أسرة سليمة.. وطن سليم!
عادل إبراهيم عادل إبراهيم

أسرة سليمة.. وطن سليم!

كثيرة هي الظواهر الاجتماعية التي تفاقمت خلال سنوات الحرب والأزمة وكان لها انعكاساتها وتداعياتها السلبية، ومن هذه الظواهر ما هو مرتبط بالأسرة باعتبارها اللبنة الأساسية في المجتمع، مثل: انخفاض نسب الزواج، وارتفاع نسب العنوسة والطلاق، والزواج المبكر، والعرفي، وغيرها من الظواهر الاجتماعية المرتبطة بهذا العنوان العريض.

لا شك بالمقابل: أن هذه الظواهر لها ارتباط وثيق بظواهر أخرى، على مستوى الأسباب والنتائج، مثل: الفقر والبطالة والتهميش والفساد وغيرها، والتي تفاقمت أيضاً، ناهيك عن انعكاساتها جميعاً على ظواهر سلبية كثيرة زادت معدلات انتشارها، مثل: المخدرات والدعارة وغيرها.
أرقام ومؤشرات إحصائية
نشر المكتب المركزي للإحصاء مجموعته الإحصائية لعام 2018، وقد تضمنت الكثير من المعطيات الرقمية، التي تعتبر بوابة ومفتاح لكثير من الدراسات التخصصية على كافة المستويات، ومنها مثلاً: الإحصاءات المبوبة بفصل السكان والمؤشرات الديموغرافية، وفصل قوة العمل، حيث سنقف على بعض الجداول بهما، كأرقام استرشادية، والمرتبطة بشكل أو بآخر بالأسرة وبعض الظواهر أعلاه.
عدد السكان في عام 2017 حسب البيانات هو: /24422/، منهم /12787/ ذكور، وإناث /11941/.
مجموع عقود الزواج المسجلة بالقطر في عام 2017، باستثناء محافظات (حلب- دير الزور- الحسكة- الرقة) هو: /100195/، وعدد شهادات الطلاق كان: /19764/. وقد حصدت مدينة دمشق النسبة الأعلى من هذه الأرقام، حيث كان عدد عقود الزواج فيها: /25016/، وعدد شهادات الطلاق: /7414/ بنسبة 30,4%.
عدد الولادات المسجلة على مستوى القطر في عام 2017، باستثناء المحافظات أعلاه، كان: /32206/، منهم /16574/ ذكور، وإناث /15632/.
عدد الوفيات المسجلة في جميع المحافظات في عام 2017، باستثناء نفس المحافظات، كان /46557/، منهم /28415/ ذكور، وإناث /18142/.
العاملون بأجر (15 سنة فأكثر) بموجب إحصاءات عام 2017، بمختلف القطاعات كان: ذكور /1792265/ وإناث /639215/، وبمجموع عام /2431480/.
عدد المتعطلين عن العمل (15 سنة فأكثر) بموجب إحصاءات عام 2017 على مستوى القطر باستثناء (دير الزور- الرقة- إدلب) ذكور /373589/، إناث /289628/، المجموع /663217/.
استنتاجات أولية
من البيانات الإحصائية أعلاه يمكن استنتاج التالي:
النسبة والتناسب بين الذكور والإناث على مستوى التعداد العام تعتبر ضمن الحدود الطبيعية.
عدد الولادات وتناسبها بين الذكور والإناث تعتبر طبيعية، مع عدم تغييب أن بعض الولادات ما زالت مكتومة ربما.
عدد الوفيات كنسبة وتناسب فيه مؤشر خارج الحدود الطبيعية، حيث كانت نسبة وفيات الذكور بحدود 61%، في مقابل نسبة وفيات للإناث بحدود 39%، ولعل تزايد معدلات الوفيات بين الذكور مرتبط بشكل مباشر بالحرب.
