ميثم الجنابي ميثم الجنابي

الخطأ والخطيئة في المعادلة السورية

توطئة
إن الفكرة التي أسعى للبرهنة عليها تقوم، في ضرورة تذليل الخطأ الاستراتيجي المتعلق بالحالة السورية ومستقبلها لكي لا يقع الجميع في خطيئة تاريخية. مما يستلزم بدوره الخروج من المعادلة التي تحاصر السلطة والمعارضة بكل أنواعها وأشكالها وأطيافها وعقائدها من البقاء بين زمن الأخطاء الإستراتيجية وإمكانية الوقوع في خطيئة تاريخية فاحشة.
فالخطأ الاستراتيجي يعادل حالة ونموذج البقاء ضمن تقاليد السلطة الاستبدادية، بينما الخطيئة تعادل أوهام القضاء عليها خارج إرساء أسس العقلانية السياسية، وجوهرية الفكرة الإصلاحية، ومرجعيات الفكرة القومية العربية. فهو الثالوث الضروري لوحدة الدولة والأمة، والحاضر والمستقبل، والروح والجسد السوري الاجتماعي

إن لهذا الخطأ والخطية أسسهما ومقدماتهما في التاريخ السوري بشكل عام والحديث بشكل خاص. إذ لم تستطع الدولة السورية إلى الآن تذليل تقاليد الاستبداد التركي العثماني في بنية الدولة، كما أنها لم تستطع صنع البنية الاجتماعية والثقافية الوطنية والقومية الدنيوية. من هنا تفاعلهما السيئ في إنتاج وإعادة إنتاج الاستبداد.
لقد قطعت الدول السورية على امتداد القرن العشرين أشواطا كبيرة في بناء تكاملها الذاتي، لكنها مازالت متعثرة فيما يتعلق بإرساء أسس بنية النظام السياسي القادر على تنشيط مكونات الدولة الحديثة بالشكل الذي يجعل منها دولة عصرية شرعية ومجتمع مدني حر. فقد بقت آمال ومشاريع رجال النهضة والإصلاح والفكرة القومية، أي المراحل الثلاث الكبرى للوعي الذاتي السوري، معزولة عن بعضها البعض فيما يتعلق بفكرة الدولة والأمة والثقافة. كما أنها لم تتحول إلى الآن إلى جزء عضوي في فكرة البدائل. من هنا تناقض السلطة والمجتمع، والمعارضة والدولة. مع ما يترتب عله من إمكانية سقوط الجميع في أوحال التجزئة والصراع الهمجي. وهي نتيجة تعادل ما أدعوه بالخطيئة التاريخية، لأنها تكشف عن عبث البعث، وبعث العبث عند الجميع، أي تجاهل التراث السوري العربي الحديث، الذي صنع من حيث الجوهر الخميرة الروحية للكينونة العربية المعاصرة.

