على هامش الإعلانات والبيانات والاعتقالات ما علاقة السمسار بالزّمار؟

بالإذن من الرئيس سليم الحص الذي أحب وأجلّ، لست مفجوعا على اعتقال ميشيل كيلو وزملائه، ولكنني بالتأكيد حزين على تورطه وتورطهم بما أدى إلى توقيفهم. وأتمنى وأدعو للإفراج الفوري عنهم لأنني أتطلع إلى اليوم الذي يتم فيه إلغاء الاعتقال السياسي من قاموس التداول الرسمي وفي كل الظروف، وتبييض كل السجون العربية وغير العربية من المعتقلين السياسيين كلهم حتى ولو التبس الأمر أحيانا لوجود قوانين حكومية يفترض مراجعتها أو إلغاؤها لأنها فرضت في ظروف طارئة... ولكنها تؤدي إلى عدم التفريق بين حرية الرأي والتعبير التي يتوجب أن تكون مكفولة في دستور كل دولة، وبين حرية التعاطي والتساوق المخفي أو المعلن مع مشاريع تهدد أمن الوطن والمواطن وتستوجب المحاسبة والعقاب.

نعم حزين على ميشيل كيلو وأقرانه لقناعتي بأنه قبل أن يكون ضحية لعسف وتشدد قبضة الأجهزة الأمنية، في ظل غياب أي مناخ للثقة والحوار بين السلطة والمعارضة الوطنية غير المرتبطة أو الراغبة في الاعتماد على الخارج، هو ضحية أوهامه ونفاذ صبره واندفاعاته التي تحجب أحيانا معالم الرؤية الوطنية التي تخدم قضية الإصلاح والتغيير الديمقراطي الذي ينشده، فيسهل عليه إطلاق الأحكام المتسرعة والمسبقة حيال بعض القضايا أو الأشخاص، بشكل يسيء إلى الأهداف الوطنية النبيلة التي أشاطره ويشاطره كثيرون السعي إليها، وإن كنت وآخرين لا نتفق مع وسائله أو بعض أطروحاته، فلا فرق كبير لدي بين من يرغب في الاستقواء بالخارج الأميركي أو الخارج الأوروبي، فالذي يزعق منددا بالتمويل بالدولار الأميركي - عساه يحظى بصك البراءة - لا يغفر له قبوله أو استجداؤه للدعم والتمويل باليورو.

وأحد الأمثلة البارزة على التسرع وضيق الأفق وانعدام التوازن، ما ساقه ميشيل كيلو من اتهام غريب يكشف عورات منطقه، عندما انبرى دون مسوّغ وبدون مناسبة لشن هجوم على ما وصفهم بقوميي أميركا العرب يتهمهم بالعمالة للمخابرات المركزية الأميركية - (والمقصود هنا أعضاء المؤتمر القومي العربي المقيمين في الولايات المتحدة وأنا منهم – في سجالهم الهادئ والمنطقي مع بعض أعضاء المؤتمر القومي من الموقعين على إعلان دمشق). ولا حاجة هنا لاستحضار الرسائل المتبادلة، فالمتابعون يذكرون تداولها العلني في حينه، وكيف استقبلت بالاهتمام والترحيب لأنها ساهمت في إضفاء الحيوية على جدال وحوار كان ضروريا وبناءا، عمّق الفائدة الفكرية والسياسية وأدى إلى تعديلات وتوضيحات للمواقف والمواقع، وسلّط الأضواء على مسائل جوهرية.

كان ملفتا أن يقحم ميشيل نفسه ومن منبر "القدس العربي" بعد انقضاء 3 شهور على الحوار الذي لم يكن "بريد القوميين العرب في أميركا" موجها إليه أصلا، ولكنه في اتهامه الأرعن فضح عجزه عن المساجلة الفكرية الجادة والبعيدة عن الاتهامات الشخصية والشتائم تعبيرا عن إفلاس حجته التي طالما كان قادرا على خداع الآخرين بسترها خلف تنميق العبارات الرشيقة في مقالاته المنتشرة كالفطر، والتي يجتر فيها المقولات نفسها مع إعادة التوضيب، مقولات لا يحلم أصحابها بأبعد من "البلاغ رقم 1" ولكن بلغة غير عربية.