عدد عقود الزواج بالمقارنة مع شهادات الطلاق تعتبر مرتفعة نسبياً، حيث كانت بحدود 19%، وقد كانت النسبة الأعلى في دمشق حيث بلغت بحدود 30%، وهي تعتبر مرتفعة جداً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك بعض الواقعات (زواج- طلاق) غير مسجلة، ولعل ظروف الحرب والأزمة تعتبر سبباً مباشراً بارتفاع هذه النسبة، طبعاً ارتباطاً بظروف الواقع الاقتصادي المعاشي وانعكاساته السلبية على الأسرة.
نسبة عدد العاملين بأجر من مجموع التعداد السكاني بعد استبعاد النصف الذي يعتبر ما دون سن العمل، هي بحدود 20%، وهي نسبة متدنية جداً، نسبة الذكور فيها بحدود 74% بمقابل نسبة للإناث بحدود 26%، وهي نسبة تعتبر مرتفعة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ جزءاً هاماً من عمل الإناث موجودٌ في السوق غير المنظم، وبالتالي ربما يكون خارج حدود هذه المعطيات الرقمية، أي: أن نسبة مشاركة الإناث بالعمل من الناحية العملية هي أكبر من 26%، علماً أن هؤلاء، ذكوراً وإناثا، معيلون مباشرون لنصف تعداد السكان العام، في حال كان وسطي الإعالة هو 5 أفراد، بالمقابل فإن جهد وإنتاجية هؤلاء يذهب بعضه لتغطية إعالة النصف، بما في ذلك الشريحة المتعطلة عن العمل (مع التحفظ على الرقم الإحصائي الخاص بها، حيث يتبين أن هناك تناقضاً مع غيره من الأرقام) بالإضافة طبعاً إلى الشريحة المغتنية والأكثر ثراء واستغلالاً، والمتمثلة بكبار الفاسدين والتجار والمستوردين وتجار الحرب والأزمة الجدد، وهذه النسب والمعطيات، والاستنتاجات الأولية أعلاه بحال صحتها، فيها الكثير من الشذوذ الذي يفرض التوقف عنده من قبل المختصين، خاصة إذا ما قورنت بمستويات المعيشة المتدنية، ومعدلات الفقر المتزايدة والمعممة، وهذه لها الكثير من المعطيات والأبحاث الاقتصادية التي تؤكدها.
الجوهر الاقتصادي
ونموذج الاستغلال المعمّم
بالعودة للحديث عن الظواهر الاجتماعية المرتبطة بالأسرة، يمكن القول: قد يكون بعضُها مرتبطاً بالمتغيرات الديموغرافية أعلاه كمؤشرات رقمية، مثل: ارتفاع نسب الوفيات بين الذكور بالمقارنة مع الإناث، علماً أن الحرب هي جوهر تباين هذه النسب، بينما النسب الديموغرافية الأخرى متوازنة نوعاً ما، ولعل الاستثناء الوحيد الشاذ هو معدلات الطلاق ونسبة عدد العاملين بأجر والمتبطلين عن العمل، في ظل الاستنزاف والاستغلال لقوة العمل، وهذا الأمر على الرغم من كونه مؤشراً ديموغرافياً اجتماعياً، إلا أن قاعدته وأسبابه اقتصادية معيشية مباشرة، وهي من كل بد مرتبطة بالسياسات الاقتصادية الليبرالية المتبعة منذ عقود، بالإضافة طبعاً إلى كل مفرزات وتداعيات الحرب والأزمة، التي زادت من مفاعيل هذه السياسات السلبية.
