يوسف البني يوسف البني

تخفيض سعر المازوت تحوَّل أرباحاً إضافية للمهربين تهريب المازوت من القلمون إلى لبنان مخطط منظم برعاية قوى الفساد

ها نحن نفتح مرة أخرى ملف تهريب المازوت السوري إلى خارج الحدود.. وما دفعنا للقيام بذلك ورود معلومات إلى جريدة «قاسيون» ليست جديدة، لكنها تختلف عن سابقاتها بكونها أكيدة وموثقة، تفضح ارتباط الفئات التي تعرف باسم «الشبيحة» أو «البلطجية» بعمليات تهريب المازوت وحمايتهم لها، ومن المؤكد أن هذا التورط ما هو إلا شراكة بين المهربين ومن يحمي قوافل التهريب ومشاركتهم بالأرباح، ولهم من ورائها «حصة الأسد» الكبيرة. وقد ازداد تهريب المازوت السوري إلى الخارج، وخاصة إلى لبنان، بعد قرار تخفيض سعر لتر مازوت التدفئة من 20 ل.س إلى 15 ل.س، وبقاء سعر لتر مازوت الديزل بـ22 ل.س. وكما العادة التي درجت خلال العقود الخمسة الأخيرة، وهذا المكسب الذي حققه الشعب السوري بعد أن رفع صوته بالمطالب المحقة والمشروعة بالحرية والديمقراطية وتحسين مستوى معيشته واستعادة دعم الدولة لمواطنيها، فقد تم تجييره لخدمة المصالح والأطماع الشخصية للفاسدين والناهبين والمتلاعبين باقتصاد الوطن، واستفاد من تخفيض سعر المازوت بعض المتنفذين المستقوين بالمنصب، الذين يتاجرون بالوطن، وشبيحتهم وعصاباتهم المسلحة من الانتهازيين والمنتفعين من الأزمات وأثريائها، الساعين لتحقيق أسرع وأكبر الأرباح بدافع الطمع والجشع، حتى لو كان ذلك على حساب أمن الوطن والمواطن.

سيول المازوت في شوارع يبرود

استدعانا أهالي يبرود لننشر شكواهم من انعدام المازوت في محطات الوقود، علماً أن في يبرود وحدها سبع محطات هي محطة حمدان، محطة رجب، محطة المأمون، محطة البرادعي، محطة سمعان، محطة البرادعي 2، والمحطة الحكومية التي يتواجد فيها معظم الأوقات مازوت الديزل المخصص للسيارات والمحركات، بينما ينعدم مازوت التدفئة والحرق في جميع المحطات، وعلماً أن الطلب على مازوت التدفئة معدوم تماماً هذه الأيام، وسبب انقطاع المازوت من الكازيات هو تهريب المازوت «بالصهريج» إلى الحدود، بعد أن يتم دفع ثمنه في المحطة التي خُصِّص لتزويدها، ويباع للمهربين والشبيحة المرافقين لهم، ويتم توجيه الصهريج كما هو، كتلة واحدة، وختم الرصاص ما يزال على صنبور التفريغ.
وفي حادثة خطيرة كادت تسبب الكثير من الضرر والأذى لأهالي يبرود ، فقد انقلب صهريج  بسعة 35 ألف لتر  في قلب المدينة ، وعلى أحد مفارق شارع الكورنيش ـ طريق أبو فاروق، واندفع نهرٌ من المازوت حتى منطقة السيل، أي لمسافة تزيد عن كيلومترين، وبارتفاع أكثر من 20 سم، قامت «قاسيون» بزيارة موقع الحادث وتمكنا من رؤية آثار المازوت في شوارع يبرود، رغم ردمها بالتراب من البلدية. وحول تفاصيل الحادث التقينا بعض المواطنين الذين حدثونا عن الحادث وعن تهريب المازوت بشكل عام. وكان لنا اللقاءات التالية:
ـ المواطن الذي تعرض بيته للضرر المباشر من انقلاب الصهريج الذي أدى إلى كسر تصوينة البيت وغمر الحديقة بالمازوت، قال: «الصهريج كان نازلاً من كازية يبرود الحكومية وسكر التفريغ مازال مرصرص، (مختوماً بالرصاص) ونتيجةً لضيق الطريق، لم يستطع الالتفاف، واصطدمت العجلات الخلفية بأحجار الرصيف فانقلب، وكنا نائمين في البيت، واستيقظنا مرعوبين، وكسر لنا تصوينة البيت، وامتلأت الحديقة والقبو بالمازوت، وسال نهر من المازوت على عرض الشارع بارتفاع لا يقل عن 20سم، وفي الحديقة شجر أقوم بتربيته منذ 30 سنة، بعد أن جلبت التربة الزراعية من مكان بعيد، لأن تربتنا كلسية رملية صفراء، وهاأنذا اليوم أُعيد ترحيلها لإحضار تربة نظيفة مكانها، والشجر الذي تشرَّب المازوت قد يبس كله خلال أربع وعشرين ساعة، وضاع تعب العمر سدىً، وعندما طلبت آلة جرافة (تركس) لجرف التربة أقسم سائقها يميناً أنه لم يجد ليتر مازوت في الكازيات منذ ثلاثة أيام»
ـ مواطن آخر شرح لنا الصورة المضحكة المبكية في آن معاً، فقال: «الكثير من المواطنين لحقوا سيلان المازوت الذي نزل مثل الشلال عن تصوينة إحدى الحدائق، وراحوا يملؤون البيدونات والقوارير، بعد أن كانوا قد فقدوا وجود المازوت في جميع محطات الوقود بالمنطقة، في محطات يبرود والنبك والمشرفة والسحل وعسال الورد ورأس المعرة وغيرها، وإذا وُجِد فإنهم يبيعون لتر المازوت للمواطن بـ22 ل.س مثل سعر مازوت الديزل، رغم أن سعره نزل بقرار رسمي إلى 15 ل.س، ولكن أصحاب الكازيات يقولون للمواطنين (اضحكوا في عبِّكم إذا حصلتم على لتر المازوت بـ22 ل.س، فنحن نبيعه للمهربين بـ30 ل.س)»
 
المهربون والصهاريج وحُماتهم

ـ أحد المواطنين تجرأ وروى لنا حقيقة التهريب فقال: «مهربو المازوت من أهالي قرى المنطقة بشكل عام، ولكن المهربين من أهالي قرية المشرفة مدعومون من أجهزة الدولة، وهم مسلحون وخطرون، ولو كان لهم شخص موقوف بالسجن يخرجونه بالقوة، ويطلقون النار على الناس دون محاسبة، لأنهم محميون من الدولة، وهم بلطجية تجندهم السلطة لفض المظاهرات، وهم يعسكرون في الكازيات لحين قدوم الصهريج ويدفعون ثمنه، بوجود مراقبين من أمن الدولة والأمن السياسي ضمن الكازية، ويحولونه إلى الحدود لمكان التفريغ، وقد وصل الأمر بهم لقطع الطريق على الصهاريج المتجهة من حمص إلى حلب، ويشترون الصهاريج عن الطريق وقبل وصولها إلى حلب، ومن يعارضهم يجبرونه تحت تهديد السلاح، ويحولون الصهاريج إلى أماكن التفريغ، وأحد المهربين الكبار معروف جداً، واسمه (ر. ب.) وكان في السابق قد قتل ضابط أمن وعنصرين وهرب إلى لبنان، ثم عاد بعد فترة وسلَّم نفسه وطلع براءة، واكتسح بعد فترة قليلة مجال تهريب المازوت عن طريق خزان كبير على رأس جبل فاصل بين سورية ولبنان، ومدفون تحت الأرض، تفرغ الصهاريج فيه المازوت الذي يتم إرساله إلى لبنان عبر خراطيم من الخزان لتصل مباشرة إلى منطقة بعلبك.
ـ عاد المواطن صاحب المنزل الذي تهدمت تصوينته فقال: «في المفرق الذي وقع عليه الحادث يوجد منصف ولكنه غير مدروس، ويعرقل السير ويسبب الحوادث، ولا توجد إنارة رغم تكرار الطلب أكثر من عشرين مرة على مدى سنوات، وحدثت عدة حوادث أدت إلى موت عدد كبير من المواطنين، حتى سُمِّي «مفرق الموت»، وللعلم، فإنه يسكن على هذا الشارع أكثر من ألف عائلة. ومن جهة ثانية فقد تقدمنا لمديرية المنطقة بشكوى ضد صاحب الصهريج الذي هرب، للتسبب بتضرر البيت والحديقة وموت الشجر الذي يزيد عمره عن 30 سنة، وبعد يومين أبلغونا أنه تمت معرفة صاحب الصهريج، ثم عادوا وأبلغونا أن صاحب الصهريج قد تقدم ببلاغ أن الصهريج مسروق، وتم إغلاق ملف القضية (تمت لفلفة الموضوع)، ونحن الآن نخاف من اتهامنا بالتسبب بالحادث وتغريمنا بالصهريج والمازوت».
 
