ماذا يحدث في سورية؟ اقتصادنا في المزاد العلني وشركاتنا بأيدي ناهبيها

ما الذي يحدث في سورية؟ أحد محرري الصفحة الاقتصادية لجريدة تشرين الحكومية يجيب: (إن القرارات الحكومية التي صدرت في الأيام الماضية يمكن اعتبارها قرارات ثورية) وهو يقصد بالطبع تلك القرارات التي طرحت الشركات العامة للاستثمار وأغلقت بعضها!

لكن من قال لصديقنا الإعلامي إن هذه القرارات «ثورية»، أين الجانب الثوري فيها ، ومن قال له إن الشركات المطروحة للاستثمار جميعها خاسرة؟، ومن قال له إن الشركات الباقية ليست شركات مخسّرة وأن ليس هنالك فرق بين الخاسر والمخسَر؟ ومن قال له لماذا أغلقت بعض الشركات؟

الأهم من كل هذا من قال للسيد رئيس مجلس الوزراء ذلك؟

ألا يعني للحكومة أن عرض القطاع العام للاستثمار يعني تأجير الوطن، ومن بعد تأجيره، هل لدى الحكومة أية ضمانات ستمنع بيعه بالكامل؟

ثم لماذا هذه السرعة في عملية الإعدام، أليس للإعدام بروتوكولاته أيضاً؟ أليس من حق القطاع العام أن ينال محاكمة عادلة بحضور هيئة الدفاع على الأقل، وهم آلاف مؤلفة من ذوي الدخل المحدود؟ أم أن إجراء محاكمة كهذه لن يكون في صالح قوى النهب والسلب التي عملت على مدار سنوات على تخسيره تمهيداً لخصخصته؟ ...

إصلاح؟!

آمال كبيرة علقت على ما سمته الحكومة برنامج الإصلاح الاقتصادي، مدعية فيه إعداد خطط وبرامج لانتشال القطاع العام من وحل التخسير والمديونية والإفلاس، إلا أن الآمال سقطت جميعاً مع إعلان رئيس الوزراء عن نية الحكومة في عدم التوسع أفقيا ً في شركات القطاع العام لتسارع فيما بعد بعض الشركات العامة في طرح شركاتها للاستثمار منها: شركة حديد حماه، شركة الأحذية (ولديها ثلاثة معامل في السويداء، النبك، مصياف)، معمل الدباغة في دمشق،معمل الكبريت وأقلام الرصاص في دمشق، المؤسسة العامة للصناعات الهندسية ولديها أربع شركات مطروحة للاستثمار، الشركة السورية للبطاريات والغازات السائلة في حلب، شركة الكونسروة في درعا.

كذلك قامت الحكومة بإغلاق وإيقاف بعض المعامل والشركات نهائياً كمعمل سكر الغاب. مما أثار أسئلة مشروعة حول توجهات الحكومة الاقتصادية في مشروع إصلاحها هذا، فإصلاح القطاع العام لن يعني بأية حال من الأحوال هروب الحكومة من المسؤوليات الملقاة على عاتقها وتجييرها إلى مستثمرين عرب أو أجانب هم بالتأكيد لا يملكون وصفات سحرية للنهوض بشركاتنا وإنما سيتبعون طرقا إدارية متوافرة لدى المئات من باحثينا الاقتصاديين، كذلك متوافرة في دروج مكاتب الوزارات والهيئات، لكن دون أن ينظر إليها أحد، أو يتابعها أحد. تماما كما ستطرح الشركات المذكورة وغيرها من الشركات للاستثمار باعتبار هذا القرار قراراً إداريا محضا مع العلم أن قراراً كهذا له أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية وحتى السياسية بالغة التأثير بحيث أن جهازا أو سلطة تنفيذية ليس من حقها اتخاذه بمفردها دونما عرضه على المواطنين بدءاً من القاعدة وانتهاء بالقمة، وبالطبع مروراً بالمؤسسات التشريعية.

نماذج من الشركات "الخاسرة"

من الشركات التي تم طرحها للاستثمار معمل الكبريت وأقلام الرصاص (أقلام النسر):

بحجة أن هذا المعمل خاسر ويعاني من مشاكل إنتاجية وتسويقية، وهذا المعمل متوقف عملياً عن الإنتاج منذ ما يقارب الخمس سنوات.

