حصان «غز - وادة»...

«ألف ألف مبروك!»، الأنباء الواردة حتى مساء هذا اليوم الأربعاء 14 كانون الثاني 2009، تفيد رغم تضارب الأرقام والمواقف باحتمال اكتمال «النصاب» لعقد قمة عربية «طارئة» في الدوحة، بعد 19 يوماً من العدوان الإسرائيلي الدموي على أهل غزة، موقعاً أكثر من 5000 فلسطيني بين شهيد وجريح!

سواء انعقدت قمة الدوحة أم لم تنعقد، وسواء تمت «تشاورياً» في الكويت أم لا، وسواء استبقت السعودية على الجميع بقمة التعاون الخليجي، أم لا، فإن السؤال الأكثر إلحاحاً، كما هي الحال مع كل القمم والاجتماعات العربية هو، بماذا ستخرج؟ وما الأسلحة الاقتصادية والدبلوماسية، دون العسكرية بالطبع، التي ستعتمدها؟ والأبرز، ما آليات الإلزام فيها؟ ولاسيما مع وصول الوضع العربي إلى فرز، على أكثر من محور، هو الأكثر فجاجة واتضاحاً، بين العميل المتواطئ في العدوان (الموقف المصري- السعودي مثلاً)، والرافض له (الموقف السوري- اللبناني)، وما بينهما (القطري- الليبي مثلاً)، في ظل تآمر غربي فادح وواسع ومكشوف لأكثر مرة في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، ودائماً على حساب الدماء العربية، الفلسطينية.

ومع الحديث عن احتمال انعقاد القمة و«نصابها»، فإن الحديث استباقاً لها وعليها، وتفريغاً من أي مضمون ولو خطابي متضامن بالمطلق مع المقاومة الفلسطينية يخرج عنها، قد كثُر عن اقتراب المساعي الدبلوماسية للحل من نهاياتها ووصول مقاصدها. من القاهرة: «تجاوب حماس مع المبادرة المصرية»، كوشنير: «بدء ارتسام ملامح وقف إطلاق النار»، موراتينوس: «مواصلة جهود التهدئة المنشودة»، «باراك» يتحدث عن تهدئة مؤقتة يحتفظ خلالها جيش الاحتلال بمواقعه في غزة، والجميع يؤكدون على أن «هناك عملاً كبيراً ينبغي إنجازه قبل ذلك». وهذا العمل بوضوح يتمثل في محاولة «تثبيت أكتاف المقاومة، بل وأقدامها»، ولاسيما مع تأكيد «ليفني» أن «الحوار في القاهرة هو ضد حماس وليس معها»، علماً بأن المبادرة المصرية، كما أكدت كل فصائل المقاومة بما فيها حماس، تطلب، خدمةً لإسرائيل، إيجاد أمر واقع جديد في غزة غايته القضاء على المقاومة، وليس حماس فقط، من خلال إقامة جيش العدو لأحزمة أمنية تكريساً لحصار القطاع من داخله، بعد حدوده، وتثبيت فكرة الهدنة طويلة الأمد (15 عاماً) يجري البحث بعد الموافقة عليها في بقية الأشياء «التافهة» مثل «الممرات الإنسانية» و«فتح المعابر» على أن لا تطلق فصائل المقاومة أي صاروخ باتجاه الكيان الذي يحتفظ عملياً بكل خيارات الضرب كلما وجد هو ذلك ضرورياً، أي فرض الاستسلام على الفلسطينيين، حسب توصيف فصائل المقاومة ذاتها، والتي تؤكد ضرورة عدم تمكين الاحتلال من تحقيق انتصارات سياسية عجزت عنها آلته الحربية العدوانية.

وإذا كان الجميع يناور، فإن المعركة الميدانية لم تنته بعد، وهو ما يخيف الإسرائيليين، ومن يقف خلفهم، إذ لاتزال فصائل المقاومة في غزة تسطر، تثبيتاً للوجه الحقيقي للمواجهة، أعظم البطولات في وجه الاحتلال ملحقة بقواته خسائر فادحة يتعمد التعتيم عليها،: اشتباكات مباشرة، تفخيخ منازل بجنود الاحتلال، تدمير دبابات وآليات، قصف المستوطنات، نصب كمائن وعمليات قنص واستشهاد، في وقت تتواصل فيه الأصوات الشعبية من رام الله محذرة من مغبة ترك القطاع وحيداً في المعركة عسكرياً، ومن انعكاسات المراهنة على انتصار العدو، في انتقاد مباشر لموقف «السلطة» التي يندمج الجناح العسكري لحركة فتح رغم أنف السلطة ذاتها في المعركة!

