الزبداني سياحة  وحرب .. ووعود !
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الزبداني سياحة وحرب .. ووعود !

لا مكان للبكائيات والمراثي، فالحياة تفرض إيقاعها بجنونها وضراوتها وصخبها وضروراتها ومستلزماتها، فلا استسلام أمامها ولا انكسار معها، مهما اشتدت بقسوتها على التفاصيل اليومية.

هذا واقع إنساننا السوري تاريخياً، وهو ما ظهر بصورته الأكثر جلاءً خلال سني الحرب والأزمة، وأهالي الزبداني ليسوا استثناءً على ما سبق، فهؤلاء عانوا وما زالوا؛ بداية من تداعيات الحرب والحصار والمسلحين، وليس نهاية بمآل حالهم اليوم في ظل انعدام المأوى والموارد ومصادر الرزق، وفي ظل مكاييل التعامل المختلفة رسمياً مع معاناة المنطقة، ومع ذلك تراهم منكبين بطاقاتهم من أجل استعادة حياتهم ونشاطهم الاجتماعي والاقتصادي.
مشاهدات الطريق
يبدو الطريق الواصل من دمشق إلى الزبداني جيداً، فهو مفتوح وممهد ونظيف، وورشات الكهرباء تعمل على صيانة أعمدة الإنارة الممتدة على طوله، تسهيلاً لحركة عبور السيارات التي تنقل السياح ورواد المطاعم إلى المنطقة صباحاً ومساءً، بالإضافة لوسائط النقل التي تنقل أبناء المنطقة وتخدمهم، وقد استعاد الطريق عافيته بدليل زيادة الحركة عليه، وخاصة مع نهاية الأسبوع.
الأبنية والفلل والمزارع على طول الطريق تبدو من الخارج على حالها، باستثناء آثار طلقات على هذا البناء أ ذاك، أو فجوات في بعض الجدران، الخارجية والداخلية، لكن ما يجمعها بأن جلّها خضع لعمليات التعفيش، حسب أقوال الأهالي.
بعض الاستراحات على الطريق الطويل بدأت تستعيد عافيتها رويداً رويداً تخديماً للسياح والعابرين، حسب إمكانات أصحابها وملاءتهم، وهذه الاستراحات تعتبر أحد مصادر الرزق للقائمين عليها، والعاملين فيها من أبناء المنطقة، والتي يقتصر عملها على يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وخلال فصل الصيف فقط.
سريالية كئيبة!
مشهد مدينة الزبداني من الداخل، والذي نادراً ما تصله زيارات السياح والعابرين والمُستطعمين، وربما من زيارات الرسميين من المسؤولين، يختلف كل الاختلاف عن كل مشاهدات الطريق الطويل الواصل إليها.
ندخل في شوارعها الداخلية والفرعية، لتبدو ندبات الحرب وآثارها ظاهرة للعلن بالفجوات والحفر عليها، ولتختلط على طرفيها بقايا من مخلفات السواتر الترابية المُزالة مع بعض مخلفات الأبنية المتصدعة والمدمرة.
أعمدة الكهرباء الممتدة في الطرقات الرئيسة والفرعية تبدو عارية بلا أسلاك، وقد تقطعت بها الحياة، مع وجود بعض الورش التي تعمل على إعادة بث الحياة في بعضها، وكذلك هي حال بعض الورش التي تعمل على إعادة الحياة للشبكات الحياة الأخرى في المدينة، مياه واتصالات، وشبكات الصرف الصحي.
أما مشاهد بقايا الأبنية والبيوت فهي التي تدمي القلب والروح، فلا بناء سليماً في كل المدينة الكبيرة، لتغدو عبارة «الأضرار الكلية والجزئية» لا محل لها من الإعراب، مقارنة مع حجم الدمار الذي أصاب هذه الأبنية، واستنزاف كافة ممتلكات أصحابها كافةً نهباً وتعفيشاً، في المدينة القديمة.
تتوه الصورة في معالمها، فهذا مسجد اتكأت بعض جدرانه المتهدمة على بقايا البيوت الملاصقة، وتلك كنيسة تداخلت تضاريسها مع محيطها عبر فجوات جدرانها الواسعة، ولولا القباب والمأذنة لما تبدت إمكانية التمييز في مخلفات الدمار، لتتداخل ألوان جدران البيوت الداخلية، التي أصبحت في العراء، مع آثار السواد الناجم عن القذائف، و شحوب ألوان الغبار والأتربة.
لا نوافذ ولا أبواب ولا شرفات ولا نواصٍ ولا حكايات، ولعل بعض البقايا والنثرات فقط هنا أو هناك، هي وحدها الدليل على أن تلك الجدران المتهدمة والمتصدعة ما زالت تعيش فيها أرواح ساكنيها، في مشهد سريالي سوداوي وكئيب، يجمع ذلك كله تحت زرقة السماء الصافية في يوم صيفي.
أشجار تلعن قاتلي الحياة
في محيط المدينة، الذي كان فيما مضى بساتين غناء كبيرة متصلة بمساحاتها الواسعة، مظللة المنطقة بغطاء من الحياة باعثة الطمأنينة والفرح والسرور، بأشجارها المعمرة بعمر الزمن والتاريخ، بتفاحها وكرزها وجوزها ودراقها وصفصافها، لم يبق منها إلا بقايا لجذوع أشجار فقدت إمكانية التعرف على ذاتها، حتى لتكاد تسمع أنّاتها جراء استنزاف حياتها قطعاً أو حرقاً، وكأنها تطلق لعناتها على الحرب والقائمين عليها، من قتلة الحياة.
مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، كانت فيما مضى مصدر الرزق الوحيد للفلاحين من أبناء المنطقة، أصبحت جرداء، اللهم من بعض بقايا الحياة المتناثرة في بعض الأشجار المنتصبة عناداً وصلابة، لتعيد الأمل في نفوس هؤلاء الفلاحين، لاستعادة حياتهم وحياتها، ولاستعادة مصدر أرزاقهم المهدورة التي أكلتها الحرب، والتي تحول إمكاناتهم المتواضعة والمعدمة من تحقيقه.
عناد في مواجهة
الانكسار ونهش الاستغلال
وحدها بعض الأسر، والتي تقدر بحدود 500 أسرة، بشيوخها وأطفالها، بفلاحيها وموظفيها وعامليها، العائدة لتستقر في المدينة على وضعها الراهن من الدمار، هو ما يبث الحياة والدفء فيها، على الرغم من المآسي كلها وندبات الجروح الغائرة عميقاً في نفوسهم، والتي يغيبونها عمداً، معاندين الانكسار، معلنين انتصار الحياة وانتصارهم لها.
فالشادر أصبح بديلاً عن الأبواب، والنايلون بديلاً عن النوافذ، تحت سقوف لا تخلو من الفجوات، هي ملاذ هؤلاء العائدين إلى مدينتهم، ليعيشوا في بقايا بيوتهم التي تهدمت وتمزقت أركانها، إلا من إرادتهم، بعد أن نهشتهم ضراوة الحرب والنزوح، كما نهشهم تجار وسماسرة الحرب والأزمة، في مآويهم المؤقتة، كما في قوت يومهم ومعاشهم.
بعض الورش الحرفية والمهنية، كما بعض المحلات، بدأت تستعيد نشاطها داخل المدينة القديمة مقدمة خدماتها للأهالي، أغذية وخضاراً وسمانة، ونجارة وحدادة وأعمال بيتونية، وغيرها من الخدمات الأخرى، معلنة بدء التعافي المحدود والمقيد بالإمكانات المتاحة، وشبه المعدومة للأهالي.

