التربية.. تعليمات وضغوط إضافية معيقة
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

التربية.. تعليمات وضغوط إضافية معيقة

لا شك أن بدء العام الدراسي يفرض على وزارة التربية، من باب مسؤولياتها بالمتابعة، من أن تؤكد على تعليماتها وتعاميمها الصادرة بما يخص سير العملية التعليمية والتربوية في المدارس، وهو أمر جيد حكماً. بالمقابل، لا بدّ من التأكيد على أهمية المتابعة الميدانية اللاحقة خلال سير العملية نفسها في المدارس، لمعرفة ورصد أثر ونتائج هذه التعليمات من الناحية العملية والتنفيذية، سواء على مستوى الإدارات أو على مستوى المعلمين أو على مستوى الطلاب، ولعل هذا الجانب هو الأهم.

فقد عكفت الوزارة على إصدار مجموعة من التعليمات قبيل موعد افتتاح المدارس وبدء العام الدراسي، تناولت العديد من القضايا التعليمية والتربوية والإدارية والصحية والالتزام بالدوام والاختبارات و.. مع تحديد الواجبات والمسؤوليات حيالها، اعتباراً من مديريات التربية مروراً بالإدارات المدرسية والمعلمين، وليس انتهاءً بالطلاب وذويهم، حيث اكتظ الموقع الرسمي للوزارة بالتعليمات المتتالية خلال الفترة القريبة الماضية، علماً أن بعضها عبارة عن تأكيدات على تعليمات وتعاميم سابقة، وبعضها الآخر يتضمن تفاصيل جديدة، بل وتوجهات تحمل ضمناً واجبات ومسؤوليات مستجدة لم تكن موجودة سابقاً، بما فيها ما يمكن تبويبه ضمن مفهوم العقوبات.

عقوبة جديدة وبوابات مشرعة للفساد الصغير

الجديد هذا العام بما يخص الالتزام بالدوام، هو ربط الغياب غير المبرر بدرجة الأعمال للمتعلم، حيث ورد على الموقع الرسمي للوزارة ما يلي: «حسم درجة من أعمال المتعلم عن كل يوم غياب غير مبرر من المحصلة النهائية للصفوف الانتقالية، وإبلاغ أولياء الأمور بذلك، والتأكيد عليه في اجتماعات مجالس الأولياء».
فالغياب غير المبرر للطلاب كان يتم التعامل معه سابقاً من خلال تعهدات أولياء الأمور غالباً، مع سقف محدد لهذه الغيابات خلال العام الدراسي، دون اللجوء للحسم من الدرجات. وبالتالي، فإن التعليمات الجديدة بهذا الشأن أصبحت تحمل ضمناً عقوبة إضافية بحق الطالب، تتمثل بتخفيض درجاته بمعدل درجة واحدة عن كل يوم غياب غير مبرر.
لا شك أن موضوع التأكيد على الالتزام بالدوام وعدم الانقطاع عن المدرسة هام وضروري، ويجب إيلاؤه ما يستحق من اهتمام ومسؤولية، سواء من قبل الطالب أو من قبل المدرسة أو من قبل أولياء الأمور، على ذلك لن نخوض بجدوى مفهوم العقوبة بهذا الشأن بما له وما عليه، وهل سيحقق الغاية المرجوة منه أم لا، لكن ربما تجدر الإشارة فقط لما يمكن أن يترتب على ذلك من تبعات ونتائج سلبية غير محسوبة على هامشه.
فمن المتوقع على إثر ربط الغياب غير المبرر بالحسم من الدرجات أن تتكاثر الوساطات والمحسوبيات والضغوطات على الإدارات المدرسية، كما سيتكاثر الضغط على المستوصفات المدرسية والمشافي العامة من أجل الحصول على التقارير الطبية لتبرير أيام الغياب، مع ما يمكن أن يفتحه كل ذلك من بوابات فساد صغيرة على هامشه، ولعل هذه الخشية المتوقعة ليست بعيدة عن الواقع المعاش وتعقيداته، وليست تجنياً عليه.
وبهذا الصدد ربما تجدر الإشارة أيضاً إلى أن اجتماعات أولياء الأمور لم تخرج عن كونها عبارات مبوبة ومكررة بالتعليمات نظرياً مع عدم إمكانية تنفيذها عملياً، ويكفي الاستشهاد بذلك من عدم توفر الأمكنة المخصصة لهذه الغاية في غالبية المدارس، ناهيك عن عدم توفر الظروف والشروط الأخرى المرتبطة بها.
السؤال الذي يفرض نفسه: كيف ستتعامل وزارة التربية ومديرياتها مع مثل هذه النتائج وكيف ستحد من سلبياتها؟.

الواقع هو محك التعليمات

التعليمات والتعاميم مهما كانت احترافية ومهنية ومسبوكة ومبوّبة ومحبوكة من الناحية النظرية، يجب أن يتم تقييمها من الناحية العملية على أرض الواقع الذي يعكس الجوانب الإيجابية والسلبية لهذه التعليمات والتعاميم، وممكنات تطبيقها وتنفيذها بما يحقق غايتها وأهدافها.
فعند الحديث عمّا صدر من تعليمات بما يخص التأكيد على التقيد بتوزيع الدرجات مثلاً، فقد تم تخصيص 60% درجة لكل من أعمال الفصل الأول والفصل الثاني، منها 10% شفهي، و10% وظائف وأوراق عمل، و20% نشاطات ومبادرات، و20% للمذاكرة.
فإذا كان أمر التقييم ووضع الدرجات يعتبر يسيراً نسبياً بما يخص الشفهي والمذاكرة، فإن ذلك فيه نوع من الصعوبة بما يخص الوظائف وأوراق العمل وبما يخص النشاطات والمبادرات، وهذه الصعوبة ليست متأتية من ظروف وواقع الطلاب أو المعلمين فقط، بل من واقع عدم توفر ممكناتها التطبيقية أصلاً، لا داخل المدارس ولا عند جميع الطلاب، بل وحتى عند بعض المعلمين أيضاً.

