يامن طوبر يامن طوبر

الدفء الذي كان.. وأصبح في ذمة الماضي

مر في الكتب القديمة نداء: «قوض بيتك وابن سفينة.. بعدها فليأت الطوفان».. أما عندنا فأصبحت المعادلة على الشكل التالي: اقطع أشجارك المنزلية فالصيف بعيد.. وليس لديك ثمن وقود مدفأة المازوت، وقد بطل عملها كما بطل عمل عشرات الآلاف في شركات القطاع العام المخسرة، التي رفض بعضها التشغيل، والبعض الآخر منها لا يقدر على تفعيل مهارات من يستجدي العمل بانتظار وعود الحكومة المعسولة وقطاعها الخاص.. تمهل فالآلام ليست سوى مرحلة بعدها تفيض أنهار الخير والبركة من لبن وعسل..

ما العمل إذاً؟ انزع مدفأة المازوت، أو حوّلها كي تعمل على الغاز، أو ارمها بعيداً، فلا حاجة لك بها بعد الآن.. قبل هذا كانت الحكومة, وبعدها مازالت تلك الحكومة وفريقها الاقتصادي  يصرون على تعطيل مدافئ القلوب التي تعتز بانتمائها لهذا الوطن..
كل هذا.. وهناك من يريد أن يفرض معادلة أقسى وأخطر: قوّض وطناً.. وحافظ على حكومة متلبرلة...
وهكذا.. بعد أن  سدت كل السبل في وجوه الناس للحصول على وقود يدفئ العظام والأعصاب المرتعشة رعشة الخيبة والخذلان، راح أغلبهم يفكرون بفك الحصار البارد بأساليب شتى، خصوصاً بعدما بدت التسويفات ومسرحيات المد والجزر واضحة كالشمس، تبين أن الذي شتم المواطنين بأبشع الشتائم يواصل محاولة إذلالهم باحتقار المنتقم الذي أعمته عقلية الثأر.. فأعطاهم من خيرهم الذي أنتجوه ما لا يكفي للحفاظ على تدفئة أولادهم...

فك الحصار بالحطب!
(ي. حسين. س)، مواطن يسكن إحدى القرى المطلة على سهل الغاب في جبال السلسلة الساحلية، ولا تفصله عن الغابات المحترقة حديثاً وما أكثرها، سوى عدة كيلو مترات، تلك الأشجار التي كانت تبعث الأمل في نفوس الناظرين إليها.. يقول لقاسيون: «أذهب أنا وأولادي في نهاية كل أسبوع، يومي الجمعة والسبت، نلملم بقايا الأغصان التي خلفتها مناشر عمال التنمية الزراعية، فنجمع من هذه الأغصان ما يكفينا لأربعة أيام، وما تبقى من أيام الأسبوع أتكفل بجمعه وحمله على ظهري بين الحين والآخر». ويضيف: «مستوى الأولاد في المدرسة تراجع، وقد وجهت لي إدارة المدرسة أكثر من كتاب لمعالجة الأمر، ولكنني لم أستطع الحضور، ولا أرغب في ذلك، فكتبت إليهم أن يرسلوا تلك الكتب إلى رئيس الحكومة، فقد يجدون لديه الإجابة الشافية لأن من افتعل المشكلة يعرف كيف يحلها»!! .
مواطن آخر، رفض بداية أن يذكر اسمه، ورفض الحديث إلا بعد أن اطمأن إلى نوايانا، وعلم أننا من جريدة قاسيون، لكن بعد شرح مطول كانت الألفة زبدته, اتفقنا أن نطلق عليه اسم (سعيد)..
(سعيد) من قرية في سهل الغاب، رأيناه يحمل منشاراً يدوياً وبارودة صيد، ويقود دراجته النارية ترافقه زوجته «شريكة عمره وشقائه» كما وصفها، فهي لم تتركه رغم فقره وحظه اليائس، وخاصة في السنوات الأخيرة. حسب وصفه، لم يوفق إلا بزوجة وفية .
واظب سعيد على حضوره اليومي إلى الغابة بمنشاره اليدوي، يقطع عيدان الحطب شبه المحترقة، ويكدسها على حبل، ويربطها على منصب الدراجة. لم يكن لديه وقت للصيد، ولم تكن البارودة التي يحملها لحماية نفسه من وحوش الغابة، إنما كما قال: لمن يعترض طريقه من (عصابات التشليح الحكومية) الخارجة على القانون .
- لماذا لا تستأجر سيارة وتكفي نفسك مشقة العذاب اليومي ومخاطره؟ سألناه..

أجاب:
«لو كنت أستطيع استئجار سيارة بـ1500 ل.س لما احتجت إلى الحطب ومدفأته، وقبل هذا يجب علينا الحصول على موافقة من مديرية الزراعة التي تعطي المواطنين الموافقات بمزاجية، يوم تمنح الموافقات، وأيام تمتنع.. ربما ليؤكد لنا المسؤولون عن ذلك أن لهم قيمة وبإمكانهم أن يفرضوا الاحترام، ويزيدوا عليه بإلحاق الذل بنا تماشياً مع سياسة معلميهم في الحكومة».

قتل الذكريات الدافئة
(أبو أحمد) أقنع نفسه أن شجرة التوت التي غرسها والده منذ أكثر من نصف قرن، باتت تحجب ضوء الشمس عن منزله وتجعل بيته بارداً, تلك الشجرة التي فيأت أجيالاً متعاقبة، وغنت الصبايا: (تحت التوتي يا توات تحت التوتي صف بنات)، كانت متنفساً لأبناء الحارة قبل أن تقتل، وكانت بمثابة المقهى الشعبي لكل من يقصد لقاء الجيران مجتمعين.. قتلها المنشار الآلي، ومعها راح يفتت ذكريات الطفولة المنهرسة تحت وطأة نصله المجنزر.. أبو أحمد الذي آلت إليه ملكية شجرة التوت بعد تقسيم ملكية والده، كان قد تعهد بحماية الشجرة أمام الإخوة المقتسمين الإرث طالما هو على قيد الحياة, عندما هوت من علوها الشاهق تشظت الذكريات وليالي السهر، وراحت ساعات الأصيل تحرق قلوب المجتمعين شهود الزور المتفرجين, تحول المكان إلى ساحة إعدام ومقصلة.
أبو أحمد مثله مثلنا جميعاً، بكى واعتلته رجفة, أحد الشبان نظر بألم وقال: «هذه الواقعة ربما تصلح هدية لحكومتنا الموقرة» .
(ع. سليمان): تدبر أمره واقترض أربعة آلاف ل.س، يعيدها إلى أحد المرابين خمسة آلاف حينما تفي الحكومة بوعدها فتسلم المواطنين دفعتها الأولى ثمناً للبرميل الأول. سليمان جمع أسرته وحشرهم بسيارة بيك آب استأجرها بـ1500 ل.س، وقصد جبل الحرائق.. هكذا أصبح اسمه بعدما احترقت أجمل غاباته.. معالمها التي تشبهه إلى حد التوءمة, حشرهم مصطحبا الفؤوس والمناشر اليدوية واستعدوا لحرب لا هوادة فيها دفاعاً عن الوجود، فالقصة كما يقول: «قصة حياة أو موت».
(ع. سليمان) هذا لم يوفر شجرة كبيرة كانت أو صغيرة، عوداً يصلح للصناعة، أو غصناً مهملاً.. عبأ سيارته المستأجرة، وقال: «أرجو أن يغفر الله لمن حرق هذه الغابة، فمن أين لنا الدفء لولا أولاد الحلال الذين حرقوا هذا الشجر؟», ربما كان هذا القول على سبيل الدعابة بعد أن أمن لأولاده دفء نصف أيام الشتاء، وقد تكون كلماته تعبيراً عن قناعة أظهرتها ضغوط البرد المطبق على عظامه..
إن هذه الجملة تخبئ وراءها الكثير من المآسي والآلام التي وصل إليها الوطن جراء السياسات الاقتصادية المجحفة بحق الوطن والمواطن، فهذه السياسة أثرت بشكل غير مسبوق على سلوك الأفراد وتفكيرهم في مواجهة الصعوبات المعيشية، بل إن هذه السياسة المفسدة بنتائجها الخطيرة تأخذ مكاناً يجعل التشوه يحتل مكاناً قد يصعب معه العودة إلى التفكير السليم في معالجة المجتمع لمشكلاته، بما سيرتد وبالا على المجتمع بأسره إن لم تتضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية للحؤول دون وقوع الكارثة (أم أنها وقعت بالفعل؟) عبر تشوه القيم والمعايير المجتمعية من خلال العودة عن نهج اللبرلة، واتباع سياسة تعمل على صون كرامة الوطن والمواطن، فما هي قيمة خمسين مليار ليرة سورية مقابل حماية غابات البلاد؟ وما هي قيمة هذه الخمسين مقابل صون الوطن وقيمته في قلوب المواطنين الذين باتوا يشعرون يوم اًبعد آخر بغربتهم في وطنهم؟؟.

خاتمة ليست سعيدة
إن كان المواطن الذي احترقت غابات الجبال القريبة من مسكنه، يعاني ما يعاني في الحصول على بقايا الأشجار المحترقة ليدفئ أولاده ويقيهم شر البرد، فما هي أحوال من ترك أرضه وسكن الخيام بعد خواء حقله الزراعي؟ وما هي أحوال المواطنين في المحافظات الأخرى، وبقية المواطنين الذين أرهقهم البرد ولا حطب لديهم؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
431