ملحمة البحث عن لقمة العيش!
سمر علوان سمر علوان

ملحمة البحث عن لقمة العيش!

حتى قبل سنوات الأزمة، ألفت الشوارع السورية «بائعي الطرقات»، أولئك الباعة الذين يبسطون بضاعتهم على الأرصفة، ليبيعوا ما تيسر لهم من منتجات تدر عليهم أرباحاً متواضعة، تعينهم على تكاليف المعيشة الصعبة.

لكن وخلافاً لما اعتاده المجتمع، تتنامى ظاهرة النسوة البائعات، ولا سيما في دمشق، حيث يحملن بضاعتهن المتواضعة، والتي غالبا ما تكون من إنتاجهن المنزلي، ويتجهن صوب أرصفة العاصمة قادمات من الأرياف والبلدات المجاورة، بعد أن تردت أوضاع أسرهن المعيشة، أو فقدن المعيل بفعل سنوات الحرب الطاحنة.

فقراء بالجرم المشهود!
على امتداد شوارع دمشق، يمكن أن تراهن وقد اتخذن زاوية معينة يقصدنها كل يوم في انتظار الرزق، فمن البرامكة إلى باب سريجة وشارع الثورة وحتى الجسر الأبيض والمهاجرين، تجلس عشرات البائعات ليبعن كل ما يمكن أن يخطر لك على بال، بدءاً من المواد الغذائية وليس انتهاءً بالألبسة الجاهزة والأدوات المنزلية.
لدى كل امرأة منهن القليل من البضاعة والكثير من المواجع، فيكفي أن تسأل إحداهن بضعة أسئلة عن مهنتها، حتى تروي لك كيف ساقتها الأقدار إلى أحضان الرصيف، لتزاول مهنة تصعب حتى على الرجال، فلا البرد القارس ولا الحر الشديد ولا دوريات المحافظة ترأف بحال هؤلاء اللائي أوصلتهن سبع سنوات من الحرب، وعشرات السنوات من السياسات الاقتصادية الخاطئة، إلى مهنة قاسية يمارسنها مكرهات، ومحاولات التواري عن أنظار الشرطة كما لو كنّ مذنبات، جرمهنّ الوحيد أنهنّ أًفقرن وما زلن متمسكات بحقهنّ في العيش الكريم.

«من رضي عاش»
في ثلاث كلمات اختصرت بائعة الخضار في شارع الثورة واقعها الصعب، محاولة أن تواسي نفسها بأن هذا هو ما كتب لها، وأن الله سيعوضها خيراً منه فيما بعد، تجلس هذه السيدة النحيلة قرب بضاعتها قرابة ست ساعات كل يوم، تبيع السلق والسبانخ والفطر والبقلة، وكل ما تجود به أرضها في القنيطرة منذ مطلع الصباح وحتى الثانية ظهراً، حيث تقفل عائدة إلى مدينتها متحملة عناء المواصلات وتكاليفها وصعوبة المهنة، لا سيما في الطقس البارد كروتين يومي لا مفر منه، وعزاؤها الوحيد في ذلك أن سوق العاصمة أفضل مما هي عليه في مدينتها المهمشة، لتعكس حالها، واقع كثير من المزارعين في الأرياف السورية، ممن يضطرون إلى بيع منتجاتهم بأنفسهم كي لا يعيشوا تحت رحمة التجار.

ميزان وثياب
غير بعيدة عنها تجلس سيدة أخرى على الرصيف المحاذي لقلعة دمشق، تشي هيأتها وملامحها الحزينة بفقر أشد وواقع أقسى، وتروي هذه السيدة قصة فقدانها لزوجها واضطرارها إلى البيع على الرصيف كحل وحيد لإعالة أطفالها الذين ما زالوا في المرحلة الابتدائية، بضاعتها عبارة عن قليل من «الجينزات الولادية» منخفضة الجودة، وميزان متهالك لمن يرغب في قياس وزنه لقاء قليل من الليرات- وهو يعلم سلفاً أنه ليس أكثر من علبة معدنية عديمة الجدوى، تحمي بها البائعة كرامتها من مذلة الصدقات-  وتقصد السيدة كل يوم الركن ذاته قادمة من النبك، حيث تقدم لها ورشات الألبسة المحلية مصدر رزقها المتواضع، لتتقاضى لقاء ذلك أجراً لا يتعدى 400 إلى 500 ليرة يومياً، وهو مبلغ لا يكاد يكفيها خبزاً لإطعام أطفالها.

«تازة ونظيف»
في سوق مزدحم مثل باب سريجة، تجد تجمعاً للعديد من البائعات اللاتي اخترن هذا المكان لتسويق منتجاتهن.. وجميعهن قادمات من الأرياف أملاً في لقمة العيش ضمن أسواق المدينة، «بدنا نستر على حالنا» تقول بائعة الجبن واللبنة الآتية من سعسع عند سؤالها عن عملها، قبل أن تستطرد بسرد محاسن منتجاتها منزلية الصنع وفيرة الدسم، آملة في جذب المشترين، وتبيع هذه السيدة ما تصنعه في البيت من مشتقات الألبان خلال المواسم، أما في باقي العام فتعتمد على بيع منتجات المصانع الصغيرة.
ورغم الجو البارد، خصوصاً في مطلع الصباح، تجلس بائعة الجوز العجوز على إحدى العتبات في باب سريجة أيضاً، وتعرض صنفين: أحدهما سليم والآخر مكسر مع فارق 500 ليرة بينهما، ومثل سائر بائعات الأرصفة، تؤكد العجوز القادمة من سرغايا أن سلعتها أوفر ثمناً، وأكثر جودة من المحلات التجارية، على أمل أن تفلح في إقناع العابرين بشراء ولو قليل من الجوز.

الحصى والجرّة!
في الجسر الأبيض، تتقاسم سيدتان بسطة عرضتا عليها التين المجفف والزبيب والجوز، لتشكل مصدر دخل هزيل يساند أسرتيهما اللتين تعيشان معاً في منزل أجرته سبعون ألفاً في برزة، والبسطة تعجز عن تأمين حتى نصف هذا المبلغ شهرياً، لكن ما باليد حيلة فالحصاة الصغيرة كما يقول العامة، يمكن أن تسند جرّة، ولعل الجرّة في حال أولئك النسوة البائعات هي: حمل ثقيل من هموم الحياة ومتاعبها، قُدر عليهن أن يحملنه بمفردهن بعد أن شردت الحرب أسرهن وغيبت رجالهن، وبعد أن تفاقم الفقر والاستغلال في صفوف الطبقة الكادحة مع استمرار سياسات التهميش والتفقير والتهجير!