المهربون وحماتهم يعسكرون في المحطات

ـ دخلنا إحدى محطات الوقود في يبرود، وسألنا عن عدم توفر المازوت والأسباب الكامنة وراء فقدانه، ومن الممكن أن يكون الرجال الستة الموجودون في غرفة الإدارة قد أدركوا بحدسهم أننا نتساءل حول قضية تهريب المازوت، فتحدث أحدهم قائلاً: «هذه محطة المأمون، تم تخصيص 16 طلبية لها في الشهر فقط، بعد أن كانت مخصصاتها 23 طلبية، وكل طلبية 20 ألف لتر، أي بمعدل طلبية كل يومين، وعندنا هنا لا يوجد تهريب مازوت بل هناك استهلاك كبير حيث يستجر من عندنا أهالي كل منطقة القلمون، من قرى رأس العين ورأس المعرة والصرخة والجبة والسحل والمشرفة وريما وخصوصاً عسال الورد، وهذا الوقت من العام هو موسم زراعة وري واستجرار مازوت لذلك الغرض، أما المهربون الحقيقيون والخطرون فهم أهالي فاليطا (المشرفة) الذين استعمال السلاح عندهم مثل شرب الماء، فمثلاً أحدهم طلب من أحد الحدادين صناعة خزان حديد له فقال له: ارجع الاسبوع القادم فهذه الأيام أنا مشغول جداً، وذهب الزبون وعاد بعد نصف ساعة ومعه بندقية آلية ورشَّ الموجودين بالورشة جميعاً، وآخر اغتاظ من ارتفاع سعر كيلو البندورة 5 ليرات، فسحب بندقية ورشَّ السوق كله، وكذلك ينزلون إلى الكازيات بالذخيرة الحية، ويأخذون المازوت غصباً وعلى مرأى من عناصر الدولة والجمارك».
وأثناء خروجنا من محطة الوقود همس أحد العاملين بالمحطة في آذاننا أن الذي تحدث لنا عن شكل التهريب هو مهرب كبير ويجلس في إدارة الكازية بانتظار قدوم الصهريج ليدفع ثمنه ويحوله إلى لبنان. والآخران الجالسان إلى جانبه هم من الشبيحة الذين يحمون الصهريج على طريق التهريب.
ـ وفي محطة أخرى حدثنا آخر أن المهربين الأساسيين الكبار هم أهالي عسال الورد المسلحون والخطرون، وباستثناء تغيير جنسية المهربين، كان كلامه نسخة مطابقة عن الممارسات الإرهابية. وإن اللبيب يدرك أن هذا أيضاً مهرب كبير، والذين يجلسون إلى جانبه هم حُماة طرق التهريب.
 
من الذي يبيع الوطن؟

من المؤكد أن هناك مافيات كبيرة ومحمية وراء تهريب المازوت، ولا أحد يستطيع مواجهتها، وأن الجمارك وحرس الحدود لا يعترضون قوافل سيارات المازوت أو الصهاريج، التي ترافقها في أغلب الأحيان السيارات ذات الدفع الرباعي والزجاج (المفيَّم) وتساعدها في فتح الطريق لها. وإن محاربة الفساد الأكبر هي واجب وطني بامتياز، والقضاء على العصابات والمافيات التي تخرب اقتصاد الوطن وتحرم المواطنين من التمتع بخيراته هي مهمة كل شريف في هذا الوطن، وإن مسؤولية محاربة التهريب وقمعه تقع على عاتق الجميع، ويجب فتح سجلات للمحطات والصهاريج لضبط عمليات التوزيع والتأكد من وصولها للمحطات، ويجب العمل الجاد والمستمر لبتر هذه الظاهرة الخطيرة، ومحاسبة المهربين، والفاسدين الذين يقفون خلفهم، يشاركونهم ويسهلون لهم العملية، مهما كانت مناصبهم، وخاصة حرس الحدود ودوريات الجمارك، التي بدل أن تلعب دوراً أساسياً في الرقابة ومنع التهريب، فإنها تشارك في تفاقم هذه الظاهرة وتتواطأ مع المهربين، وتسهل لهم المنافذ و(تقبض منهم).