من أزمة نقل إلى أزمة نقل ومرور وتلوث!

دمشق الجميلة التي سطرت أمجادها صفحات نقية ومجيدة في التاريخ كونها أقدم عاصمة مأهولة ومستمرة في التطور والازدهار عبر آلاف من السنين، مدينة الياسمين التي تنسال أزهارها كخيوط بيضاء على جدران بيوتها وحدائقها، مدينة البساتين التي ترتوي من بردى، التي يحضنها قاسيون حضن العشيق لعشيقته؛ دمشق تعاني الكثير من الأزمات المستعصية التي أرهقت قاطنيها واستعصى حلها على المسؤولين فيها.

ففي سبعينيات وثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي كانت دمشق وغيرها من المدن السورية تعاني من أزمة نقل تنقل خانقة، وكان المواطنون يعانون في تنقلاتهم سواء داخل المدن أو بين المدن والأرياف وكان الحل لهذه الأزمة التي تفاقمت أن كفت يد القطاع الخاص عن ممارسة دوره في النقل الجماعي بالباصات العتيقة من موديلات الخمسينيات، وتم إنشاء شركة النقل الداخلي (قطاع عام) بباصاتها الجديدة والتي حلت جزءاً من هذه المشكلة، وبقي القطاع الخاص يمارس دوره عبر سيارات التاكسي (الأجرة) وإلى جانبها سيارات التاكسي (السرفيس)، ورغم كبر مدينة دمشق والزيادة الكبيرة التي طرأت على عدد سكانها، والذين بلغ عددهم حد الـخمسة ملايين نسمة، فلم يقم المسؤولون في العاصمة بما فيهم القائمون على إدارة المرور فيها سواء في المحافظة أو في إدارة المرور بأية حركة أو فكروا للمستقبل أو بكيفية حل هذه المشكلة حلاً جذرياً، وهي تعاني من شوارعها الضيقة رغم كل الشوارع الجديدة والعريضة التي تم شقها، خصوصاً في أطراف المدينة، والتي اقترب بعضها من قلبها (شارع الثورة –المتحلق الجنوبي مثالاً)، ولا شك أن حل هذه الأزمة هو من أولويات الحكومات التي تعاقبت في العاصمة و ترك قاطنوها يعانون الأمرين في تنقلهم وضياع أوقاتهم على الطرقات للوصول إلى أماكن عملهم ودراستهم وخصوصا الجامعيون منهم.

 في بداية التسعينيات لم يجد المسؤولون حلا للمشكلة إلا باستيراد (المكرويات) الصغيرة حمولة الـ11 والـ14 راكباً، وانتشرت هذه الوسيلة في النقل انتشار النار بالهشيم حتى أصبحت الوسيلة الأولى للنقل في أغلب المدن والأرياف، فحلت مشكلة النقل داخل المدن وبينها وبين الأرياف لدرجة ان بعض الخطوط صارت تعمل لمدة 24 ساعة دون توقف، والغريب في الأمر أن حل أزمة النقل رافقتها أزمة جديدة لم تخطر على بال المسؤولين، ألا وهي أزمة المرور بفضل الانفتاح الذي جرى على استيراد مختلف أنواع السيارات بما فيها هذه المكرويات والتي سماها البعض بـ(الجرذان البيضاء)، ففي شوارع دمشق وحدها هناك ما يربو على عشرين ألف من هذه المكاري، تجوب فيها ليلا نهاراً، وتحولت مدينة دمشق إلى مرآب للسيارات ولو قدر لـ50% من السيارات الموجودة بالسير دفعة واحدة فإن المتنقل من غرب المدينة (المزة مثلاً) إلى شرقها (القابون)) سيحتاج إلى ما بين 5 و6 ساعات ليصل وجهته، وهذه المدة يمكن أن يصل خلالها إلى حلب!

 أضف إلى ذلك أن المحافظة كفت يد القطاع العام عن ممارسة دوره في النقل الداخلي عبر باصاته الكبيرة إلا ما ندر (الدوار الجنوبي) مثالاً، وفتحت هذا المجال أمام القطاع الخاص الذي يقوم بتكديس الراكبين كأنهم باذنجان والباص (قطرميز)، وعرق الراكبين هو زيت (المكدوس)..

لكن الأمر المحزن والمضحك معاً هو أن دمشق الآن تعاني من أزمتين خانقتين لا حل قريب لهما وهما: أزمة مرور وأزمة نقل معاً في الأوقات العادية، ثم جاءت أزمة نقص المازوت لتزيد (الطين بلة) ما أدى إلى عودة واستفحال أزمة النقل إلى  أكثر مما كانت عليه سابقاً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أضف إلى هاتين الأزمتين الخانقتين ما تعانيه مدينة دمشق من تلوث لبيئتها وهوائها بفضل ما تنفثه هذه (الجرذان) من دخان أسود كثيف فكل جرذ منها يترك خلفه غيمة سوداء ينفثها العادم إلى الهواء، وقد أصبحت قضية تلوث البيئة مشكلة حقيقية أضيفت إلى المشاكل المزمنة الأخرى وتأتي على رأسها أزمة النقل وأزمة المرور.

لقد آن الأوان لكي يفكر المسؤولون عن حل هذه المشاكل المزمنة حلولا جذرية وأن ينظروا إلى مستقبل المدينة  نظرة ثاقبة تستشف من خلالها الآفاق المفتوحة أمامهم، ولو أنها أضحت  ضئيلة، والخيارات المطروحة قليلة ومنها المترو لكن أضحى تنفيذه صعباً ومكلفاً جداً، أو القطار المعلق على سكك مرتفعة (أوتومتريس)، وهو حل ماليزي، أو إنشاء الجسور الطويلة، أي تركيب شارع فوق آخر مقام سابقاً، وهو حل ألماني، ومتابعة أقامة الأنفاق والتحويلات وهو حل سوري لم يجدِ حتى الآن من ينفذه، ولابد من تذكير المسؤولين بالمثل العربي القائل «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك» فماذا انتم فاعلون؟؟!.

 

■ قاسيون

معلومات إضافية

العدد رقم:
544