إبراهيم البدراوي إبراهيم البدراوي

مجرى الدمّ النازف يصنع النصر

الطبقات العميلة في بلداننا ورموزها الحاكمة- وغير الحاكمة- لم يعد بمقدورها المراوغة والالتفاف عبر الممارسات والتصريحات الملتبسة في كل ما يتعلق بالعدو الصهيو-أمريكي، لأن كل شيء بات واضحاً يفقأ العين، واللعب أصبح «على المكشوف».

إلى حين تمام احتلال العراق كانت هناك مواقف ملتبسة أو شبه ملتبسة من بعض الأطراف العربية، وكان ما يتم علناً ظاهراً وملموساً لا يعدو أن يكون قمة جبل الجليد العائم، أما الجبل نفسه فكان مختفياً. ثم ظهر الكثير مما كان بعد تمام الاحتلال.

تغير الموقف بعد أكثر من عامين، حينما قامت قيامة حكام مصر والسعودية ضد حزب الله لدى قيامه بأسر أثنين من الجنود الإسرائيليين لمبادلتهم بأسرى لبنانيين، وحينما وقع الاعتداء على لبنان صمتوا، وحينما تمت هزيمة العدو أصابهم الغم.

تبلورت جبهة «المعتدلين العرب» ورأس الحربة فيها كل من السلطة في مصر والسلطة في شبة الجزيرة العربية ممثلة في آل سعود. وسبق أن ترافق مع هذا التبلور تلك المواقف التي نشاهدها يومياً بدءاً من مناشدة الأمريكيين البقاء في العراق حتى لا تضطرب الأوضاع فيه- وكأنها هادئة ومستقرة- إلى تعميق التطبيع الحكومي المصري مع العدو الصهيوني، إلى التحريض على التخلص من حزب الله وتجريده من سلاحه، إلى الانحياز المطلق للحكومة العميلة وغير الشرعية في لبنان، إلى اللقاءات السعودية الصهيونية المفضوحة، واتجاه التطبيع مع العدو إلى تبني الموقف الصهيو- أمريكي من إيران ومشروعها النووي، إلى افتعال أزمة مع سورية وتصعيدها لحد التهديد بعدم حضور القمة العربية، إلى آخر مفردات المواقف المخزية التي تفوق الحصر.

ما الذي يمكن استنتاجه من ذلك التناسب العكسي بين الهزائم المتلاحقة للأمريكيين في العراق وأفغانستان، وهزيمة الكيان الصهيوني في حرب تموز 2006 بتداعياته التي أوصلت إلى تشكك المستوطنين اليهود بفلسطين المحتلة في مستقبل وجوده، وبين عملية دفع حكام الكيان السعودي وحكام مصر إلى تصعيد مواقفهم؟

يكون الأمر واضحاً دون التباسات إذا كان العدو الصهيو- أمريكي منتصراً، وذلك على عكس الحادث فعلاً. ولذلك فإن تفسير هذا الوضع خاصةً إذا ما وسعنا مجال الرؤية ليمتد إلى مشهد «المندبة» المقامة في بيروت من حكومة العملاء والجواسيس لافتعال التشدد وتعميق أزمة الرئاسة هناك، وفي الترحيب بقدوم القطع العسكرية الأمريكية، وفي التفاخر بالعمالة للأمريكيين والصهاينة. تفسير هذا الوضع يشير إلى إدراك هذا الحلف العربي القابع تحت حذاء سيده الأمريكي بأن المعركة المحتدمة الآن والمؤهلة للتوسع بحرب حمقاء على سورية أو إيران أو حزب الله أو كلهم معاً ربما تكون المعركة الأخيرة، وأنها حرب غير مضمونة النتائج لصالح العدو الصهيو- أمريكي كما أنها تفوق من الناحية العسكرية البحتة إمكانياته وعدم قدرته على خوضها بالنظر إلى الجبهات الأخرى المفتوحة، خاصةً أنه عانى ولايزال الهزيمة على ثلاث جبهات حتى الآن. لكن المنطق والحسابات شيء وسلوك الغريق شيء آخر وهو الأمر الذي يدفع باتجاه حماقات جديدة، لأن الحماقات تعيد إنتاج نفسها.

