بانتظار عدالة محكمة النقض بدمشق .. عمال «العتالة» يسقطون ضحية الفاسدين الكبار..

شهد موسم الحبوب في عام 2006 فساداً من طراز خاص، تمثل بتواطؤ بين بعض الموظفين وتجار الحبوب بتوريد أطنان من التراب وبيعها إلى المؤسسة على أساس أنها أقماح. وإثر انكشاف أمر الصفقة، أحيل بعض العاملين في المؤسسة مع التاجر الموّرد إلى المحكمة، وهذا أمر طبيعي نتمنى أن يطال جميع الفاسدين من جميع المستويات وفي كل المواقع، ولكن ما هو غير طبيعي أن تشمل العقوبة بعض عمال العتالة في أحد المراكز المعنية بشراء (القمح – التراب) وتغريمهم بمبالغ مالية وصلت إلى أربعة ملايين ليرة سورية،  والسجن لمدد تصل إلى سنتين ونصف، ولبعضهم أكثر من ذلك..

القضية بدأت عندما قامت ورشة عتالة في مركز عامر- محافظة الحسكة  بتنزيل حمولة شاحنة حبوب في ساحة المركز أصولاً، وعندما شك العتالون بأمر الأكياس أبلغوا المعنيين بالأمر في المؤسسة، المرقّم والخبير وأمين المستودع،  فكان الرد: استمروا في عملكم! وبعد إصرار العتالة على وجود التراب في الأكياس بدل القمح، كان الرد: «ما دخلكم أنتم؟ قوموا بعملكم».. وترافق ذلك مع إفهامهم بأن صاحب القمح مدعوم ومن ذوي النفوذ، وأن عرقلة شؤونه سيجلب لهم (وجع الراس).. وبعد أيام طلب كل من المرقم وأمين المستودع والخبير من العتالين القيام بتفريق الأكداس بحجة وجود تداخل بين القمح القاسي والطري، وتبين أن المطلوب إبعاد أكياس التراب عن الأكداس، وكان ذلك داخل ساحة المركز.. ومرت الأيام... وانكشف أمر صفقة الفساد السابقة الذكر، وُطلب عمال العتالة كشهود، ولكن الأمن الجنائي قام بتوقيفهم، ولم يطّلع قسم منهم على إفاداتهم التي وقعوها بسرعة، حيث استجوب قاضي التحقيق الجميع، أي ما يقارب 50 شخصاً ممن هم على علاقة بالأمر بمن فيهم العتالين بسرعة غير مسبوقة (في خمس ساعات)، وتم تحويلهم إلى محكمة الجنايات.

في الجلسة الأولى السرية، صرح العمال بالمعلومات السابقة المصرح بها عند المحقق، أي أنهم قاموا بالعمل بناء على توجيهات وأوامر أصحاب القرار  بشكل علني وفي وضح النهار، وأثناء الدوام الرسمي، والكل يعلم أن العتال لا يستطيع رفض أوامر المرقم أو أمين المستودع أو الخبير حسب تقاليد عمل المؤسسة، والأغلبية الساحقة منهم أميون، ويعانون من ضيق ذات اليد ومهددون بالطرد عند أية مخالفة للأوامر.. وفي جلسات المحكمة اللاحقة وبحضور الموظفين المعنيين صرح العمال بالأقوال ذاتها، ولم يكذّب أحد من موظفي الحبوب أقوال العمال.. وحضر إلى جلسات المحكمة كل من الأستاذ ماجد حميدان مدير المؤسسة السابق، والأستاذ عبد العزيز جتو من الرقابة والتفتيش، وأكد الاثنان أنه لا ذنب للعمال من الناحية الإدارية والرقابية، أي إن العمال إدارياً ليسوا مضطرين إلى تبليغ أحد خارج المؤسسة طالما أن الموظف المسؤول موجود ويعملون بناء على أوامره ... وتفاجأ العتالون بتنحي القاضي نوري جمعة عن القضية، بعد تصريح علني أمام الجميع بأنه يتعرض إلى ضغوط، ولكنه عاد إلى استلام ملف القضية فيما بعد ليفرج عن العتالين بكفالة مقدارها عشرة آلاف ليرة سورية.

بعدها تسلم الملف قاض آخر.. وفي الجلسات اللاحقة حكم على العتالين العشرة بأحكام يراها الكثيرون بأنها غير عادلة، إذ حكم على بعضهم بغرامات مالية تصل حتى 4 مليون لكل منهم، وسنتين وأربع أشهر سجن، والبعض الآخر أكثر من ذلك.. فيما اكتفت المحكمة بالحكم على التاجر، المذنب الأول، بالسجن ست سنوات، وتغريمه بسبع ملايين ل.س فقط لا غير، مع بقاء الحكم قابلاً للطعن..

