سياسة العجز والدَّين القومي

الدين القومي للولايات المتحدة الأمريكية هو الحاصل الإجمالي لتراكم عجز الميزانيات الفيدرالية، عاماً إثر عام، (حيث يعني العجز، ببساطة، الفارق بين نفقات الحكومة الفيدرالية وإيراداتها من الضرائب). وكل عجز سنوي يقتضي من الحكومة الاتحادية اتخاذ أحد قرارين: إما عدم خفض الإنفاق إلى مستوى الإيرادات الضريبية، أو عدم رفع الضرائب إلى مستوى الإنفاق الحكومي. أي أن العجز، بعبارة أخرى، يعكس القرارات السياسية التي يتخذها مسؤولو الكونغرس والبيت الأبيض المنتخَبون.

في عام 1989، كان الدين القومي للولايات المتحدة 3 تريليون دولار. ومع اقتراب عام 2010 من نهايته وصل إلى ما يقارب 14 تريليون دولار. حيث ارتفع باطراد، إنما ببطء نسبي، في الفترة ما بين عامي 1989 و2001. وفي الفترة اللاحقة تسارعت وتيرة ارتفاعه وتضخمت أرقامه بعد عام 2006، إلى أن تفجرت الأزمة الرأسمالية.

حرفة  العجز

ومن الواضح أن مسؤولي الإدارات المتعاقبة، جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين، في البيت الأبيض والكونغرس على السواء، تناوبوا على إصدار القرارات السياسية لمصلحة الحفاظ على العجز، ورفعه إلى مستويات غير مسبوقة. وهم يتخذون تلك القرارات لأنهم فازوا بالانتخابات، ولأنها، من الجهة الأخرى، تلائم جماعات الضغط المعنية بالتأثير على سن التشريعات (غالبيتهم من الشركات)، وترضي المتبرعين الذين ساهموا في تمويل حملاتهم الانتخابية (غالبيتهم من الشركات)، وأخيراً، ترضي الناخبين.

من الناحية السياسية، كان وما يزال خطراً أن يقوم المسؤولون المنتخبون بتخفيض أو إلغاء أي إنفاق فيدرالي يصب في مصلحة جمهورهم و«بيزنس» شركات مناصريهم، الذين بمقدورهم دائماً تحويل تبرعاتهم لمصلحة الطرف السياسي المنافس. إضافة إلى أن المسؤولين يخشون أن يؤدي تخفيض الإنفاق إلى إغضاب أصحاب الدخل المتوسط والمتدني، وبالتالي انتقال أصواتهم لتصب في صناديق الخصم. والأمر ذاته ينطبق على اتخاذ قرارات زيادة الضرائب الفيدرالية الذي يمكن أن يؤدي إلى استياء المؤيدين. لذلك تعتمد «الحرفنة» السياسة على أن يظهر المرشح لمنصب ما كأكبر داعم للإنفاق الحكومي الخادم لأنصاره، وأشرس معارض لزيادة الضرائب المفروضة عليهم، سواء في الانتخابات الحزبية التمهيدية أو في الانتخابات العامة. ومن هنا يمكن الاستدلال على أن العجز وتراكم الدين القومي، وتزايدهما، هي النتائج المباشرة للمنافسة السياسية القائمة بين الجمهوريين والديمقراطيين.

برنامج  مغاير

يتطلب التغلب على العجز قوة أو حزباً سياسياً جديداً، يتبنى في أمور ميزانية الحكومة الفيدرالية، برنامجاً مغايراً يركز قبل كل شيء على إجمالي الإيرادات بشكل مباشر. والتخلص من العجز عن طريق زيادة الضرائب إلى حد تعادل فيه الإنفاق الحكومي. ويمكن تحقيق ذلك من خلال فرض ضريبة تصاعدية صارمة تُلزم الـ5% الأضخم من الشركات (من حيث أصولها)، والـ5% الأعلى دخلاً من الأثرياء، بمعدلات ضريبية عالية (أقلها، أعلى بكثير مما يدفعونه حالياً). وهذه المعدلات الضريبية الجديدة يمكن فرضها على مداخيلهم و- أو ممتلكاتهم بنسب محددة، حسب ما يقتضيه التفعيل الأمثل للاقتصاد ككل.

ويستطيع هذا البرنامج القضاء على العجز، متجنباً بالتالي تكاليف الفوائد الباهظة التي تترتب على الميزانية الفيدرالية، مستقبلاً. كما يمكنه التخلص من إرث ظلم الهيكلة الضريبية في الولايات المتحدة، وعدم عدالة عملية إعادة توزيع الثروة، من القاعدة إلى القمة. وبما أن هذا البرنامج لا يمس مداخيل وإنفاق 95% من الأفراد وأصحاب الأعمال الذين يعول عليهم، يستطيع أن يحافظ على استمرار القسم الأعظم من الإنفاق في الاقتصاد الأمريكي. وحال تطبيقه، يتركز النقاش، الذي طال انتظاره، على المسألة الأساسية: في أي مجال يمكن، ويجب، تخفيض الإنفاق الحكومي، بما يسمح مستقبلاً بتخفيض إجمالي عائدات الهيكلية الضريبية التصاعدية الجديدة؟

وكفى!

استفادت أغنى الشركات الأمريكية العملاقة المتسببة بالأزمة الحالية من عمليات الإنقاذ والتعويضات، أكثر من استفادة غالبية الشركات الأقل حجماً. وحصد أغنى أغنياء الولايات المتحدة، طيلة الأعوام الثلاثين الفائتة، ثروة تفوق ما كسبه الأمريكيون مجتمعين. لذلك، بإمكانهم، ومن واجبهم تحمّل القسط الأكبر من تمويل الجهد الحكومي للتغلب على الأزمة الرأسمالية الجارية.

ويكفي الشعب الأمريكي ما تحمله حتى الآن من آلام الأزمة (مشكلة البطالة المتضخمة، أزمة الرهن العقاري، فقدان الاستقرار في الوظائف، تخفيض تعويضات العمل... الخ). ويكفي ما تحمله الناس جراء رؤيتهم الحكومة وهي تبذل كل ما بوسعها إكراماً للمصارف الكبرى والشركات العملاقة المنهارة، مثل «المجموعة الأمريكية الدولية» و«جنرال موتورز»، بينما لم تفعل شيئاً يُذكر في سبيل القضاء على البطالة أو حل مشاكل حبس الرهن!!

ولم يعد مقبولاً أي تبرير لإلقاء أعباء ونفقات خطط «الإنقاذ» الحكومية على كاهل الناس المتضررين، والأقل استفادة منها. لكن بوصلة لجنة أوباما لتخفيض العجز، وزعماء الحزبين، تشير بالتحديد إلى السير في هذا الاتجاه الجائر غير المقبول، ولذلك غدا وجود قوة سياسية جديدة، حاملة لبرنامج نوعي مغاير، مطلباً وضرورة ملحة.

أستاذ في جامعتي

ماساتشوسيتس (امهرست) ونيوسكول (نيويورك)

آخر تعديل على الجمعة, 22 تموز/يوليو 2016 19:38