 إن الصعوبة الظاهرية للإلمام بطبيعة وآفاق الحالة السورية، تكمن في شدة ولاعقلانية وتناقض أغلب قواها المتصارعة، وتياراتها السياسية والفكرية، ووسائل وأساليب وغايات كل منها.
إلا أن المقدمة التاريخية والطبيعية من اجل فك عقدة هذا الترابط «السيئ» يفترض الانطلاق من بؤرته الأولية، ألا وهي صيرورة الدولة الحديثة، وطبيعة النظام السياسي المتراكم فيها وحالة الأزمة البنيوية التي تواجهها سورية على مستوى الدولة والوطن والمجتمع والقومية.
فقد انبثقت سورية من تحت ركام العثمانية التركية الثقيلة، منهكة بصورة شبه تامة! لا شيء فيها قادر على الحياة باستثناء الإرادة القومية. من هنا أولية الإرادة والفكرة السياسية في وعيها الظاهر والباطن، والتي يمكن رؤيتها عند جميع مؤسسي الفكر السياسي السوري على امتداد قرن من الزمن ...
وقد وجد ذلك انعكاسه في استحواذ فكرة السلطة أولويتها بوصفها أداة التغيير والتطوير والتسريع، باختصار أداة الزمن المتسرع وليس التاريخ المتراكم. وفي هذا يكمن تناقض المسار المعقد للدولة والنظام السياسي، الذي لم تفعل الانقلابات العسكرية والسياسية على إعادة ترتيبه، وذلك لأن البنية التأسيسية لهذا الخلل ما زالت قائمة وفاعلة عند الجميع دون استثناء. الأمر الذي جعل من السلطة زمناً متناقضاً لم يفعل مروره إلا على استنفاذ طاقة الفكرة السياسية. ووجد ذلك انعكاسه في تضييق فكرة الدولة وتحجيم أسسها الاجتماعية. مع ما ترتب عليه، رغم كل الانجازات الكبيرة، من ضعف تنفيذ شعاراتها المعلنة (الوطنية والقومية، والسياسية والاجتماعية - الاقتصادية).
ويمكن النظر إلى مظاهر وملامح استشراء الجهوية والطائفية المبطنة والعلنية، باعتبارها الصيغة المعبرة عن عدم انجاز وتكامل الفكرة الوطنية.
بينما تذبذبت المواقف القومية حسب الإدراك العابر للمصالح العابرة وليس حسب إستراتيجية الرؤية القومية السليمة بوصفها حصانة مرجعية عميقة. مع أن السلطة السياسية السورية ونظامها السياسي يبقى الأكثر تجانسا من بين جميع الدول العربية بدون استثناء وأكثرها ديمومة وثباتا وأصالة. والاستثناء الوحيد هو لمصر الناصرية.
 وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، فإن سورية مازالت ضعيفة للغاية، رغم قدرتها الذاتية الهائلة. وبالمقابل نرى تحلل البنية الاجتماعية والأخلاقية في مؤسسات الدولة وتفاقم الانحطاط الإداري وفساده شبه التام.
أما النتيجة المأساوية لكل ذلك فتقوم فيما يمكن دعوته ببلوغ الدولة السورية ونظامها السياسي حالة التأزم الشامل. وإذا كان من المجحف القول، أن الدولة السورية دولة فاشلة بالمعنى الدقيق للكلمة، كما هو الحال بالنسبة للدول العربية الحالية قاطبة بدون استثناء، فأنها تقف على مشارف هذه الهاوية. وهي حالة لها تاريخها ومقدماتها الخاصة. ومن ثم فهي ليست نتاج مرحلة وحالة سياسية في ظروف سورية الآنية، رغم مسؤولية النظام السياسي أولا وقبل كل شيء، بقدر ما أنها أصبحت جزء مما أسميته بالمستقبل، أي الفكرة المستقبلية التي ينبغي تأسيس مرجعياتها الوطنية والقومية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية.
وليست هذه الفكرة المستقبلية، من حيث إطارها العام، سوى الفكرة الإصلاحية الشاملة، وليس فكرة أو شعار «الإطاحة بالنظام»... وما شابه ذلك. فالإطاحة العنيفة بالنظام تعني السير ضمن مسار التقاليد السياسية الخربة للراديكالية السياسية. وذلك لأنها لا تصنع أسس الرؤية النظامية للبدائل. بل على العكس، أنها تؤدي إلى استشراء الفكرة الراديكالية المتشددة والمليئة بعناصر ما قبل الدولة الحديثة. بمعنى أنها لا تفعل في نهاية المطاف إلا على إعادة إنتاج ما ينبغي الخلاص منه ورميه باعتبارها جزءاً من تجربة مرة ومريرة للدولة والنظام السياسي في سورية.
وقد تكون حالة «المعارضة السورية» نموذجها الواقعي. ومن الممكن حصر كل ما فيها بهذا الصدد، وضمن السياق الذي أتناوله بثلاثة أشياء وهي، أنها:
• نتاج مرحلة خربة للتقاليد السياسية،
• نتاج هيمنة تقاليد الاستبداد السياسي،
• نتاج غياب تقاليد عقلانية للفكرة السياسية.
مما أدى إلى أن تكون هذه المعارضة، أو مختلف نماذج المعارضة والتمرد والعصيان والرفض، متناقضة من حيث أصولها ومبادئها وأساليبها وغاياتها. وليست هذه النتيجة بدورها سوى الحصيلة المتراكمة من زمن الممارسة الضيقة للنظام السياسي والسلطة السياسية، لإفراغ المجتمع من قوى المعارضة الحية. أما الصيغة الفعلية لهذه الحالة الخربة فأنها تبرز فيما يلي:
• خراب الأسلوب، وهو أمر جلي في ظاهرة استعمال العنف وليس الصراع السياسي السلمي والعقلاني والفعال والايجابي. ولا يخلو ذلك من صعوبات وتعقيد، لكنه الطريق الأمثل لتراكم التقاليد العقلانية السياسية وتذليل تقاليد أولوية وجوهرية الإرادة الحزبية
• خراب الوسائل، مع ما يترتب عليه من مساهمة بصورة واعية أو غير واعية في تفتيت الدولة والمجتمع والثقافة
• خراب الغاية. وذلك لان الغاية المعلنة هي السلطة وليس الدولة، الإرادة الخاصة وليس العامة، التحويل العنيف والمسلح وليس الإصلاح الشامل والتدريجي.
أما النتيجة المترتبة على ذلك فهي صنع سبيكة مشوهة في الأسلوب والوسائل والغاية، بلغت ذروتها في الاعتماد على قوى خارجية لها مصالحها الخاصة التي لا علاقة لها بالمصلحة السورية الكبرى. بينما البديهة الكبرى التي ينبغي تحويلها إلى مرجعية عملية للجميع فيما يخص المستقبل والفكرة المستقبلية تقوم في ضرورة الاعتماد على النفس فقط. إذ لا يمكن لقوى حية (ومستقبلية) أن تعتمد على دويلات الخليج ومراكز الكولونيالية السابقة. فهذا أمر يتناقض مع التاريخ والمستقبل والحق والحقيقة.

فالقوى الخارجية تسعى أساسا لثلاثة أهداف مستترة وهي:
• محاولة امتصاص الثورة الاجتماعية والسياسية العربية
• حرف مسارها الوطني والقومي
• إعادة تقسيم المصالح بالشكل الذي يجعل من الثورة أسلوبا لتحطيم المصالح الجوهرية للوطن والدولة والقومية.
إن المهمة الكبرى التي تقف أمام سورية، تقوم في كيفية تحويل الفكرة المستقبلية السورية إلى بديهية ومرجعية كبرى للجميع بغض النظر عن اختلاف الرؤية السياسية والعقائدية. بمعنى كيفية إعادة تأسيس البنية الشرعية للدولة ونظامها السياسي وإرساء أسس تكاملها الاجتماعي والوطني والقومي عبر تنشيط وتطوير الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا.
إن سورية الحالية، تمتلك كل هذه المقومات والكفاءة الذاتية. والمهمة تقوم في إدراك الجميع لهذه الحقيقة ووضعها فوق كل اعتبار آخر بوصفها حقيقة الحقائق السورية وأملها الأكبر. ولا طريق فعلي واقعي وعقلاني وأمين لبلوغ هذه الغاية غير إجماع الجميع (السلطة والمعارضة بمختلف قوها) على فكرة الإصلاح الشامل للدولة والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي. وبدون ذلك يصبح الخطأ الاستراتيجي خطيئة تاريخية أيضا!