إذا كان معسكر التآمر العربي يرى «أن لاضرورة لعقد قمة عربية من أجل غزة» رغم فداحة ما يجري فيها، وإذا كان المعسكر المقابل، مع المعسكر التوفيقي، يقولان إن «القمة مطلوبة ولو بمن حضر» فإن الشارع العربي، المستفز من المحيط إلى الخليج، وفي ظل تيقنه من استحالة قيام إجماع أو غطاء عربي شامل، يطرح أن «المقاومة وتوسيع رقعة الاشتباك مع العدو تخفيفاً عن غزة وتطبيق (الدفاع العربي المشترك) عملياً هي، بمن بادر»، والدليل ما شهدته من حوادث، حتى الآن، الحدود الإسرائيلية المطلوب أمريكياً-إسرائيلياً تهدئتها: مرتان إطلاق دفعات كاتيوشا من الجنوب اللبناني باتجاه مستوطنات الشمال، إلى جانب إطلاق الرصاص على وحدات الهندسة والدوريات الإسرائيلية في كل من الجولان السوري ووادي عربة في الأردن.

وإذا كان الغرب وإسرائيل يقولان على نحو ممجوج «إن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها» فإن السؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت ما تشهده غزة حرباً إسرائيلية دفاعية فكيف يمكن أن تكون الأسلحة المستخدمة في الحرب الهجومية؟ وعطفاً عليه، إذا كان استخدام الكيان للأسلحة الفتاكة، كالفسفور الأبيض، بما يحظى بتغطية إعلامية واسعة، يراد منه ترهيب جميع العرب، فإن قبول «الحالة الانتظارية» مع احتمالات تمكن الكيان من تحقيق انتصار عسكري في غزة دون تمكنه في كل الأحوال من كسر إرادة مقاومة الشعب الفلسطيني نحو التحرر، يعني على المدى المنظور والمتوسط أنه بعد «الفسفور» في غزة، وفي إطار تصفية الحسابات، فربما سيكون «الكيماوي» في بيروت والجنوب والضاحية، و«النووي» في دمشق وطهران، وهو ما لا يكفيه التعامل مع الكيان على مبدأ «داروا سفهاءكم» بل ينبغي البحث جدياً في كل الوسائل الممكنة لإجبار «إسرائيل» على وقف عدوانها دون قيد أو شرط مع فتح المعابر، بل ومعاقبة «إسرائيل» وردعها، بالاستفادة من الاستياء الشعبي الدولي،سواء هدأت «الحرب» في غزة أم لم تهدأ.

ويعزز ضرورة ذلك الرسائل الاستباقية الواضحة التي أطلقتها خليفة رايس في الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، وهي تبشر بـ«القوة الذكية» الأمريكية التي تقوم على الاستفادة من قدرات إسرائيل في المشروع الكوني الأمريكي بالتوازي مع تفريغها لدورها الجديد، عندما «نبهت» إيران وسورية مما أسمته «سلوكهما الخطر».

بالتوازي، وفي ظل «الاستعصاء الإسرائيلي » في غزة في حال استمراره، والغضب الشعبي عربياً ودولياً على نحو غير مسبوق من جرائم إسرائيل، واقتراب موعد تبديل الطاقم في البيت الأبيض، وإجراء الانتخابات الإسرائيلية، تمر المنطقة في منعطف ثنائي الاتجاه، حده الأول تثبيت خيارات المقاومة وانتصاراتها، وفي أحد وجوه حده الثاني يبدو الوقت ملائماً للأمريكيين والإسرائيليين تماماً لتنفيذ عمليات تصفية وإزاحة تؤسس لتغييرات إستراتيجية يراد منها أن تصب في مصلحة المشروع الأمريكي، على أن يبدو ظاهر بعضها المحتمل تلبية لتطلعات الناس، ويكون في الحقيقة تنفيساً لها. ويبدو أن علينا مراقبة ما قد تشهده مصر في هذا السياق مثلاً!

في نهاية المطاف، وكما كان الحال في عدوان تموز 2006، يعود الفرز أكثر وضوحاً في المنطقة التي تشهد «غزة 2009»، وهناك محاور لا تقبل التمويه عليها. وليس من المخجل القول إن أحد هذه المحاور يمتد من طهران شرقاً إلى كاراكاس غرباً مروراً بدمشق، وبيروت المقاومة، وغزة الصامدة، وحتى لاباز البوليفية التي طردت السفير الإسرائيلي. وهذا محور، رغم تباين مكوناته، يشترك في مناهضة المخطط الأمريكي الصهيوني القائم على منطق الإخضاع والهيمنة، وقد فُرضت عليه المعركة في حلقته التي اعتقد الأعداء أنها الأضعف، غزة، والتي بات صمودها عقبة كبرى يراد القضاء عليها بـ«حصان طروادة» سواء بإطلاق المبادرات المتعددة، أم بترويج مواقف الدول ملتبسة الأدوار والمواقف مثل قطر وتركيا، وهو «حصان» لا يستهدف «غز- وادة» فحسب، بل كل المدرجين على قوائم الاستهداف الأمريكي الإسرائيلي. 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الجمعة, 05 آب/أغسطس 2016 12:12