كيف أصبحت شيوعيا؟

 قراءنا الأعزاء.. بدافع من قناعتنا بصحة مضمون الحكمة القائلة (أعط الخباز خبزه!)، قصدنا المؤرخ الدكتور عبد الله فايز حنا، ليكون ضيف عددنا هذا، وسألناه: حدثنا كيف أصبحت شيوعيا؟.فخصّنا بالحديث الآتي:

 

«أنا من مواليد دير عطية عام 1932 من أسرة فلاحيّة، درست الابتدائية في بلدتي والإعدادية في بلدة النبك، وحصلت على شهادة البكالوريا في دمشق عام 1952، ونلت من جامعة دمشق إجازة في التاريخ عام 1958، كما حصلت عام 1965 من لايبزغ بألمانيا على شهادة دكتوراه

عن أطروحة موضوعها «حركة التحرر الوطني العربية في سورية في مستهل القرن العشرين»، وبعد العودة للوطن عملت في التدريس، وأنا اليوم أؤرخ للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والفكري لسورية والمشرق العربي.

سمعت بالشيوعية منذ طفولتي وبخاصة أن بلدتي دير عطية كانت أحد المراكز المتقدمة للفكر والتنظيم الشيوعي الذي بدأ فيها عام 1937 عن طريق الرفاق مصطفى جومر الآتي من فلسطين وحسن حديد الآتي من الأرجنتين والياس البطل العامل في دمشق، وأول معرفتي بالفكر الاشتراكي العلمي كان بواسطة ابن عمي خليل حنا أستاذ الرياضيات، ثم بدأت بقراءة النشرات التي يصدرها الحزب، وقرأت خلال دراستي في المرحلة الثانوية ثلاثة مجلدات بعنوان (سقوط الجمهورية الثالثة) التي ترجمها عن الانكليزية كامل قازنجي، كما قرأت كتاب المادية الديالكتيكية والتاريخية لستالين، وكذلك كتاب القضايا الاقتصادية، هذه الكتب كانت وراء نجاحي في مسابقة الدخول إلى الجامعة السورية (حيث لم يكن للقبول في الجامعة شرط إلا الشهادة والجدارة العلمية من ثقافة ومعلومات ولا شيء غيرها).

انتسبت للحزب عام 1951، وكان النجار خالد القليح مسؤول التنظيم حين ذاك، وكان يتردد علينا حينها إبراهيم بكري وخليل حريري. وفي الجامعة انتظمت بفرقة في عدادها كامل صناع وأحمد فايز فواز، وأذكر أننا عند مناقشة مبلغ الاشتراك الشهري اتفقنا حسب الإمكانات على الشكل التالي: أحمد 15 ليرةسورية كونه من عائلة ميسورة، كامل 5 ليرات، وأنا ليرة كوني من عائلة فقيرة. ومن ذكريات تلك الفترة التي لاتنسى مشاركتنا نحن الثلاثة في مظاهرة جرت في شارع بارون بحلب بمناسة عيد الجلاء عام 1953 أيام حكم أديب الشيشكلي، وانتهت باشتباك مع رجال الشرطة، كما اشتركنا ثلاثتنا بمظاهرة (طيّارة) في سوق الصوف بدمشق احتجاجا على ديكتاتورية الشيشكلي، ومن ذكريات الجامعة ذلك الاجتماع الذي جرى في غرفة يقيم فيها حسن العمر الطالب في كلية الآداب وهو من بلدة (منين) وبحضور المسؤول أسعد نيشلة، وهو من حلب، ومعه رفيق آخر شرح لنا الوضع السياسي بشكل ترك أثره الكبير في نفوسنا (وفيما بعد عرفت أنه الرفيق حسن قريطم). ومن الذكريات أيضا تلك المشاعر الدفّاقة التي غمرت جوانحي حينما سكنت في غرفة ببيت لامرأة عجوز في حي القيمرية أيام الملاحقات، وكنت لا أدخل البيت إلا بعد أن أردد بصوت عال (يا الله يا ستار) وكانت لنا جارة  شابة جميلة تطل عليّ من غرفتها العالية محاولة إقامة علاقة معي،لكن الالتزام الحزبي والعفة صدّاني عن مجاراتها رغبتها!!. ساهمت بالعمل خلال الانتخابات النيابية عام 1954 حيث كان لترشيح الأمين العام للحزب خالد بكداش صداه الواسع نظرا للشعبية التي كان يتمتع بها، وكم كانت سعادتي كبيرة بنجاحه خصوصا لأنني قمت مع بعض الرفاق بالدعاية وبلصق البيان الانتخابي وصور مرشحي الاتحاد الوطني من باب مصلى طريق التراماي حتى آخر حي الميدان، وكم كنت سعيدا وأنا أشارك في الاحتفال الانتخابي الذي أقامه الحزب في بيت فسيح على سفح جبل قاسيون، وقد ألهب خطاب خالد بكداش أكف ألوف الجماهير، والجدير بالذكر أننا عشنا أجمل الفترات وأغناها من عام 1954 حتى عام ،1958 تلك المرحلة الحافلة بالعمل والنشاط والنضال والحرية والخيال الخصب بانتصار الاشتراكية الوشيك، وما زال ماثلا في ذاكرتي ذلك الاجتماع الذي عقدته اللجنة الفرعية قبيل حملة الاعتقالات الواسعة أواخر صيف عام 1959 وبحضور الرفيق فرج الله الحلو الذي حدثنا عن الوضع السياسي، وأوضح لنا أن أمامنا معركة سياسية تتطلب قوة الإرادة والعزيمة وقال: (من يمتلك تلك الإرادة وقادر على خوض المعركة فليبق، ومن لا يمتلك تلك الإرادة يمكنه الانسحاب من المعركة). وكان التجاوب مع حديثه رائعا، وملأت نفوسنا مشاعر الانتخاء والحمية لخوض المعركة، وقبل تلك الفترة كنت قد عملت في جريدة (النور) محررا وكنت بين الحين والآخر ألتقي الرفيق فرج في ساحة الشهبندر لآخذ افتتاحية الجريدة الموجودة ضمن ظرف وأسلمها للأستاذ عبد الباقي الجمالي رئيس التحرير، وأيام الاعتقالات التي نظمتها «المباحث السلطانية السرّاجية» كنت متخفيا، وفي أحد الأيام اجتمعت مع الرفيق فرج الذي عرض عليّ فكرة الذهاب إلى حلب للمساعدة في التنظيم، وبعد مدة قصيرة أبلغني أن أذهب إلى لبنان وهناك يعلمني الحزب توقيت التوجه إلى حلب، وأقمت زهاء سنة في لبنان وأثناء وجودي في بيروت أعلمني المسؤول بأنني سأذهب إلى العراق لتدريس التاريخ فيه، لكن الحزب أرسلني للدراسة في ألمانية الديمقراطية، وقد سافرت من بيروت إلى برلين عن طريق زوريخ وفي الفندق رفضت تناول النبيذ، وكيف لي أن أشربه ورفاقي يعانون الأمرين في السجون؟؟ وكيف لي أن أنام على فراش ناعم بينما ينام الرفاق على الأرض في مراكز الاعتقال؟!!. هذا بعض مما عشته وأظن أن لي عودة ثانية لحديث آخر قريبا، وشكرا لجهودكم»...