إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

ارحلوا قبل أن يجرفكم الطوفان..

القاهرة- خاص قاسيون

أحمد نظيف ثاني أكبر موظف في مصر يحاول أن يبدو بمظهر الرجل الديمقراطي الذي يلتمس حلولاً للمشاكل لدى الجماهير.

إزاء شكوى الشعب من الغلاء الفاحش الذي نكتوي بناره على مدار الساعة طلب نظيف- حسبما شاهدنا على شاشه التليفزيون- أن كل من يستطيع إعطاء حل لمشكلة الغلاء أن يطرحها.. وهذه ثاني مفاجآت ما بعد 6 إبريل «يوم الغضب المصري».

أما أولى المفاجآت فكانت ما أعلنته وزارة الداخلية- حسبما نشرت جريدة المصري في صدر صفحاتها الأولى بتاريخ 21 نيسان- إذ طالبت بزيادة ميزانياتها في العام المالي 2008- 2009، وكان نص عنوان الموضوع: «وزارة الداخلية تشكو من ارتفاع الأسعار» ثم «الداخلية: الغذاء ارتفع بنسبة تتراوح بين 50 و 100%.. الخ».

ما يهم في هذا الموضوع أن إحدى الوزارات السيادية الهامة تعلن «أنه منذ اعتماد ميزانية الوزارة في 3/12/2007 ارتفعت الأسعار بنسبة 50%... كما ارتفعت أسعار الفاصوليا وزيت الطعام والأرز والسكر بنسب تراوحت بين 50 و100%..»

أهمية ما أعلنته وزارة الداخلية على لسان مساعد الوزير للشؤون المالية خلال اجتماع لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس الشعب، هو أنه لم يكن على لسان أحد ممن يوصفون بالمحرضين على الإضرابات أو العصيان المدني... الخ، أو المنتقدين بجذرية لسياسات السلطة التي أوصلت البلاد إلى أزمتها الشاملة الراهنة.

لكن أهمية تصريح «نظيف» هو أنه شهادة صريحة بالعجز عن إصلاح ما أفسده هو ومن كان قبله طيلة ما يزيد عن ثلث قرن، ضمنه ما يقارب 27 عاماً تحت حكم مبارك. كانت سنوات نظيف ومن قبله عاطف عبيد (أي عشر سنوات تقريباً) هي الأسوأ في كل تاريخ مصر، وهما رئيسا وزراء أختارهم مبارك للإيغال في تنفيذ ما أملته المؤسسات المالية الدولية أي البنك وصندوق النقد الدوليان.

لم يقصد نظيف أن يستشير الشعب أو يستأنس برأيه، وإنما أن يزيح مسؤولية الكارثة عن كاهله وكاهل الطبقة الحاكمة من طواغيت المال، وفي القلب منهم أولئك المتمترسين فيما يسمى بلجنة السياسات والحكومة، الذين يديرون مصر بمنطق إدارة المشروع الخاص، وليس بمنطق إدارة بلد عريق هو أول من توصل إلى معرفة ما هي الدولة وما هي الحكومة وما هي مسؤولياتها إزاء المواطنين. ذلك أن هذه السلطة لم تستأذن أو تستشر الشعب في أي من الأمور المصيرية، لم يحدث ذلك في موضوع الخصخصة أو المعاش المبكر وتشريد العمال أو بيع الغاز بسعر مدعوم للعدو الصهيوني دون عرض الأمر على مجلس الشعب الذي تهيمن عليه الطغمة الحاكمة، ولا أي قرار من مئات القرارات التي اتخذت وتتخذ كل يوم- في القضايا الداخلية أو الإقليمية أو الدولية- حاملةً الدمار لبلادنا والتي أوصلت الشعب إلى حد المجاعة.

ما ينبغي أن يفهمه نظيف هو أن مصر ليست سلسلة محلات سوبر ماركت أو توكيل لاحتكار أمريكي عملاق لصناعة السيارات أو توكيل تعبئة شاي أو مستشفي سياحي خاص أو نشاط احتكاري لسلع إستراتيجية مثل الحديد والأسمنت. تلك الأنشطة التي ينغمس فيها وزراء حكومة رجال الأعمال التي يرأسها نظيف وأعضاء لجنة سياسات الجماعة الحاكمة. فمصر لا يجب أن تدار بمنطق إدارة الوكالة التجارية أو المزرعة الخاصة أو «العزبة».

حينما أطلعت على تصريحات نظيف تذكرت على الفور واقعتين:

الأولى: ما أعلنه هو بنفسه بعد توليه «وظيفة» رئيس الوزراء، من أنه لا يمتلك خبرات سياسية ولم يسبق له ممارسة العمل العام حتى أختاره عاطف عبيد وزيراً للاتصالات في الحكومة السابقة.

الثانية: هي ما ورد في مذكرات رئيس جمهورية جورجيا السابق ادوارد شيفرنادزه لدى اختيار غورباتشوف له وزيراً لخارجية الإتحاد السوفيتي ليخلف أندريه جروميكو، إذ كان رد شيفرنادزه: أنه لا يمتلك أي خبرة في السياسة الدولية يتطلبها منصب وزير الخارجية. ورد عليه غورباتشوف: «إن ذلك هو المطلوب في هذه المرحلة». وكانت المرحلة هي تقويض الإتحاد السوفيتي بأيديهما. وذلك يعني بكل وضوح أنه حينما يكون الهدف هو التدمير فإن الاختيار يكون لمن لا يملك أي خبرة، بعكس البناء والتطور والتقدم الذي يتطلب من يمتلكون أوسع الخبرات.

لكن جوهر القضية ليس نقص الخبرة (رغم أهميتها الفائقة) ذلك أن نقص الخبرة مجرد وسيلة، لكن الغاية هي السبب الكامل وراء الأمر وهو تقويض وتدمير الوطن مع سبق الإصرار والترصد.

إن اعتراف ثاني أكبر موظف في مصر بالعجز عن معالجة إحدى المشاكل الهامة للغاية في البلاد يتطلب أن ترحل هذه السلطة. هذا هو الرد على مطلب «نظيف» باقتراح حلول لمشكلة الزيادة الهائلة في الأسعار، رغم أن الأزمة أوسع من موجة الغلاء الطاغية. فهي أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية وطنية قومية.. الأزمة شاملة وخانقة والسبب فيها هي سياسات هذه السلطة طوال سنوات حكم مبارك، وهي سياسات معادية على طول الخط لمصالح الشعب، وهي لمصلحة رأس المال الإمبريالي ووكلاؤه المحليون (أي الطبقة الحاكمة) على طول الخط . وهي سياسات تمت تجربتها وفشلت في بلدان كثيرة وتم العدول عنها بعد أن تسببت في عذابات وشقاء مئات الملايين، وهو ما أدي إلى تغيير شامل في هذه البلدان، غير أن حكام مصر لا يتعظون.

لقد دارت العجلة .. ولا سبيل لإيقافها إطلاقاً.. وكأنني أسمع عبر الزمن صيحة الزعيم أحمد عرابي وهو يقول: «لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً ولا عقاراً، فوالله الذي لا إله إلا هو، إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم».