التعليم العالي السوري.. تجارة رابحة!

استمراراً لسياسة الإبعاد القسري للشباب عن مكانهم الطبيعي (مقاعد الدراسة الجامعية)، وبخطوة تعد امتداداً لفلسفة الحلم الجامعي التي أقرها أحد العباقرة السوريين، واستكمالاً للخطوات السابقة الهادفة إلى إجبار الطلاب، عبر قرارات وزارة التعليم العالي، على التوجه نحو التعليم الخاص وبأي ثمن كان، أصدر وزير التعليم العالي د. غياث بركات القرار /109/  تاريخ 17/3/2009، الذي تضمن مجموعة من القواعد الجديدة والمواد الخاصة بمفاضلة القبول الجامعي، على أن يتم العمل بها اعتباراً من العام الدراسي 2010/2011.‏

ولعل المادة الأهم في القرار المذكور هي المادة الثالثة التي تنص: «يحق للطالب الناجح في الثانوية العامة بفرعيها العلمي والأدبي التقدم للمفاضلة العامة مرة واحدة فقط إذا قبل فيها». وأوضح معاون وزير التعليم العالي د. علي أبو زيد أنه «إذا أراد الطالب تحقيق رغبته فعليه التقدم إلى مفاضلة التعليم الموازي في المرة الثانية، وذلك حرصاً على المقاعد المهددة من قبل الطلاب، والذين يسجلون ويحجزون مقاعد جامعية ولا يدرسون بناءً عليها.
فالقرار الجديد، وبالرغم من أنه يحوي جانباًً إيجابياً، وهو ما أوضحه معاون الوزير، إلا أن هذا الجانب الإيجابي الوحيد، لم يكن على الغالب السبب الأساسي الذي حدا بوزارة  التعليم العالي لاتخاذ هذا القرار، والذي يعد بالعموم، وقياساً بالمشاكل التي سينتجها، نقمة على كل المتقدمين للمفاضلة العامة دون استثناء، بدءاً من هذا العام،  سواءً كانوا من المتفوقين أم لم يكونوا، لأن القرار الحالي يعني إلغاء أمل الطلاب، ولو لعام واحد إضافي في دخول الفرع الجامعي الذي يسعون إليه أو يرغبون به، من خلال حصر مصيرهم ومستقبلهم في سنة واحدة، في ظل ارتفاع معدلات القبول الجامعي، حيث يحتاج الطالب لكي يقبل في أحد الفروع الجامعية ما بين 85 – 99 % من مجموع درجات الشهادة الثانوية، مما يجبر هؤلاء الطلاب الناجحين، والمقدرين بحوالي 40%  من المجموع الإجمالي للطلاب المتقدمين، في أغلب الأحيان، على إعادة امتحان الشهادة الثانوية لمرة أخرى، أملاً في تحصيل فرع جامعي أياً يكن، فالقرار لن يكون إلا نسخة من سابقاته غير المدروسة، والتي طبقت لمرة واحدة، ليتم التراجع عنها فيما بعد (قرار تثقيل المواد الظالم في عام 2006)، وبدورها تدفعنا هذه السابقات لطرح أسئلة عديدة، والتي على أساسها يحدد موقفنا من هذا القرار وهي: ما هو حجم الاستفادة؟ وما هي نوعية المستفيد؟ وإن كان هناك من مستفيد، فما هي نسبة المتضررين على الضفة المقابلة؟؟

هذا القرار حرم الطلاب من حقهم في التقدم إلى مفاضلة التعليم العالي لسنتين متتاليتين في حال النجاح، والذي هو حق تكفله الدولة في دستورها وقوانينها، عبر انتهاجها سياسة الاستيعاب الجامعي المفترضة، عوضاً عن التضييق عليه، ووضعه في خندق العجز.
وفي السياق ذاته، تعد فكرة البديل الحتمي للدخول إلى العتبة الجامعية، عبر اللجوء إلى التعليم الموازي، نقلة في فلسفة ونهج التعليم العالي في سورية، حيث تحول التعليم الجامعي، عبر الإجراءات المتتالية إلى شركة تجارية رابحة، ومؤسسة ربحية بامتياز، من خلال السعي المستمر باتجاه زيادة نسبة التعليم الموازي من حصة المقاعد الجامعية الحكومية، والذي استحوذ حتى الآن على خمس المقاعد الجامعية الإجمالية، حيث بلغ عدد طلاب التعليم الموازي 12972 طالباً وطالبة في عام 2008، فكم سيصبح عددهم بعد تطبيق هذا القرار؟؟ وما هي أعداد المتضررين من هذا التوسع العددي؟؟
فهل ذلك كله من أجل تحقيق أكبر العائدات المالية، عبر استغلال طموح الشباب السوري ورغبتهم في التحصيل العلمي؟ إن الشباب ما يزالون يناضلون لنيل شهادة جامعية على أمل أن تساعدهم في خلق فرصة عمل، وبالتالي فإنهم عندما تضيق بهم السبل سيجدون أنفسهم مجبرين على اللجوء إلى التعليم الموازي، إن استطاعوا ذلك أصلاً، حيث يقدر القسط السنوي للفروع الأساسية فيه بــ 120 ألفاً. فليس كل السوريين قادرين على دفع هذه المبلغ.. وبذلك يحب أن نسأل: أليس القرار مصمماً على قياس من أصدره في ظل واقع يشير إلى أن 92,6% من الأسر السورية لا يتجاوز دخلها الشهري 20 ألفاً، وفق الدراسة التي أعدتها الهيئة السورية لشؤون الأسرة، هذه الأسرة المتوسطة (4 – 5 أفراد) التي ينفق فيها الفرد شهرياً بحسب خط الفقر الأعلى 3053 ليرة سورية، أو  2183 ليرة سورية بحسب خط الفقر الأدنى، اعتماداً على الأرقام الإحصائية الرسمية، أي أن متوسط إنفاق الأسرة يتراوح بين 10 ألاف ليرة و15 ألفاً، فهل تمتلك هذه الأسر، والتي تمثل أغلبية السوريين، فائضاً مالياً يُقَّدر بمئات الآلاف، لكي تخصصه لتعليم أولادها في المؤسسات الجامعية الربحية السورية؟؟

ولقد ربطت المادة الأولى من القرار القبول الجامعي بالطاقة الاستيعابية التي يقررها مجلس كل جامعة، وفق إمكاناته البشرية والمادية المتاحة، وهذا يناقض المادة 37 من الدستور السوري، والتي تقرر بأن التعليم حق تكفله الدولة، بدلاً من أن يكون المال هو الضمانة والكفالة وجسر العبور إلى البوابة الجامعية، كما أن هذه المادة تعد أيضاً انتقاصاً جديداً من ديمقراطية التعليم المنتهكة أصلاً، حيث يفترض إتاحة الفرصة أمام أكبر عدد من الراغبين في دخول التعليم الجامعي، بدلاً من التضييق عليهم وإخراجهم، وإيصالهم إلى عنق الزجاجة، وهذا ما حصل في السنوات الماضية.. ففي عام 2008 الماضي مثلاً كان هناك أكثر من 30 ألف طالب خارج دائرة الاستيعاب الجامعي، على الرغم من أن قضية الاستيعاب كانت قراراً مركزياً على مستوى الجامعات السورية بأكملها، فكيف ستكون الحال والأرقام بعد أن تعطى كل جامعة حق الاختيار؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
408