 

إننا إذ نعرض هذه التفاصيل لنؤكد على جملة أمور تتعلق بالقضية:

 

• إن العتالين لا ذنب لهم في صفقة الفساد، وإن مشاركتهم بتحميل وتنزيل الحمل جاء بناء على أوامر الموظفين المسؤولين، والمسؤول الأساسي هو من تواطأ مع التاجر واستجر القمح (التراب)، ومن يقف خلفهم من الفاسدين وذوي النفوذ. وإذا كان على العتالين مسؤولية ما (كتم معلومات مثلاً) فإنه من غير المنطقي أن يحاكموا مع التاجر وموظفي الحبوب، بالتهمة نفسها، لاسيما وأن عتالي مركز عامر استدعوا أصلاً كشهود، فالواضح هنا أنه ثمة التباس، أو إن هناك من يريد أن يخلط الحابل بالنابل، أو من يريد أن يغرم العتالين لتخفيف الغرامة عن الفاسد الأصلي أي التاجر وكبار الموظفين الفاسدين، ومبرر هذا الشك أن بعض الفاسدين حاول الاتصال مع العتالين أثناء فترة التوقيف لإبرام صفقة معهم مقابل عدم ذكر اسمه في التحقيق.

 

• إن ملف القضية يتضمن العديد من الملابسات، مثلاً: تم تحميل ورشة عتالي عامر مسؤولية صفقة من النوع نفسه، وللتاجر نفسه (خالد الجاسم) في مركز آخر (ضهر العرب)، كما جاء في التقرير الصادر عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ذي الرقم 39292008 بتاريخ 1552008. وورشة العتالة تؤكد أنها لم تطأ أقدامهما أرض مركز ضهر العرب حتى ساعة إعداد هذه المادة.

 

• إن فساداً من هذا النوع وبهذه الدرجة من الوقاحة، تقف خلفه بالتأكيد رؤوس كبيرة، يمكنها زج أبرياء في القضية، فمحاولة توسيع دائرة الاتهام تهدف على ما يبدو إلى تخفيف الأحكام عن الفاسد الحقيقي.

 

• ذكر في بعض الإفادات والتقارير في ملف القضية؛ أن العتالة قبضوا مبالغ مالية مقابل عملهم (10 ليرات مقابل الكيس الواحد)، أو ثلاثة آلاف لكل عتال مقابل فرز وتحميل وتنزيل وتفريغ أكثر من ألف وخمسمائة كيس، وجاءت هذه الأرقام في سياق يفهم منه أنها رشاوى، وهذا ما يخالف الواقع. فهذه المبالغ هي مستحقات مشروعة للعمال حسب قوانين وتقاليد عمل العتالة.

والآن وبعد أن تم تحويل ملف القضية إلى محكمة النقض بدمشق، فإن المحكمة المذكورة مطالبة بالنظر إلى الملف بتروٍّ، والتمييز بين ذنب التاجر والموظفين وكل المشاركين في الصفقة بعلم مسبق، والذين حصلوا على مبالغ طائلة جراء مخالفة صريحة للقانون، وبين عتالين قاموا بعملهم الروتيني والاعتيادي ضمن حرم المركز الذي يعملون به كمتعاقدين، وعدم النظر إلى القضية على أنها قضية واحدة، فليس عتالو مركز عامر هم من عبؤوا الأكياس بالتراب أو حمّلوها إلى الشاحنات، أو أدخلوها إلى ساحة المركز، أو دقّقوها.. وليسوا هم من وضع لها الدرجة والجرام، كل ما في الأمر أنهم نفذوا أوامر لايستطيعون رفضها لمسؤولين فاسدين. وإذا وجدت ثغرات قانونية تدين العتالة فيما أقدموا عليه، فنتمنى من المحكمة ألا تنسى أن أغلب العتالة أميون يجهلون القانون، لاسيما وأن التاجر يعدّ من أصحاب النفوذ ويستطيع أن يلحق بهم الأذى، وأن تنظر (المحكمة) إليهم من هذه الزاوية، فالقضية تمسُّ عائلات تعاني الفقر المدقع أصلاً، ولا تملك قوت يومها. فكيف سيستطيع العتالون دفع مثل هذه الغرامات الجائرة، ليصبحوا شركاء رغماً عنهم في صفقات فساد لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟!!.