم 632 محكمة أمن الدولة – مصر. وقد صدر هذا الدفاع في كتاب عن دار «الفارابي» اللبنانية في 1986 بعنوان: مرافعة أحمد نبيل الهلالي. الكتاب قطعة من الأدب السياسي الرفيع ومن العلم القانوني العميق ولا توجد فقرة فيه إلا وحدد المرجع الذي استند إليه، فكيف أتيح له هذا وهو وراء الأسوار؟! وهناك كتاب آخر سأذكره حين أنتقل أليه.

الوطنية والأممية.. الوحدة الجدلية

ولكن ما علاقة هذا بالأستاذ هيكل؟ .. في حديثة مساء الخميس الماضي والذي أعيدت إذاعته ظهر اليوم التالي، وفجر السبت، تحدث الأستاذ هيكل عن علاقة الحركة الشيوعية في مصر بولادة نظام ثورة يوليو. وقال في حديثة (هنا يتم النقل والاقتباس من نص الحلقة الذي نشرته صحيفة «العربي» يوم الأحد الماضي ) كلاماً كثيراً كان يمكن أن يرد عليه الهلالي تفصيلاً .. ونقف عند فقرتين من كلام الأستاذ ورد الهلالي علي كل منهما. الفقرة الأولى هي قول هيكل: إن الشيوعيين لديهم مشكلة مع الوطنية... لدى الشيوعيين تصور لدولة شيوعية .. أممية دولية  يقودها الاتحاد السوفيتي دولة الاشتراكية الأولى في العالم . إن هذا هو مفهوم مخالف للوطنية. ففي ذلك الوقت ( أي 1952 وما بعدها ) والآن، وحتى زمن بعيد جداً سوف تظل الوطنية هي العامل الأكبر

هل يعني هذا تجريد الشيوعيين من وطنيتهم؟. لو أن الأمر كذلك فإن الرد جاهز في مرافعة الهلالي التي جاء فيها تحت عنوان «الوطنية والأممية» مايلي:

«استهلت النيابة مرافعتها بأن قالت:

الوطنية لا مكان لها في قاموس الشيوعية.. التي لا تعترف إلا بالعالمية والعالم الواحد.. ولو أن النيابة.. أجهدت نفسها قليلاً.. واستقت معلوماتها من المنابع الأصلية للفكر الماركسي وما أكثرها في مخازن النيابة.. وأقبية المباحث.. لما قالت.. ما قالت.. فالأممية - بالمفهوم الماركسي اللينيني، - ليست نفياً للوطنية.. ولا نبذاً للوطنية. ولا إنكارا للوطنية .. ولا نقصاً للوطنية، بل الأممية والوطنية – بالمفهوم الماركسي اللينيني- يشكلان فيما بينهما وحدة جدلية، كل منهما .. تشترط الأخرى.. وتنطلق من الأخرى .. وتستند إلى الأخرى .. وتكمل الأخرى .. ولذلك تؤكد الأدبيات الماركسية أنه ليكون المرء أممياً حقاً ً..لا بد أن يكون وطنياً حقاً . والعكس بالعكس».

الشيوعيون.. الوطنية تكتب بالدم!

وبعد استشهادات واقتباسات موثقة، يعود الهلالي إلى فضح ادعاءات النيابة فيقول «ليت النيابة اكتفت بالجدل النظري حول الأممية والوطنية ولو أنها فعلت لهان الأمر بعض الشيء، لكن النيابة أصدرت حكماً بإدانة الشيوعيين المصريين صاغته في سؤال أعقبه استنتاج.

وقالت:

(ماذا قدمتم من عطاء لمصر وللكادحين سوى التآمر والخيانة..)

(لم يبق للشيوعيين في بلادنا إلا أن يكونوا عملاء..)

ولا يجوز أن يظل السؤال - المتعدي.. المعتدي، هو نصيحة أسوقها للنيابة:

- من يجهل تاريخ وطنه وشعبه..؟

- من يغفل أو يتغافل عن ماضي المناضلين وتضحياتهم..؟

- مرفوض منه مرفوض.. التصدي لتقييم حاضرهم..

- إن المحك الحقيقي لصدق وأصالة وطنية أي مواطن

.. أو جماعة أو حزب.. هو الموقف والمسلك والعطاء.. في لحظات الشدائد والمحن.. التي تحدق بالوطن..

لذلك أقول للنيابة: لا تتوجهي بسؤالك إلينا.. بل اسألي كوبري عباس.. فقد ذاق يوماً طعم دماء الشيوعيين المختلطة بدماء سائر الوطنيين.. يوم ذهب الشعب ضد تفريط حكومات الأقلية في القضية الوطنية ..

واسألي ميدان (الإسماعيلية) «التحرير حالياً» فقد سقته يوماً دماء الشيوعيين وسائر الوطنيين أمام ثكنات قصر النيل.

لقد سطر الشيوعيون المصريون شهادة ولائهم لوطنهم بدمائهم، بأرواح شهدائهم.. وهي شهادة حفرت علي صفحات التاريخ.. وسجلت في كتب التاريخ.. وما من أحد بقادر علي طمس التاريخ.. أو تزييف التاريخ».

 والدفاع طويل وعميق . ويكفي من القلادة ما يحيط بالعنق .. لننتقل إلي جزء آخر في «حديث الخميس» حيث قال الأستاذ هيكل أيضاً: كانت لدى الشيوعيين تلك المشكلة -الأممية-  التابعة للاتحاد السوفيتي.. صحيح أن الحديث عن أوائل الخمسينيات، ولكن الاتهام بالتبعية للاتحاد السوفيتي لم يتوقف يوماً، ربما منذ قيام الاتحاد السوفيتي إلي يوم سقوطه.