الفجوات بين النظري والعملي

في التوضيح الوارد حيال نسبة الـ 20% درجة المخصصة للنشاطات والمبادرات ورد التالي: «تشمل كل ما يقوم به المتعلّم خلال الموقف التعليمي من تفكير أو سلوك داخل المدرسة أو خارجها، بإشراف وتوجيه من معلّمه، وهي إما أنشطة صفّية مرتبطة بالمقرّر (المنهاج الدراسي) ارتباطاً مباشراً، أو أنشطة غير صفّية، وقد تكون وثيقة الصلة بالمقرّر الدراسي أو غير وثيقة الصلة به، وقد تكون النشاطات فردية أو جماعية، في حين يُعبر مفهوم المبادرات عن فكرة وعمل يتضمن مجموعة إجراءات منظمة، يقوم بها فرد أو جماعة بدافع ذاتي، لإحداث تغيير وتطوير وتحسين للأفضل، ويتضمن تصوراً نظرياً وإطاراً عملياً إجرائياً لمعالجة قضايا المجتمع، وتتحول إلى مشاريع تنموية قصيرة المدى وبعيدة المدى، وتشمل المبادرات عروضاً توضيحية، وأبحاثاً، ووسيلة تعلم، وقراءات خارجية، وزيارة معارض، والمكتبة المدرسية، وأعمالاً تطوعية...».
والسؤال الذي يتبادر للأذهان: ما هي الممكنات والمستلزمات والأدوات الحقيقية المتوفرة لتنفيذ وتطبيق ذلك، لدى الطلاب ولدى المعلّمين وفي المدارس؟.
فعلى الرغم من جمالية وترابط ما ورد أعلاه من حيث الصياغة النظرية، إلّا أن الواقع يقول: إن الجانب النظري يختلف كلياً عن الجانب العملي والتطبيقي بشأنها!
فالشُّعَب الصفية في كافة المدارس مكتظة بأعداد كبيرة من الطلاب، تجعل من الصعوبة على المعلم أن يتمكن من المتابعة المطلوبة لهم جميعاً، وفقاً للتعليمات أعلاه أو غيرها، كما أن غالبية المدارس لا تتوفر فيها المستلزمات والوسائل، بل والأمكنة المساعدة على حسن تطبيق وتنفيذ ما يرتبط بهذه الأنشطة والمبادرات، والأهم، أن غالبية ذوي الطلاب هم من المفقرين الذين لا تتوفر لديهم الإمكانات المادية لتأمين المستلزمات والوسائل المساعدة لأبنائهم بهذا المجال.
فماذا بقي من ممكنات عملية وواقعية بعد ذلك كي تتطابق مع ما ورد بشأنها نظرياً في التعليمات، وكيف سيتم التعامل مع نسبة الـ 20% من الدرجات المخصصة لها بالنتيجة؟.
ما سبق مثال فقط عن الفجوة بين ما هو نظري وفقاً للتعليمات والتعاميم وما هو تطبيقي وعملي وممكن بشأن جانب صغير من العملية التعليمية بمرحلتي التعليم الأساسي والثانوي، فكيف الحال مع الفجوات الكثيرة الأخرى بهذا المجال، مع تشابكاتها وارتباطاتها بالمجالات والعناوين العديدة الأخرى، مثل: (المناهج الجديدة والمتجددة- طرائق التدريس ومستلزماتها- التقييم والتقويم والعمليات الامتحانية والتصحيح- معدلات القبول بالمرحلة الثانوية وبالمرحلة الجامعية- أعداد الطلاب والنسبة والتناسب مع أعداد المدارس وأعداد الكادر الإداري والتعليمي- أجور وتعويضات المعلمين- الواقع الاقتصادي الاجتماعي المعيشي للطلاب وذويهم- الدروس الخصوصية- وغيرها الكثير من العناوين المتشابكة الأخرى)؟.

الأب الشرعي للتناقض والإعاقة

خلاصة القول: إن كثرة التعليمات والتعاميم، مهما كانت احترافية ومهنية ومسبوكة، في ظل استمرار غض الطرف عن الواقع الموضوعي في المدارس، وفي ظل عدم توفر الشروط والمستلزمات والأدوات المساعدة على تنفيذها، وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة والضاغطة على الغالبية من المفقرين والمسحوقين، لن تكون أكثر من عبءٍ وضغط إضافي ممارس على الطلاب وذويهم، كما على المعلِّمين والإدارات المدرسية، والأهم، أنها لن تُوصل إلى الغايات المرجوّة من العملية التعليمية نفسها، وللتعلم باعتباره حق مصان ومجاني للجميع، هذا إن لم نقل أنها تعيق تحقيق ذلك وتحول دونه، ولعل ذلك يوصلنا للحديث عن السياسات التعليمية المعتمدة والمعمول بها نفسها باعتبارها الأب الشرعي لهذا التناقض وهذه الفجوات والمعيقات، بالتوازي والتوافق مع جملة السياسات الاقتصادية الاجتماعية الليبرالية المتبعة ذات الجوهر والمحتوى الطبقي المحابي لشريحة أصحاب الأرباح ومصالحهم على حساب مصالح بقية الشرائح الاجتماعية، تعامياً وقفزاً على الواقع وضروراته، وعلى المصلحة الوطنية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
928
آخر تعديل على الثلاثاء, 27 آب/أغسطس 2019 18:46