ففي التفاصيل التي لها علاقة بالأسرة وتكوينها والحفاظ عليها، وبالعمق في أسباب انخفاض عدد الزيجات وارتفاع نسب العنوسة مثلاً، من المعروف سلفاً أن جوهرها اقتصادي معيشي بحت، ويتضح ذلك أكثر بعد استبعاد الأسباب الاجتماعية الديموغرافية وفقاً لما سبق، اعتباراً من تأمين السكن، مروراً بتأمين أثاثه ومستلزماته، وأخيراً بالمستوى المعيشي المرتبط بمستويات الأجور المتدنية، وكل ذلك مرتبط بشكل مباشر بالسياسات الاقتصادية المتبعة، التي كانت السبب المباشر في التردي المعيشي، وزيادة معدلات الفقر والبطالة والتهميش، وارتفاع معدلات الاستغلال والفساد المعمم، والتي تعتبر من أهم أسباب العزوف القسري والمفروض عن الزواج، وبالتالي ارتفاع نسب العازبين، بما في ذلك ما اتفق على تسميته بالعنوسة كظاهرة يمكن تعميمها على الذكور والإناث بمدلولها العام، بعيداً عن مدلولها الاجتماعي المرتبط بالإثاث في سن معين فقط، علماً أن هذا السن ارتفع على إثر زيادة نسب التعلم بين الإناث وارتفاع سويته، ودخولهن سوق العمل.
الأخصائيون.. الأوضاع الاقتصادية هي السبب
أخيراً، نستشهد بما ورد على لسان الدكتورة في كلية التربية بجامعة دمشق «منى كشيك» عبر صحيفة البعث مؤخراً، حول موضوع الأسرة والعنوسة وغيرها، حيث أشارت إلى: «ضرورة عدم إغفال الحجر الأساس في المشروع المتمثّل بتأمين منزل، إيجار أو ملك، وهذا يعني بضعة ملايين، ومن النادر والصعب اختصار هذا المبلغ، فبعد أن ارتفعت أسعار العقارات بيعاً وإيجاراً في ظل الظروف السياسية، أصبح الحصول على منزل في منطقة آمنة حلماً يراود المقبلين على الزواج، في ظل هذه التكاليف الخيالية لمتطلبات الزواج التي يصعب تأمينها لدى معظم الشباب السوريين، بمن فيهم المستقرون مادياً الذين يعيشون يومياً في كنف تداعيات الحرب، والأزمة الاقتصادية الخانقة، وزيادة معدلات البطالة». وأوضحت الدكتورة أنّ: «أحدث الدراسات تشير إلى أن نسبة العنوسة في سورية وصلت إلى 70% لأسباب ارتبطت بالأوضاع الاقتصادية، والأوضاع السياسية التي تمر بها البلاد في السنوات الأخيرة».
معالجة الجوهر والبداية بالسياسات
والخلاصة، أن معالجة الظواهر أعلاه تحت عنوان الأسرة والحفاظ عليها، لا يمكن أن يكون عبر التركيز على جوانبها الاجتماعية وارتباطها بالثقافة الموروثة أو بالأخلاق..، أو عبر اللجوء للجمعيات والمنتديات والجهات المعنية بهذه الجوانب فقط، برغم أهمية كل ذلك طبعاً، بل بالذهاب مباشرة لمعالجة أسبابها الجوهرية العميقة المتمثلة بالواقع الاقتصادي المعيشي، والسياسات الليبرالية المعتمدة من خلفه، فهي السبب الرئيس عملياً خلف هذه الظواهر وسواها من الظواهر الأخرى، بما في ذلك الظواهر الهدامة اجتماعياً، وعلى رأسها الفساد، وشبكاته العاملة، الكثيرة والمتشعبة بامتداداته وارتباطاته مع كافة الظواهر السلبية، حتى خارج الحدود الوطنية.
أي: بالقطع مع السياسات الاقتصادية الاجتماعية المتبعة (الظالمة للفرد والمجتمع والوطن) بشكل نهائي، وتغييرها جذرياً بما يؤمن الحفاظ على الأسرة كبنية ونموذج وأساس اجتماعي، وفسح المجال أمام الشبان لتكوين بناهم الأسرية الخاصة السليمة من أجل وطن معافى وسليم، وكل ما عدا ذلك ما هو إلّا عبث وتضليل وإضاعة للوقت ليس إلا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
913