أوراق خريفية ما أحوجنا إليها..

منذ أكثر من عشرين عاماً اتبعتُ دورة في المعهد الإعدادي لاتحاد نقابات العمال لمدة شهرين. وكان نصيبي أن ألقي كلمة الخريجين باعتباري الأول على دفعتي. ولدى إعدادي كلمة بهذا الصدد، طلب مني مدير المعهد أن لا أنسى في كلمتي ذكر كل من له فضل علينا في هذه الدورة؛ بدءاً من الأساتذة المحاضرين مروراً بإدارة المعهد وصولاً إلى القيادة الحكيمة بقيادة السيد الرئيس..

قلت في نفسي سأكون مرناً قدر المستطاع. وبالفعل كتبتُ في نهاية الكلمة مايلي: «ولن ننسى الجهود الكبيرة التي بذلها السادة المحاضرون في إيصال الكلمة المفيدة والمعلومة الغنية، فألف تحية لهم ولجهودهم. وأختم كلمتي بتوجيه التحية باسمكم جميعاً للسيد رئيس الجمهورية على..»
لدى اطلاع مدير المعهد على مسوّدة الكلمة، وقف يرغي ويزبد وكأنني قذفته بقنبلة مسيلة للغضب قائلاً: ما هذه الكلمة السخيفة؟ كيف تتجرّأ وتذكر اسم السيد الرئيس دون أية صفة حميدة؟ قل لي هل أنت معارض للنظام؟
أُصبتُ بالصدمة والذهول من ردة فعله التي وجدتها غير مبررة، فأجبته بمنتهى البراءة:
- ما الأمر أستاذ؟ لم أفهم عليك إطلاقاً!

أجاب وهو يستشيط غضباً:
- هل يوجعك فمك إذا قلت الرئيس المناضل؟ الرئيس القائد؟ المعلم العظيم؟ أم أنك... لا ترى فيه هذه الصفات؟
أجبته مرعوباً: أعوذ بالله أستاذ! ما هذا الكلام؟!! مَنْ أنا حتى ينتظرني السيد الرئيس لينال مني لقب المناضل أو العظيم أو الفذّ أو غير ذلك من الألقاب؟ أنا لا أرى أية ضرورة لهذه المجاملات أبداً.. وأعتقد أن السيد الرئيس نفسه لا يرضى بعبارات التملق والزلفى التي يتفوّه بها المسؤولون أثناء خطاباتهم..

جلس على كرسيه وقد هدأت نبرته:
- اذهب وعدّل الكلمة، لم يبق إلا القليل حتى يقبل عضو قيادة الفرع والرفيق رئيس اتحاد العمال وبعض المسؤولين الآخرين... هيّا وإياك أن تنسى الملاحظات التي ذكرتها.. ثم أنك لم تتطرّق لنا بكلمة واحدة.. أم أننا لا نستأهل منك أيضاً حتى تحية؟
 قلت له وقد آثرْتُ الابتعاد عن المواجهة بعد أن تملّكني اضطرابٌ مشوبٌ بذعر حقيقي:
 - أستاذ! يبدو أننا لن نتفق، وأقترح عليك تكليف أحد الزملاء عوضاً عني في إلقاء الكلمة، ولْيكن رفيقي الذي حاز المرتبة الثانية في دفعتنا..
 أجاب مشمئزاً وقد عاد العبوس إليه:
 - إنه شيوعي! معارض من خارج الجبهة، ولا نريد أن يبيض علينا ويتحفنا بمطاليبه الحزبية عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد وضرّاب السخن... أنت رجل (حيادي إيجابي!) كما علمنا وتتمتع بسمعة جيدة.. لذلك، يرضى عليك اذهب وعدّل الكلمة قبل أن يدركنا الوقت..
قلت في نفسي إلى متى سأخفي انتمائي السياسي؟ سأبقّ هذه البحصة وليكن ما يكون:

- على فكرة أستاذ، أنا أيضاً شيوعيّ؟
أسند جزعه جيداً على الكرسي وارتسمت علامات الدهشة والتعجّب على محيّاه وحملق بي معاتباً:
- هكذا إذن! ولماذا أخفيت عنا صفتك الحزبية طيلة الشهرين الماضيين يا.. يا رفيق؟
- لم يسألني أحد..
- مم، ومن أيّ فصيل أنت؟ بكداش؟ أم فيصل؟ أم الترك؟ أم...
أحسستُ أنه يريد إهانتي بهذا السؤال فقد مسكني باليد التي تؤلمني، فأجبته حازماً:
- أنا شيوعي من الجبهة، ولا ضرورة لذكر المزيد من التفاصيل..

استطرد ممعناً في إحراجي:
- ولماذا تخفي علينا حقيقة انقساماتكم؟ الجميع يعرف أنكم متشظّون لأكثر من جناح...
- صحيح، ولكن مآلنا الوحدة. والمساعي حثيثة للوصول إلى هذا الهدف.. فما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرّقنا..
ويبدو أن (جبهويّتي) قد أخمدت جذوة غضبه نوعاً ما فقال بفتور:
- على كل حال، نتمنى لكم التوفيق، فأنتم في نهاية المطاف رفاقنا..

●     ●     ●

ومنذ أيام وبينما كنت في سهرة مع بعض الأصدقاء, قدّمني أحدهم معرفاً بي الحاضرين وهو يربّت على كتفي قائلاً:
- أعرّفكم على صديقنا الذي ما زال شيوعياً بالرغم من انحسار الشيوعية في العالم.. إنه أحد مدمني حمل السلّم بالعرض.
فما كان من أحد الحاضرين إلا وصفعني بسؤاله:
- بالمناسبة, من أيّ جماعة حضرتك؟ بكداش؟ أم فيصل؟ أم الترك؟ أم...
أجبته بحزن وأسى كاتماً حرقة أليمة من سؤاله الذي طالما عذبني وعانيتُ منه سابقاً:
- لقد قدّمني صديقي إليكم على أنني شيوعي, والصحيح أنني ماركسيّ, لأنني حالياً لا أنتمي إلى أيّ فصيل..
خرجتُ إلى الشرفة وأنا أسحب نفساً طويلاً من سيجارتي متسائلاً بمرارة وألم:
تُرى, هل سأعاصر ذلك اليوم الذي تتحقق فيه أمنيتي وأمنية جميع الشرفاء في كل الفصائل, بوحدة جميع الشيوعيين السوريين في حزبٍ واحدٍ موحّد؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
279