صحيح أن هذا المعمل خاسر، بل بالأحرى مفلس تماماً وأحد عماله كان قد تقدم سابقاً إلى جريدة «قاسيون» بشكوى يقول فيها أن جميع خطوط انتاج الكبريت في المعمل متوقفة، إلا أن لهذا اسبابه التي ذكرها العمال، ومن بينها وأهمها الفساد المستشري في جهازه الإداري، وصفقات الخشب الذي لا ينسجم مع المواصفات القياسية والذي يدخل المعمل على أنه على عكس ذلك دون رقيب أو حسيب، كذلك المنافسة التي يتعرض لها من الكبريت المستورد، والقداحات الصينية التي يتم استيرادها أو تهريبها إلى داخل البلاد، ومئات من الاحتجاجات والشكاوى المقدمة من اللجنة النقابية للمعمل والمرمية في سلة المهملات.

شركة بطاريات حلب: كذلك الأمر، شركة «خاسرة» وتعاني من مشاكل إنتاجية وتسويقية، لكن لماذا تعاني من مشاكل ولماذا وصلت إلى ما وصلت إليه؟.

أزمة المعمل التسويقية بدأت مع المنافسة الشديدة التي واجهها المعمل من شركات القطاع الخاص التي منحت كافة التسهيلات لتقوي مواقفها التنافسية في مواجهته كذلك من القطاع الأسود الذي ينتج نسبة لا يستهان بها من البطاريات في ورشات صغيرة منتشرة بالمئات في أنحاء المحافظات وضواحيها لا تتقيد بأية مواصفات ولا تدفع ضرائب إنتاجية أو ضرائب لحماية البيئة من التلوث، هذا عدا المنافسة الناتجة عن الاستيراد من دول عربية مترافقاً مع عدم التزام أغلب منشآت القطاع العام باستجرار البطاريات من المعمل المذكور. ومع العلم أن الشركة قامت بإجراءات لتحسن خطوط إنتاجها كما طرحت شكلا من الشراكة مع إحدى الشركات التركية المتطورة عملا بقانون الاستثمار رقم عشرة، وبالرغم أن الحلول جميعها هي حلول برسم وزارة الصناعة وليس برسم المعمل إلا أن الحكومة ارتأت طرحه للاستثمار دون منحه فرصة كافية لإنقاذ نفسه، ودون أن تساهم هي في إنقاذه، بل على العكس، اختارت رصاصة الرحمة كحل سريع وفق وجهة نظرها.

فهل هاتان الشركتان خاسرتان فعلا أم مخسرتان؟

رابحة ولكن

هذا عن الشركات المخسرة، وهي بعين المتابع للأحداث في كواليس القطاع العام ليست مخسرة فحسب، بل إن خسارتها تندرج في إطار برنامج منظم تقف في مقدمته قوى السوق لإثبات عدم جدوى الاعتماد على القطاع العام في قيادة الاقتصاد الوطني والنهوض بعملية التنمية،في الوقت الذي تعد فيه برنامجا موازياً يقضي بخصخصة هذا القطاع وتسليمه لمفسديه وناهبيه أنفسهم، وبذلك يتحقق المكسب مرتين.

لكن المصيبة الكبرى في أن لا تكتفي الحكومة بطرح الشركات الخاسرة على الاستثمار فقط، إنما الرابحة أيضاً ومثالنا الحي هو معمل حديد حماه الذي نالت إحدى الشركات التركية عقد استثماره، فمن المعلوم ان معمل حديد حماه هو معمل رابح. ومن المعلوم أن صناعة الحديد هي من الصناعات الإستراتيجية لأي دولة تمتلك طموحا صناعيا مستقبلياً وهي صناعة مملوكة للدولة حتى في بلدان العالم الرأسمالي كألمانيا أو فرنسا، فهل من المعقول أن نكون ملكيين أكثر من الملك؟ الحجة الجديدة هنا أن أرباح المعمل هذه آنية ومؤقتة مردها ارتفاع أسعار الحديد عالمياً، وأن أي انخفاض قادم سيعني خسارة الشركة، كما أن إصلاح المعمل وإعادة تأهيله سيتطلب نفقات تتجاوز الخمسين مليون دولار، وهنا نحن نسأل:

ما مصلحة الشركة التركية في استثمار المعمل إذا؟ هل لدى الأتراك خطة إنتاجية لتفادي خسارة كهذه في حال عادت الأسعار إلى ما هي عليه؟وهل سينفقون تلك المبالغ على إصلاح المعمل وتأهيله مجاناً؟ وما دخل هذا بكون صناعة الحديد والصلب خط أحمر بالنسبة للقطاع الاقتصادي الصناعي؟.

