ابراهيم البدراوي ابراهيم البدراوي

و... تمَّ دفنها!

أخيراً وقعت الواقعة. انفجرت الأزمة المالية في الولايات المتحدة بشكل لا سابق له. وصلت الرأسمالية إلى أقصى درجات انحطاطها وطفيليتها. بيد أنه ينبغي التأكيد على عدم ابتذال «الحتمية»، ذلك أن التطور التاريخي وإن كان يؤكد حتمية زوال الرأسمالية، غير أن هذه الحتمية لن تتحقق من تلقاء نفسها، وإنما سوف تتحقق عبر «الفعل الثوري الحاسم» الذي لابد أن يبدعه الكادحون وطلائعهم الثورية.

لقد مرت الرأسمالية بأزمات عاتية، وتخطتها في كل مرة بتصديرها للآخرين (الحروب والغزو وسباق التسلح وتكريس تبعية الأضعف واستنزاف دماء الشعوب ... الخ) أو بالمناورات بقدر من الإصلاحات الداخلية في إطار النظام.. وكذا باستخدام الآلة الإعلامية الهائلة لتقديم النموذج الرأسمالي بشكل خادع.

في العقود الأخيرة تآكلت القشرة الرقيقة التي صنعتها الامبريالية لستر عوراتها (خاصة في العقد الأخير)، وظهر تآكل الجسد الامبريالي بكل عناصره الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية والدعائية والتصديرية للأزمات مثلما انكشفت محدودية تأثير وحشيتها في حروبها العدوانية، وكان ذلك بفعل المقاومة الباسلة التي قامت بها الشعوب ولاتزال.

من العام إلى الخاص.. مصر نموذجاً

إذا كانت التحايلات التي لجأت لها الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان امبريالية أخرى (ضخ سيولة نقدية هائلة في شرايين الاقتصاد) لن تكبح الأزمة ولن تحقق الاستقرار، فإن هذا الخيار الواهي لن تكون له نتائج ملموسة في مثل بلداننا الغارقة في التبعية. بيد أن قوى التبعية والليبراليين الجدد في بلداننا لا يزالون أمناء لما صاغته لهم الامبريالية من سياسات  أفضت وتفضي إلى الخراب.

على سبيل المثال- في مصر-  فإن الاستثمار في العقارات جعل من هذا القطاع قاطرة للاقتصاد المصري المتداعي، وأصدرت الحكومة قانون «الرهن العقاري»، رغم الفشل الذريع الذي أصيب به هذا المجال في بريطانيا في عهد تاتشر، ورغم الأزمة الكارثية التي تصيب الولايات المتحدة. وبالرغم من كل ذلك فان أزمة الإسكان متفاقمة في مصر رغم زيادة المعروض بسبب الأسعار التي تفوق طاقة المواطنين.

لقد تم إنفاق عشرات المليارات على الإسكان الفاخر وإقامة القرى السياحية على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وفنادق «فور سيزونز» والمنتجعات في كل مكان، وكذا المدن الجديدة التي لن يستطيع أكثر من 90 % من المصريين الاقتراب منها (القاهرة الجديدة، مدينتي... الخ)، وبالمقابل يزداد إشغال أحزمة الفقر التي ابتكروا لها اسماً جديداً هو «العشوائيات» ليلقوا بالمسؤولية على سكانها، وكذا إسكان المقابر، يزداد اتساعاً وهي تضيق بسكانها، حيث تتسع دائرة التشرد والإقامة والنوم على الأرصفة.

في مصر أصبحت الإعلانات عن شركات البناء الأجنبية العملاقة هي الطاغية في الشوارع والصحف والتلفزيون. شركات «داماك» و«إعمار»..الخ، وشركات مصرية عملاقة نشأت من العدم. وتمنح الأرض لهذه الشركات بشكل شبه مجاني. وتقام لها مشاريع البنية الأساسية  الهائلة.

الانهيار الكبير

كان انهيار جبل المقطم واقعة كاشفة للمرة الألف عن طبيعة سياسات الطبقة الحاكمة. لم يكن الانهيار نتيجة لكارثة طبيعية، بل كانت مقدماته معروفة منذ فترة طويلة من واقع دراسات وعمليات رصد علمي للجبل. أي أنه كان مؤكداً، ومع ذلك لم تحرك الحكومة ساكناً.

عقب الانهيار مباشرة تم شن حملة في صحف الحكومة استهدفت إدانة الضحايا بإشاعة أنهم رفضوا الانتقال للإقامة في مساكن حديثة أقامتها الحكومة لهم، وألصقت بهم توصيفات واتهامات مهينة ومبتذلة. وقام التلفزيون بعرض صور المساكن التي رفض هؤلاء البؤساء الانتقال إليها قبل الانهيار!! لكن الحقائق التي أعلنها الناجون من كارثة الموت والدفن الجماعي تحت الصخور المنهارة دحضت أكاذيب الحكومة، وبينت أن حقيقة الأمر هي أنه لدى الافتتاح الرسمي لهذه المساكن بحضور مسؤولين كبار ووسط هالة إعلامية واسعة، تم نقل عدد من الأسر إلى هذه المساكن التي زودت بأثاث جديد. غير أنه بعد الانتهاء من المراسم تم إخلاؤهم بالقوة وإعادتهم إلى سفح الجبل.

هل نفهم من ذلك أن الطبقة الحاكمة تريد التخلص من ناس لا لزوم لهم في سياق واحد مع التخلي عن العلاج المجاني للمواطنين، وفي ظل إصابة عشرات الملايين بأمراض الالتهاب الكبدي الوبائي والفشل الكلوي وغيرهما وهى الأمراض الناتجة عن تلويث كل شيء بسبب ما يستورده لنا رجال الأعمال من الكيان الإسرائيلي، وكذا عن الجوع الذي تعانيه الملايين؟

وهكذا فإن انهيار الجبل لم يدفن تحت عشرات الآلاف من أطنان الصخور ضحايا لايمكن تحديد أعدادهم بدقة حتى الآن، ولكنه دفن معهم شرعية سلطة فارقت الحياة فعلياً ولكن دون دفن. سلطة طبقة معادية للفقراء ولكل الكادحين. 

وبعد..

كما علمنا لينين فإن القوى الرجعية (سواء قبل أو بعد سقوطها) تتضاعف شراستها وعنفها ربما مئات المرات، لأنها تستجمع قوتها في معركة البقاء.

في عالم اليوم، إذ بدأت مرحلة الانهيار الكبير للنظام الرأسمالي المعادي للجنس البشري، سواء في بلدانه الامبريالية المتطورة أو في البلدان التابعة، فإنه ينبغي الانتباه إلى:

أن تمام سقوطه لن يتم تلقائياً وإنما بنضال حاسم وجسور ومبدع.

أن شراسته على المستوى العالمي أو الإقليمي أو المحلي سوف تزداد إلى أقصى حد، لأنها معركة بقاء بالنسبة إليه.

بالمنطق نفسه فإن المعركة بالنسبة إلينا هي معركة بقاء مفروضة علينا وعلينا خوضها والانتصار فيها، لأنه لا بديل أمامنا سوى المقاومة والنصر.

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 19:05