تسويق الذرة الصفراء في سورية.. الحكومة تتعامل مع الفلاحين بعقلية الوسطاء والتجار

التوازي مع ما يجري من احتواء وتهميش للاتحاد العام لنقابات العمال وعدم الأخذ بآراء العمال وممثليهم، بل إقصائهم بعيداً عن المشاركة واتخاذ القرارات الخاصة بهم، وتلك المساهمة في استقرار الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، تقوم الحكومة بتهميش الاتحاد العام للفلاحين، وتحويل ممثلي الفلاحين إلى موظفين أو سعاة بريد في خدمة سياسات الحكومة الزراعية الهادفة إلى الإجهاز على الزراعة والعاملين بهذا القطاع الرئيسي.

فالحكومة تجبر الفلاحين على الهجرة تاركين حقولهم وراءهم بحثاً عن لقمة عيشهم، وإذا كان نصف سكان المحافظات الشرقية قد هجروا وتشردوا ليتوزعوا على محافظات القطر، فإن فلاحي محافظة حماة يجبرون على ترك أراضيهم والتوجه إلى المدن ليزيدوا كثافتها السكانية وعشوائياتها السكنية، متحولين إلى مهن أخرى، خدمية بطبيعتها، دون أن يلحظ من أحدث هذه الفوضى الآثار المدمرة المرتقبة على الاقتصاد بتحول الفلاحين من أحد أهم القطاعات الإنتاجية إلى قطاع الخدمات المعتمد أصلاً على قطاع الإنتاج المادي الذي يعاني عدم الاستقرار..

 

فالفلاحون سيزدادون فقراً، بل وتشرداً، وتفقد البلد أمنها الغذائي والاجتماعي لنتسول على أبواب الدول الغنية.

نعم ثمة سوء إدارة حكومية لأهم قطاعات الإنتاج المادي في البلاد، أهم معالمه التناقض الصارخ بين القول والفعل، وسنسوق في هذا الحيز مثالاً واحداً على ذلك..

ففي 13/5/2008/ وافق مجلس الوزراء على زيادة أسعار شراء الذرة الصفراء للموسم الزراعي 2008-2009، حيث حدد سعر شراء الكغ من مادة الذرة الصفراء بـ 17 ل.س.. وفي تعليق على قرار زيادة سعر شراء مادة الذرة الصفراء، حث وزير الزراعة عادل سفر الفلاحين على بذل مزيد من الجهود لتحقيق موسم زراعي خير لنحقق الأمن الغذائي لبلدنا سورية!

يومها اعتبر الدعم المقدم للفلاحين عبر هذه الزيادة مكسباً هاماً وكبيراً، وأضاف أنه ستكون هناك زيادة الدعم أكثر مما طالب به الفلاحون، وكانت الجملة الأخيرة تحمل في طياتها ما يجري الآن من عدم استلام الذرة الصفراء من الفلاحين!!

 

جرى في محافظة الرقة

في مدينة الرقة توقف مركز تجفيف الذرة الصفراء عن استلام محاصيل الفلاحين من هذه المادة بتاريخ الحادي عشر من الشهر الجاري، والمسؤولون عن عمليات التسويق برروا هذه الإجراء وعزوه إلى عدم توفر السيولة المالية، مؤكدين أن الميزانية المخصصة لشراء الأعلاف نفذت بعد أن استوردنا المواد العلفية من الدول الأجنبية. ورغم مطالبة الاتحاد العام للفلاحين في محافظة الرقة إلّا أن صوتهم بقي بلا صدى، وآخر ما اقترحه الاتحاد أن يتم تسليف المؤسسة العامة للأعلاف بقرض من ميزانية عام 2009 لتيسير أمور الفلاحين واستلام محصول الذرة الصفراء، إلا أن الجهات المعنية أجابت بالرفض، ويجري الآن التفاوض مع الحكومة وفق الخطة الزراعية على ما يذكر أحد المصادر.