للحديث تتمة عن المعاناة!
أخيراً بعد هذه المشهدية كلها السريالية بعمقها وبتفاصيلها ومعاناتها، يبحث الأهالي عن دور الدولة، بوزاراتها وجهاتها العامة، وعن ترجمة الوعود الكثيرة التي أُطلقت على ألسنة المسؤولين الحكوميين منذ استعادة المدينة من أيدي المسلحين، من أجل تذليل صعوبات حياتهم لاستعادتها أفعالاً وليست أقوالاً إعلامية فقط، اعتباراً من الخدمات العامة، مروراً بالتعويضات عن الأبنية المدمرة والمتصدعة، وليس انتهاءً بتعويضات الأراضي الزراعية والأشجار باعتبارها المصدر الأساسي للرزق، وصولاً لإعادة الإعمار كخطة شاملة في المنطقة، والتي تعتبر مقدمات لا بد منها من أجل عودة جميع أهالي المدينة وساكنيها جميعهم إليها.
وربما مؤقتاً سننقل ما قاله أحد المواطنين في معرض الحديث عن بعض أوجه المعاناة: «التعويضات ع الوعد يا كمون».
فيما قال آخر: «السياحة والسواح والمطاعم هي الأولوية الحكومية»..
وهو ما سنفرد له الحديث في متابعتنا اللاحقة عن المنطقة وأهلها ومعاناتهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
832