ربما نقترب من إمكانية تفسير ظاهرة ذلك الاندفاع المحموم (عربياً سلطوياً) تجاه العدو المأزوم والمهزوم، والذي يعني شيئاً واحداً هو إدراك ارتباط مصائرهم ووجودهم بوجوده، وأن الهزيمة الأمريكية إذا ما تمت في المنطقة فإنها تعني نهايتهم، ولذلك فإنهم يخوضون في الحقيقة معركة وجود.

في هذا السياق يتكرر موقفهم البائس منذ غزو العراق وحرب لبنان في موقفهم من حصار غزة، ثم العدوان الوحشي وحرب الإبادة، ويستمر الصمت المطبق للمعتدلين العرب ومجمل النظام الرسمي العربي وتستمر المواقف المشينة لهذه الطبقات الحاكمة، ولا تجد غزة من نصير سوى المساندة الشعبية العربية ومساندة سورية والحركة الوطنية اللبنانية وإيران كتجسيد متكرر للخنادق التي تحددت.

عن مصر

في مصر.. حيث المعاناة تزداد يوماً بعد يوم، ويتم ذبح الفلاحين بزيادة أسعار الأسمدة الزراعية مؤخراً بنسبة 100 % تقريباً، وحيث معاناة العمال من تدني الأجور والمعاش المبكر والبطالة.. وحيث تزيد أسعار الأغذية وكل السلع يومياً.. وحيث يزداد سعر الحديد والحالمين بمسكن أسبوعاً بأسبوع بقرار محتكر واحد عضو لجنة سياسات حزب الجماعة الحاكمة.. فإن الأنكى من كل ذلك هو مشهد جديد لم تعشه مصر إطلاقاً على مدى سبعة آلاف عام وهو العنف في طوابير المواطنين الطويلة أمام المخابز للحصول على الخبز.. هذه الأيام وصلت الأمور إلى حد سقوط القتلى من أجل الحصول على الرغيف، أو الموت إرهاقاً من عناء الوقوف الطويل. في حين أن الحكومة والطبقة الحاكمة (المماليك الجدد) لا يكفون عن الحديث عن الأسعار العالمية التي سوف تصل إليها كل السلع المصرية. ولذلك فإن الموت أو الإصابات أو الإغماءات أمام المخابز أصبحت ظاهرة يومية وموعودة.

الرهان الخاسر

راهنت الإمبريالية وعملاؤها على أن تجويع الشعوب هو الذي سيفقدها الرؤية ويوصلها إلى الضعف والوهن، ولكن هذا التأثير محدود، لأنه في مرحلة معينة يأتي بعكس ما يريدون.

مازلت أذكر واقعة حدثت معي أيام حرب تموز 2006 المجيدة، وذلك المواطن المصري البسيط الذي لم ينتم لأي حزب سياسي، والذي سألني حينما علت الأصوات ضد سلاح حزب الله «هل صحيح ممكن السيد حسن نصر الله يسلم سلاحنا؟»..

سؤال بالغ الدلالة، إذ اعتبر هذا الرجل البسيط أن سلاح المقاومة في يد مقاومين لم يرَهم ولا يعرف سوى اسم قائدهم.. هو سلاحنا!.

إن وحدة المعركة باتت مفهومة لا تتأثر بهرطقة النخب السياسية المعادية والتابعة، أو النخب السياسية التي لا يعلو سقفها عن مواقف الإصلاحية والوسطية والمقايضات الرخيصة.

الفجوة بين الهم العام وقضايا النضال الكبرى، وبين المعاناة اليومية للناس تلتئم بفعل مجرى الدم النازف الممتد من العراق عابراً سورية إلى لبنان وفلسطين وكل المشرق العربي، وصولاً إلى مصر وما بعدها. يصوغ معادلة للصراع طرفها الأصيل هو جماهير شعوبنا، ويبقى علينا أن نعمل على رص صفوف البسطاء لخوض معركة المصير المنتصرة.