وهكذا أضحى ميشيل أسيرا للكوابيس "القومية" القادمة من أميركا يصارع أشباحها المتخيلة له وراء كل نقد موضوعي لأطروحاته أو أطروحات أقرانه في الإعلانات (ربما المدفوعة الأجر) فيوغل في هلوساته.

ويبدو أنه استساغ أن تتوفر له بعض المنابر الإعلامية اللبنانية الموتورة حقدا وعنصرية على شعبه السوري وأمته العربية ليبث الغث والسمين على متن صفحاتها، وما أكثر الغث المسموح به إذا كان يتفق مع الأجندات العنصرية والطائفية المعادية للعرب والعروبة وسورية في لبنان، كل ذلك تحت شعار حرية الرأي والتعبير ومحاربة أنظمة "الاستبداد القومية" وحرية الصحافة التي تتحول إلى حفلة شتيمة وإهانة عنصرية للمقاومة والعروبة وسورية التي صارت هي العدو، حتى أن إسرائيل لم تعد دولة محتلة غاصبة أو إرهابية.

جوهر الأوهام القائمة لدى البعض من السياسيين أو "المثقفين" في لبنان وسورية من المعارضة هو ادعاؤهم بأنهم الوحيدون القادرون على القراءة "الواقعية" للوضع الدولي والإقليمي بعد الاحتلال الأميركي للعراق. فالبعض يجد الرياح مؤاتية لتغيير مواقفه والانسجام مع المشروع الأميركي تحت ستار نشر الديمقراطية. والبعض الآخر ينظر إلى أن النظام في سورية يلهث وراء صفقة مع الإدارة الأميركية وأن هناك فريقين في الإدارة، المتشدد التابع للبنتاغون الذي لا يرغب فيها والمعتدل في الخارجية والاستخبارات الذي يسعى إليها... ولذلك وجدنا أخانا ميشيل يتّهمنا (قوميي أميركا العرب حسب تعبيره) بأننا نروّج للصفقة بناء على أوامر المخابرات المركزية.

وطالما أننا في هذا الموضوع، كنت أتمنى لو تسنّى للأخ ميشيل أن يكون حاضرا في مطار دالاس بالقرب من واشنطن مؤخرا لدى عودتي من المؤتمر القومي العربي الأخير في الدار البيضاء، ليرى بأم عينه الاستقبال الحافل الذي لقيته من الأجهزة الأمنية الأميركية حيث لم يكتفوا بتفتيش أمتعتي وأوراقي ورقة ورقة والتحقيق معي حول نشاطي الفكري والإعلامي وحول الأشخاص الذين أتواصل معهم ولمدة ساعتين... في محاولة يائسة لترهيبي أو ربما لإسكات أحد أصوات البريد القومي العربي في أميركا. وللعلم تعرض قبلي زملاء آخرون من أعضاء المؤتمر القومي لنفس التفتيش والاستجواب الأمني في مطاري دالاس وبوسطن. لكن ربما سيتفتق الذهن الذي ابتدع الخرافة الأولى بخرافة جديدة مفادها أن معاملتي في المطار ناتجة عن صراع أجنحة المخابرات الأميركية، وإنني وقوميي أميركا العرب من أتباع وكالة الأمن القومي؟؟؟؟!!!!