باتصال قامت به قاسيون بأحد الأصدقاء في الرقة المزارع أحمد الفيصل، ذكر أن المركز توقف عن استلام مادة الذرة الصفراء بعد أن اشترى حوالي 30 ألف طن، وأضاف: «إذا كانت المؤسسة العامة للأعلاف تستلم الذرة وفقاً للخطة الزراعية، فلماذا لم تشتر محصول الكثير من الفلاحين؟ إذ تقدر الكميات بأضعاف مضاعفة مما استلمته المؤسسة العامة للأعلاف، فلم نستطع تسويق حبة ذرة واحدة، وجل ما نخشاه أن تقوم الدولة باستلام الذرة وخفض السعر من خلال حسميات الرطوبة المبالغ بها، ليصل سعر الكغ إلى أدنى مستوى له، ليتساوى مع سعر السوق».. وأضاف قائلاً: «نحن سكان المحافظات الشرقية معروفون بنخوتنا ووطنيتنا، ونعلم بما يحيق ببلدنا من مخاطر، والحكومة نختنا فانتخينا، ولكن الصدمة كانت أكبر مما توقعنا عندما رفضت استلام محصولنا، وفي هذه الحالة سنبيع الكغ بتسع أو عشر ليرات سورية، وهذا أقل من التكلفة، وبذلك سيذهب تعبنا سدى، والخسارة تكون كبيرة، ولن نستطيع استعادة التكاليف».

 

شهادات من حماة

وبالانتقال إلى محافظة حماة ومن خلال اللقاءات التي أجرتها قاسيون مع الفلاحين في منطقة الغاب، أعربوا عن أسفهم وخيبة أملهم لعدم استلام الدولة محصول الذرة، مؤكدين أن لا أحد أعارهم آذاناً صاغية رغم العرائض المقدمة إلى رابطة الفلاحين في منطقة الغاب..

المزارع محمد الصطوف المحمد

«قدمنا شكوى إلى رابطة الفلاحين نرجوهم فيها فتح مراكز شراء الذرة الصفراء في تل سلحب أو شيزر، وقامت الرابطة الفلاحية بالاتصال مع المؤسسة العامة للأعلاف في محافظة حماة، لتأتي الإجابة: (لا يوجد لدينا تعليمات من الوزارة باستلام الذرة الصفراء!!). وقد وعدونا بمناقشة الموضوع مع المؤسسة العامة للأعلاف، وحتى الآن لم يأتنا الرد، وسلمت قاسيون نسخة عن العريضة المقدمة للرابطة الفلاحية في منطقة الغاب». (هي في حوزتنا).

المزارع فجر الياسين

«يوجد في قريتنا مئات الأطنان المكدسة في بيوتنا من الذرة، وهي تقاسمنا أماكن نومنا، فبعد تعب موسم كامل وسقاية المحصول أكثر من خمس رويات، تفاجئنا الحكومة برفض شراء المحصول، فلولا تشجيع الحكومة وتسعيرها للذرة بـ17 ليرة سورية ما كنا لنزرعها، والآن، بعد كل التكاليف المبذولة سنجبر على بيع محصولنا للتجار المتحكمين بنا وبأسعار زهيدة لا تحقق أدنى هامش ربح»...

ولدى سؤالنا نائب رئيس الرابطة الفلاحية في منطقة الغاب عما يجري بشأن تسويق الذرة الصفراء واستلامها من المؤسسة العامة للأعلاف، أوضح: «رغم مطالبنا الملحة والمتكررة هنا في الرابطة الفلاحية، ورغم السعي الدؤوب من الاتحاد العام للفلاحين في محافظة حماة، إلا أن الحكومة ترفض استلام الذرة الصفراء من الفلاحين، مبررة ذلك بأنه لا توجد خطة لاستلام الذرة الصفراء، وهذه المادة ليست مدرجة على أجندتها»!.

 

ليس سراً

على ما يبدو أن انخفاض سعر الذرة الصفراء عالمياً، ووصولها إلى المرافئ السورية بسعر أقل مما حدده مجلس الوزراء، جعل الحكومة تفكر بعقلية التجار في الربح والخسارة الآنية، متناسية الخسارة الكبرى التي تلحق بالوطن وأمنه الغذائي. وإن كانت الذرة الصفراء في محافظة الرقة بحاجة إلى تجفيف، فهي في محافظة حماة مجففة وخالية من الرطوبة، مما يجعلها جاهزة للتخزين، والأمر في كلتا الحالتين لا يعفي الحكومة من الإيفاء بوعودها، والالتزام بشراء محصول الذرة من الفلاحين.

إن كان الغضب الشعبي على سياسة الفريق الاقتصادي كبير، فالظلم الذي يلحق بالفلاحين أكبر، وهذا الغضب بمثابة استفتاء بـ (لا) على السياسات الاقتصادية للفريق الاقتصادي، ونقول إن هذه السياسة الزراعية والاقتصادية التي تتبعها الحكومة لن تبني وطناً معافى ومتماسكاً اجتماعياً مستعداً لمواجهة التحديات الخارجية والأعداء المراهنين على الفوضى الداخلية.