مطبات: من هنا مرَّ المحافظ

فجأة وعلى غير العادة والمألوف، شاهدناهم يقفزون من أربعتهم، فنحن لم نعتد مشاهدتهم جماعة وبهذا الحماس، ولم نلمح نشاطهم كأنهم استيقظوا من سبات عميق، أو أن شيئاً ما أفزع نومهم الطويل فهبوا منه مذعورين.
فجأة تجمعوا وانهالوا على الصمت المفزع عملاً، رموا كسل الشهور والسنوات عن ظهورهم، وتبين أن عجزهم لم يكن سوى حيلة من أجل التخمة، رسالة لمن يريد أن يرى بلده بحجم تاريخها الذي حفظّوه لنا عن ظهر قلب، ومن ثم قرروا أن يمسحوا ما قد علموه على أنه ليس مناسباً للمرحلة.

الشوارع التي كانت بالأمس مرهونة للحفر فقط ولضحاياها من الضالين في العتمة، الشوارع تلك صارت سوداء ناعمة ولامعة، تشتهي لو تدوس على جمرها من شهوتك واشتياقك لـ(زفت) جديد، (زفت) حتى ولو كان على شاكلة أيامك، ولون وجهك ويديك وكعبيك وطالعك، لون أول الشهر وأوسطه وآخره، أول الموسم وآخره، أصغر عيد وأكبره، لون النار التي ستزروها ذات يوم لأنك همست في خلدك، لعنت في سريرتك، كفرت بصمتك، وثرثرت مع الجدار الذي سيفضحك، ونمت دون هز من تعبك، (زفت) لو حلمت به وأيقظت من صياحك الجيران، (زفت) حدثت به نفسك وأبناءك ورفاق السوء أمثالك من سكان المحيط المقرف للمدينة التي يقطعها المتحلقان.

الحاويات التي كانت بالأمس ملعباً هانئاً للقطط المتسخة والجرذان المخيفة، ومطاراً للذباب الهارب من الموت القادم من الـ( بف باف)، الحاويات صارت تشبه أصص الزهر الدمشقي الذي مات من قلة الماء والحب، اشتهيت بلحظة جنون أن ترمي نفسك فيها وترفع قدميك في الهواء من فرح غامر، أن تنتظر في فيئها النظيف سرفيس (الشام)، أن تمد لسانك لتغيظ القط والجرذ والصحفي الذي لا يكتب إلا عن النظافة، أن تجره من يده وتريه وجهه في الحاوية التي تشبه مرآة الساحرة والملكة والعذراء في القصص القديمة عن حياة الملوك والأمراء الفاتحين.
الوجوه التي كانت البارحة تشاركك البؤس، النظرات البلهاء من الجوع والشمس الملتهبة منذ الصباح الباكر، الشعث، والغبر، والمتسخين، والمواطنين، والموظفين، والفتيات اللواتي تسرولن، العاطلين عن العمل وغير العمل، المجانين، مرضى الفصام، الغانيات، ماسحات البيوت، ماسحي الأحذية، البؤساء، المثقفين المتأففين، المتشائمين كلهم... تغيرت الحال، وتبدلت عن الأمس، كأن الأمس كان كابوساً طويلاً، وحلماً مزعجاً عن بلد آخر.. كل هؤلاء ليسوا هم.. تغيرت الوجوه، والنظرات، التفاؤل في خطوات الناس، رائحة العطر في الشوارع المعبدة وبجوار الحاويات المرايا، السماء صافية، والضحكات تعلو في المكان منذرة بيوم مسروق من عالم عجائبي.

 أمام الباب الكبير للمركز الثقافي تجمهر الناس، وصوت الهمهات الساكنة لا يزعج الأذن، ويتعالى المواطنون بنظراتهم ليشاهدوا مجموعة من الرجال يرتدون البزات الأنيقة، اللامعة، وعلامات الترقب والانتظار تعلو وجوههم، بعض هذه الوجوه لا بد أنك تعرفه، رأيته، ولكنهم ربما أخذوا حماماً طويلاً في البيت أو في السوق غير مهم، ولكن صورهم أبهى وأجمل.
فجأة تباعد الناس، واقترب النظيفون بعد أن اخترقت المكان سيارات سوداء، هرع النظيفون للتحية والسلام على الرجل الأكثر أناقة، وانحنى من كان في الصف الثاني، ثم دخلوا خلفه بابتسامات جديدة ونظيفة.. سكن المكان.

في اليوم التالي، لم تزل مشاهدات اليوم السابق في ذاكرة المواطن المتشائم، وما زالت رائحة العطر تخدش أنفه، لم ينم تلك الليلة، لم يصدق بزوغ الشمس، في أعماقه لهفة لرؤية الشارع والحاوية والناس والرجال الأنيقون، والرجل الأكثر أناقة، ركض بكل قوته إلى الشارع، باغته اللون الأسود اللامع، الحفر التي اختفت.. لم يكن حلماً ما شاهده الأمس المنصرم، إذاً هي الحقيقة.. مواء متعجرف شق صمت الذهول الذي اعتراه، وجرذ كبير مر من بين قدميه بسرعة مخيفة أفزعته، أكياس مفتوحة على الأرض، وجوه تعبر مغبرة، شعث، متشائمة، نساء يشبهن نساء أول أمس، النشيطون غابوا عن المكان، بوابة المركز الثقافي وحيدة، أيقظه شارد آخر من شروده.. كان المحافظ هنا.
• ملاحظة: لماذا يتقيد السادة المحافظون بالطرق المعبدة التي يرسمها السادة رؤوساء البلديات؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
408