أزمة الخبز الأخيرة.. من أمر بتخفيض المخصصات؟ ولماذا؟

شهدت محافظة الحسكة مؤخراً أزمة خبز خانقة لم يُعرف لها مثيل في العقود الأخيرة، تمثلت في الانقطاع التام للخبز عن بعض القرى، وعن المئات من الأسر في المدن، ومن حصل عليه فبشق الأنفس، مما ترك حالة من القلق والترقب، وكاد أن يتسبب باضطرابات لولا تدارك الأمر في اللحظات الأخيرة..

وقد طرحت الأزمة أكثر من سؤال: لماذا حصل هذا؟ وما، ومن وراء ذلك؟ وإلى ماذا كادت أن تؤدي؟

الأسباب المباشرة للأزمة

قبل الأزمة بأيام، وفي الثلث الأخير من شهر نيسان 2008، أصدر وزير الاقتصاد العديد من الفرمانات بتقنين استهلاك مديرية المطاحن مادة الطحين، مع العلم إنها الممول الوحيد للأفران الخاصة والعامة بهذه المادة، واعتماد كمية الطحين المستهلك في شهر نيسان 2007 مضافاً إليها نسبة 2.37، وعدم تجاوز هذه النسبة تحت طائلة المسؤولية وذلك دون سابق إنذار، مع العلم إن أغلب الأفران في المحافظة كانت قد استهلكت الكمية المسموح بها أثناء صدور قرار الوزير.. 

قرار الوزير لم يراعِ الواقع الملموس من جانبين:

فمن جهة لم يأخذ بعين الاعتبار تغير عادات الاستهلاك لدى أبناء الريف، وبيع مدخراتهم من مادة القمح بعد ارتفاع أسعاره، والتخلي عن عادة الإنتاج المنزلي (خبز التنور أو الصاج)، وبقيت الأفران المصدر الوحيد لتأمين مادة الخبز في عام 2008.

ومن جهة أخرى لم يكن توقيت القرار مناسباً، إذ أن الأفران اعتادت على استجرار ما يلزمها من مادة الطحين حسب الطلب، ولو أن القرار صدر في بداية الشهر مثلاً لكانت الأزمة أخف بكثير عن طريق التحكم بالعرض اليومي للمادة في السوق.

بعد صدور قرار الوزير اضطرت إدارات المخابز إلى تخفيض الإنتاج اليومي من المادة، وعدم بيع الخبز إلى معتمدي الريف، ومعتمدي الحارات، والاقتصار على البيع فقط من الكوى النظامية.. ولما كان الخبز المادة التي لا يمكن الاستغناء عنها في الاستهلاك اليومي للمواطن، حدثت أزمة خانقة تمثلت بتجمع الآلاف من أبناء القرى والحارات أمام الأفران بحثاً عن الخبز.

شهادات حية

قاسيون وعبر مراسليها كانت في موقع الأحداث، وقد سجلت الشهادات والوقائع التالية:

حسن (موظف) قال لنا: «أنا في الدور منذ ثلاث ساعات، الأولاد لم يفطروا بعد، وأنا تغيبت عن الدوام»..

ربة منزل: «لا يوجد خبز في البيت منذ يوم أمس، ولا نعرف ماذا نفعل؟ اللعنة على زمن أصبح فيه الخبز حلماً»..

شاهدنا رجلاً مسناً، انهال عليه عناتر حفظ النظام بالضرب عندما خالف الدور بعد أن فسح أحدهم له المجال ليدخل ضمن الطابور الطويل احتراما لشيبته.. غادر المكان قائلاً: «ما عاد في زلم  بهالبلد»؟

- معلم مدرسة (يتأبط دفتر التحضير): «باعوا كل المخزون، والآن يأمرون بتخفيض المخصصات.. هذه الحكومة إما مجنونة أو تريد تدمير البلد»!!

في الأسباب العميقة للأزمة

إن أزمة الخبز الأخيرة هي نتاج طبيعي للسياسات الاقتصادية المتبعة في البلاد وخصوصاً بعد تبني  ما يسمى باقتصاد السوق الاجتماعي، واتباع سياسة تصدير كل شيء بغية تأمين موارد لخزينة الدولة بعد أن «شفط» الفاسدون والناهبون الأخضر واليابس، وعلى ما يبدو فإن أنصار السياسة الليبرالية لا يهمهم شيء إلا إرضاء قوى السوق الذي يأخذ طابعاً احتكارياً عندنا. وإلا ما مبرر تصدير آلاف الأطنان من الطحين إلى دولة مجاورة حتى قبل أيام قليلة من الأزمة؟

ولأن قرارات وزير الاقتصاد كانت وراء الأزمة الأخيرة، فيحق لنا أن نستنتج بأن الرجل عارف بما ارتكب، بعد فتح أبواب تصدير القمح والطحين على مصاريعها، ولم تعد توجد لديه خيارات إلا بتقنين استهلاك المواطن السوري، وليسمح لنا الوزير وكل أنصار هذه السياسة، بأن المعنى الوحيد لسياساتهم - من الناحية الموضوعية على الأقل - هو العبث بالأمن الاجتماعي، ولأنه حتى الأعمى بات يدرك بأن الأمن الاجتماعي في هذا الظرف هو جزء من الأمن الوطني، ومن هنا فإن مثل هذه السياسات تهدد الأمن الوطني في الصميم، وتجاري في خطرها خطر التهديدات الأمريكية – الصهيونية ضد بلادنا..

هل انتهت الأزمة؟

بداية نتمنى حقاً أن تكون الأزمة قد انتهت، ولكن العديد من المؤشرات، وفهمنا لطبيعة توجهات الفريق الاقتصادي، وتجاوزه لمرات عديدة المحرمات الوطنية، يجعلنا نميل إلى تصديق ما يقال بأن هناك خللاً في كمية المخزون الاستراتيجي لمادة القمح، وما يجعلنا أقرب إلى هذا الميل هو أن حل الأزمة بدأ عندما تجاوب البعض في جهاز الدولة مع الضغط الذي مارسته القاعدة الشعبية بأشكال مختلفة، وأدرك حجم الأزمة واحتمالات تفجر الوضع، ولم يتم حتى إصدار قرارات معاكسة من وزير الاقتصاد تلغي قراراته السابقة بالتقنين..

وبقي أن ننبه جميع القوى الوطنية الشريفة داخل جهاز الدولة وخارجه إلى ضرورة إدراك مخاطر المشكلة، والنضال من أجل وضع خطة لتأمين حاجة السوق من هذه المادة الإستراتيجية، وعدم ترك الأمور للتقادير، مع اعتقادنا بأن الخطوة الأولى في ذلك تبدأ بتكنيس الفريق الاقتصادي مع سياساته، وإلا فإن تكرار الأزمة مرة أخرى قد يؤدي إلى مالا تحمد عقباه؟!

■ القامشلي – مكتب قاسيون