يبقى جوهر القضية لدى قراءة سيل الإعلانات والبيانات الموسمية تحت عنوان دمشق وبيروت وما بينهما. وبصرف النظر عن النوايا الحسنة لدى بعض المشاركين أو الموقعين، فإنها تضم في صفوفها من ابتغى وسوّق لنفسه دور السمسار، ومن رضي بدور الزمّار. ولكن السمسار، أكان مقاولا بالباطن أو شريكا بالعلن فهو سمسار فاشل يحاول جاهدا الاستفادة من مشروع أميركي للهيمنة مهدد بالفشل أصلا، ويتسوّل لقبض أتعاب سمسرته على أبواب العواصم والسفارات الدولية والعربية، وتحرك البعض بناء على تعليمات السمسار ليصدح بوقا زمّارا في جوقة التحريض والإهانة والشحن الطائفي والعنصري تارة ضد سورية وأخرى ضد الفلسطينيين أو إيران. كما ترتفع أصوات بعض السماسرة وزمّاريها بالتطاول على المقاومة ومؤيديها، عدا من شن الحملات المغرضة في لبنان ضد سورية وبدون مبرر عبر استغلال رخيص لمقتل الرئيس الحريري في محاولة مكشوفة لتوريم عضلات بعض أطراف المعارضة السورية وشخوصها، تذكرنا بكيفية توريم عضلات ما يسمى باللوبي اللبناني في الولايات المتحدة الذي يتقن فن تكريم أسياده من رموز اللوبي الصهيوني داخل الإدارة الأميركية وخارجها.

وسبق لي أن فندّت الإدعاءات الفارغة لما يسمى باللوبي اللبناني الذي نما (وعربش) كالطحالب البرية الطفيلية على أذرع اللوبي الصهيوني. وبإمكاني أن أضيف هنا أن صعاليك الزواريب الطائفية والعنصرية المعادية للعروبة في لبنان تحاول جاهدة تسويق دور إقليمي مزعوم لها يتجاوز حدود زواريبها ويتركّز على سورية.

ويغري السلوك الأرعن لبعض صعاليك الزواريب هذه رموز المعارضة السورية المصابة بنفس حمى المعارضة العراقية لاستخدام لبنان قاعدة "طالبزانية " (الجمع بين الطالباني والبارزاني) جديدة للانقضاض الأميركي الإسرائيلي على سورية، وكأن الدرس العراقي القاسي ببناء النموذج الديمقراطي المزعوم لم يتعظ منه بعد..

وطالما أننا نذكر الدروس فهناك درس حيوي لا يجوز تجاهله أو تأجيل الاستفادة من تفعيله في الظرف الراهن، وهو ضرورة إيجاد وسيلة للتواصل والحوار الهادئ الجدي والناضج بين كل العقلاء في سورية بمن فيهم من المعارضة السورية الوطنية الداخلية، بعيدا عن التشنج والانفعال والتخوين والاتهامات والإجراءات الأمنية، وبعيدا عن رموز الارتهان والاستقواء بالخارج، بهدف تحقيق انفراج داخلي يخفف الاحتقان ويعزز الثقة بين مختلف الأطراف الوطنية، ويحاصر ويعزل عن الواجهة رموز الاستقواء بالخارج الذين يدللون في بورصة البيع والشراء على مواقفهم ومواقعهم. وأعتقد أن أعضاء المؤتمر القومي في سورية وأقرانهم في نفس التيار والرؤية يشكلون النواة في طرف المعارضة الوطنية للبدء في الحوار الهادئ حول كيفية مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

وبالمقابل قد يكون الإفراج عن المعتقلين السياسيين ومعهم ميشيل كيلو، خطوة حكيمة باتجاه تحقيق مناخ الانفراج الضروري للحوار المنشود، تتبعه خطوات جريئة أخرى تحقق التعددية السياسية الفعلية والمشاركة في صناعة القرارات المصيرية ومحاربة الترهل والفساد الإداري والمالي، وتوفير مساحة كافية للإعلام الوطني الخاص وإلغاء القوانين والإجراءات الأمنية المتشددة التي تحد من الحريات المدنية.