لا شك أن الحلول متوافرة لمن يرغب في حلول، إلا أن معمل حديد حماة هو مؤشر واضح على ما سيحدث لاحقاً لشركات القطاع العام واحدة إثر أخرى، فمن البديهي ان الحكومة التي تتخلى عن معمل كهذا بهذا القدر من الأهمية بدلا من أن تعزز أرباحه،ستتخلى بالتأكيد عن معامل أقل أهمية استراتيجياً، اللهم تلك المعامل التي ليس من مصلحة القطاع الخاص استثمارها أصلا. وبينما الحكومة منهمكة بطروحات الإستثمار تغرق الشركات العامة بمئات المشاكل.

قطاعنا الذي كان عاماً

واظبت الحكومات المتعاقبة على إهمال واقع الشركات العامة بالرغم من التقارير والأرقام والبيانات التي تشير إلى آلية العمل في هذه الشركات، وبالرغم من عمليات النهب المنظم الذي مورس بحقها، كما واظبت على تعيين كفاءات غير مؤهلة مهنياً أو أخلاقياً في مواقع إدارية ومفصلية فيه، ساعدت على استمرار هذا النهب للتغطية عليه رغم ممارساتها الفاسدة المكشوفة.

كذلك لعب العامل البيروقراطي كعامل حاسم في إفشال خطط الشركات العامة لجعل البيروقراطية سمة تلتصق بقطاع الدولة في حين قدمت أفضل التسهيلات للقطاع الخاص الذي ابتلع الأسواق ومستهلكيها، واستمرت سياسة إقصاء الكوادر النظيفة والمؤهلة، سياسة التعامل مع القوانين الإدارية بالنص لا بالروح، كذلك سياسة الترويج لفكرة وجود عمالة فائضة، مع أن العمالة ثروة وليست عبئاً إلا في حال لم تستثمر.

وحين أرادت الحكومة أن تجرب الحلول، قامت بدمج بعض الشركات كالشركات الإنشائية مثلاً، والتي دمجت بطريقة أشبه ما تكون بالارتجالية، لتفرز عمليات الدمج فيما بعد حزمة من العجوزات بالأجور في تلك الشركات، تحمّل عبئها عمال الشركات الإنشائية أولاً وأخيراً. وها هي الشركات الإنشائية تتعرض للهجوم الإعلامي والحكومي مرة جديدة وعلى لسان وزير الإسكان والتعمير مستنداً في ذلك إلى التراجع في عمل الشركات الإنشائية، وتأخير تنفيذها لمشاريعها، بالرغم من أن الوزير يقول بعظمة لسانه: " لقد تسللت الإدارات الفاسدة إلى هذا القطاع فأساءت إليه، وخربته ولم يكن همها سوى تحقيق المصالح الذاتية والشخصية" فهل فتح النار على القطاع الإنشائي سيصلح من وضع هذا القطاع وإصلاح ما أفسد فيه، وهل الوزارة بريئة في هذه الحالة عندما تعلم أن إدارات الشركات التابعة لها فاسدة في الوقت الذي ُتحّمل فيه الشركات والعمال مسؤولية الفشل؟ لا ندري غداً ماذا سيكون مصير القطاع العام الإنشائي طالما أن المؤشرات بدأت تطفو على السطح، هل سيعرض للاستثمار أيضاً أم للخصخصة هذه المرة.

برسم البيع

إن سرعة اتخاذ قرار كهذا من قبل رئاسة مجلس الوزراء، دون الأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل سابقة الذكر التي وضعت القطاع العام في طريق التخسير، ودون الأخذ أيضا بتحفظات التنظيم النقابي الذي شكك في التوجهات الاقتصادية للحكومة في التعامل مع قضية حاسمة كهذه، وفي موقفها من عملية الإصلاح. كذلك تجاهل رأي عمال المؤسسات وتجاهل رأي المواطنين في قضية على هذا القدر من الأهمية، لا تنحصر أبعادها في الجانب الاقتصادي فقط (على أهميته)، إن كل هذا لن يفرز سوى أزمات جديدة ستلقى أعباءها على كاهل الاقتصاد الوطني من جديد، خاصة وأن مصير العاملين في الشركات المستثمَرة ما زال مصيراً ضبابياً، يتهدده خطر تسريح آلاف العمال، وحرمانهم وأسرهم من لقمة العيش، كذلك فإن البدء بخطوة كهذه سيعزز موقف قوى النهب لتتابع سير برنامجها في بقية الشركات لنجد في نهاية المطاف، اقتصاداً، أي وطناً معروضاً للبيع في المزاد العلني.

 

■ المحرر

معلومات إضافية

العدد رقم:
228