اكتشافات مبكرة.. وخطيرة

ولكن نبيل الهلالي بمواقف علنية معروفة يبطل هذا الاتهام.. ومن ذلك مثلاً ما قاله في ندوة عقدت في القاهرة ما بين 9/11 يناير  كانون الثاني 1991 وصدرت في كتاب بعنوان «اليسار وتحولات الدول الاشتراكية» في 1992. ودون استعراض أسماء المشاركين في الندوة، فإن الهلالي في تعليقه على بعض الأوراق لاحظ نبرة تأييد لما كان يسمي عندئذ «التفكير الجديد في الاتحاد السوفيتى» فوقف يرد على ذلك ويتفقد هذا التفكير وبحدة، قال كلاماً طويلاً وعريضاً وشجاعاً تكفي منه لمحات رد فيها علي أفكار وردت في ورقة زميل آخر.. قال الهلالي:

«أول نقطة خلاف مع الورقة، هي أنها تتعامل مع التفكير السياسي الجديد (بالجملة) إذ تعلن: أن الرأي العام العالمي الذي يصبو إلى السلام ويرفض الحرب يؤيد سياسة جورباتشوف التي تقوم علي التفكير السياسي الجديد.

وهذا افتراض خاطئ وخطير ولا يجوز لنا - خاصة في العالم الثالث - المصادقة على كل ما يطرح باسم التفكير السياسي الجديد، بل علينا أن ندرس وأن نحدد الموقف الموضوعي النقدي المتحرر من أية ذيلية أيديولوجية. ومن تبسيط الأمور أن نطلق حكما إجماليا بالمعارضة أو التأييد علي مختلف محاور التفكير السياسي الجديد. فبعض جوانب هذا التفكير قد تكون مبررة ومقبولة في العلاقات بين الدول المتكافئة في قدراتها، وقد أسهمت فعلا في كسر حدة التوتر الدولي بين الدولتين العظميين، لكن محاولة سحب بعض مقولات التفكير السياسي الجديد على العلاقات بين البلدان الإمبريالية وبلدان العالم الثالث وحركات التحرر مرفوض.

ومحاولة إخضاع نضالات التحرر الوطني عامة وصراع الشعوب العربية ضد الصهيونية خاصة لبعض مقولات التفكير السياسي الجديد يلحق أفدح الضرر بهذا النضال وبمصالح الشعوب وأمنها ، وبالتالي بقضية السلام ومصالح البشرية»!!

الصراع العربي الإسرائيلي وجدوى التفاوض

ويضع الهلالي نقطة كبيرة علي حرف نقده للأفكار السوفيتية عندئذ وقبل الرحيل، رحيل الاتحاد السوفييتي نفسه، ويقول:

«كيف نتجاهل دعوة شفر نادزه (وزير خارجية الاتحاد السوفيتي عندئذ) للتخلص عن صورة العدو؟ رغم أن العدو الصهيوني لا يستمد صورة العدو من رغباتنا الذاتية أو من عقدنا النفسية كما كان السادات يدعي، وإنما يستمد هذه الصورة من طبيعته العدوانية.

على أية حال، حتي فكرة المؤتمر الدولي وجدواها محتاجه لإعادة نظر، لأنه إذا شارك الاتحاد السوفيتي في مؤتمر دولي علي أرضية التفكير السياسي الجديد، فهل يمكن أن يتوصل المؤتمر حقاً إلي تسوية عادلة؟ وبدل مطالبة العرب بالتخلي عن صورة العدو أليس الأوجب مطالبة العدو بالتخلي عن صفة العدو؟!

- مبدأ توازن المصالح بدلا من توازن القوي.. كيف يمكن أن ينطبق على الصراع العربي – الإسرائيلي؟

- كيف يمكن تحقيق توازن المصالح بين كيان استعماري استيطاني توسعي لنفي الوجود الفلسطيني علي أرض فلسطين، وبين شعب تغتصب أرضه من دياره؟

- ثم ما المقصود باحترام مصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ؟ يقول جورباتشوف في كتابة: من الضروري التوصل إلي قاسم مشترك بين مصالح العرب وإسرائيل وجاراتها والدول الأخرى مع أخذ مصالح كافة الإطراف في الاعتبار!!

كما يؤكد أن التسوية لا يجب أن تمس مصالح الولايات المتحدة والغرب في المنطقة، وأن الاتحاد السوفيتي ( لا يرمي إلى دفع  الولايات المتحدة خارج الشرق الأوسط )..

وأتساءل: أية مصالح تلك التي للإمبريالية الأمريكية في منطقتنا والتي يجب أن تصان؟ ألن يكون الاعتراف بهذه المصالح على حساب استقلال وسيادة الشعوب العربية وحقها المشروع في ثرواتها الطبيعية؟

ثم ما تأثير تخليص العلاقات الدولية من الاعتبارات الإيديولوجية على الموقف السوفيتى من الصهيونية كأيديولوجية عنصرية ومن قرار الأمم المتحدة بإدانة الصهيونية»!! 

كان هذا نقدا صريحاً بل وجاداً لسياسة الاتحاد السوفيتي في ظل جورباتشوف وتفكيره الجديد، فهل يجوز في مواجهة مثل هذا النقد - وغيره كثير - الحديث عن تبعية للاتحاد السوفيتى؟.

رحم الله نبيل الهلالي .. كان يسارياً مصرياً وعربياً من طراز خاص. وكتاباته المتناثرة ودفاعاته في ساحات القضاء كانت خير دفاع مجيد عن الخالدين: الشعب والوطن، وقد كان مخلصاً لهما دون حدود.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.