يوسف البني يوسف البني

الثورة السورية الكبرى.. عبَّدت درب الجلاء

اجتاحت قوات الانتداب الفرنسي، الساحل السوري في عام 1918، ولاقت مقاومة شديدة، بقيادة الشيخ صالح العلي. ولكنها استمرت بالتقدم جنوباً لاحتلال باقي المناطق السورية، وبتاريخ 24 تموز من عام 1920، دخلت إلى دمشق بعد معركة ميسلون التي استشهد فيها القائد البطل يوسف العظمة. في ذلك الوقت كان سلطان الأطرش قد جهز قوات كبيرة لملاقاة الفرنسيين في ميسلون، لكنه وصل متأخراً، بعد انكسار الجيش العربي، واستشهاد القائد يوسف العظمة.

في عام 1921 عمدت فرنسا لتقسيم سورية إلى دويلات وأقاليم ذات حكم محلي، ولكن الشخصيات الوطنية عارضت هذا الإجراء، ورفضت التقسيم.

في 7 تموز 1922 داهم الفرنسيون دار سلطان الأطرش، واعتقلوا أدهم خنجر، المناضل الوطني الذي احتمى به هرباً من الفرنسيين، بعد اشتراكه في محاولة اغتيال الجنرال الفرنسي غورو، بإطلاق النار عليه عند جسر بنات يعقوب.

على إثر ذلك جهز سلطان الأطرش قوة كبيرة، وحاصر الحامية الفرنسية في قلعة السويداء، من ثلاث جهات، واشتبك مع الفرنسيين في معركة تل الحديد عام 1922، أبيدت فيها فرقة الضابط بوكسان، وتم تدمير أربع مصفحات، وأسر ستة جنود فرنسيين، فعمدت فرنسا لمحاصرة السويداء ولجأت إلى الخديعة، حيث وافقت على إطلاق سراح أدهم خنجر مقابل الجنود الفرنسيين الستة، وبعد استلامهم نكثت بالوعد، وأرسلت أدهم خنجر إلى الإعدام في بيروت، وبدأ الطيران الفرنسي قصف مراكز الثوار لفك الحصار حول القلعة، ودمرت منزل سلطان الأطرش، وجعلته ملعباً لكرة القدم. لجأ سلطان الأطرش والثوار مؤقتاً إلى الأردن، لمدة سنتين عمل خلالهما على شحذ الهمم وجمع الرجال لمقاتلة الفرنسيين، فعاد إلى الجبل وقد اكتسب شعبية هائلة.

   انطلقت الثورة من جبل العرب، لتشمل سورية كلها وجزءاً من جبل لبنان، بعد أن تنقل سلطان بين قرى الجبل يحرض الأهالي على الثورة ضد الفرنسيين، ويستثير النخوات. وكانت أولى القرى التي استجابت لنداء الشرف والنخوة هي قرية امتان، التي رفعت أول بيرق في الثورة، في 20 تموز 1925. وعلمت فرنسا بوجود سلطان الأطرش في امتان، فأرسلت طائراتها لقصف القرية، وكانت أولى عمليات الثورة العسكرية، إسقاط طائرتين فرنسيتين، إحداهما وقعت قرب امتان، وتم أسر طيارها.

تجمع الثوار وهاجموا الحامية الفرنسية الموجودة في قلعة صلخد، في 20 تموز 1925 وأحرقوا دار البعثة الفرنسية.وفي اليوم نفسه انطلقت حملة فرنسية بقيادة القائد الفرنسي «نورمان»، الذي استخف بقدرات الثوار، واتجه إلى قرية الكفر وأمر جنوده بالتمركز حول نبعها، وهدد بالقبض على سلطان وأعوانه.

باغَتَ الثوارُ الحملةَ الفرنسية، وتفاجأ الجنود، فلم يستطيعوا الوصول إلى أسلحتهم الثقيلة، ولم تدم المعركة أكثر من نصف ساعة، حيث بدأ القتال بالسلاح الأبيض، ودخل الثوار بين الفرنسيين، وقُتل «نورمان»، وأبيدت الحملة كلها تقريباً. وكانت خسائر الثوار في معركة الكفر 54 شهيداً، وتقول المراجع الفرنسية أن 172 جندياً فرنسياً قتلوا، ولكن الحقيقة أن الخسائر كانت أكثر من ذلك بكثير وتقدر بعدة آلاف.

- بتاريخ 23 آب عام 1925 أعلن سلطان الأطرش الثورة رسمياً ضد الفرنسيين، ووجه بيان الثورة السورية الكبرى، الذي جاء فيه:

 «إلى السلاح .. إلى السلاح..

يا أحفاد العرب الأمجاد، هذا يوم ينفع المجاهدين فيه جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم، فلننهض من رقادنا ولنبدد ظلام التحكم الأجنبي عن سماء بلادنا، لقد مضى علينا عشرات السنين ونحن نجاهد في سبيل الحرية والاستقلال، فلنستأنف جهادنا المشروع بالسيف بعد أن سكت القلم، ولا يضيع حق وراءه مطالب.

أيها العرب السوريون: لقد أثبتت التجارب أن الحق يؤخذ ولا يعطى، فلنأخذ حقنا بحد سيوفنا، ولنطلب الموت توهب لنا الحياة.

أيها العرب السوريون: تذكروا أجدادكم وتاريخكم وشهداءكم، وتذكروا أن يد الله مع الجماعة، وأن الأمم الناهضة المتحدة لا تنالها يد البغي. لقد نهب المستعمرون أموالنا، واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارة بين وطننا الواحد، وقسمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير، وحرية التجارة والسفر في بلادنا وأقاليمنا.

فإلى السلاح أيها الوطنيون.

إلى السلاح تحقيقاً لأماني البلاد المقدسة.

إلى السلاح بعدما سلب الأجنبي حقوقكم، واستعبد بلادكم، ونقض عهودكم، ولم يحافظ على شرف الوعود الرسمية.

نحن نبرأ إلى الله من مسؤولية سفك الدماء، ونعتبر المستعمرين مسؤولين مباشرة عن الفتنة.

إلى السلاح أيها الوطنيون ولنغسل إهانة الأمة بدم النخوة والبطولة. إن حربنا اليوم هي حرب مقدسة ومطالبنا هي:

1 ـ وحدة البلاد السورية، ساحلها وداخلها، والاعتراف بدولة سورية، عربية واحدة مستقلة استقلالاً كاملاً.

2 ـ قيام حكومة شعبية...

3 ـ سحب القوات المحتلة من البلاد السورية، وتأليف جيش وطني لصيانة الأمن.

4 ـ تأييد مبدأ الثورة الفرنسية.

إلى السلاح.. ولنكتب مطالبنا هذه بدمائنا الطاهرة، كما كتبها أجدادنا من قبلنا.

إلى السلاح والله معنا، ولتحيا سورية العربية حرة مستقلة.

فانضمت باقي المدن السورية إلى الثورة بقيادة عدد من الأبطال المجاهدين، مثل ابراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد الأشمر وصالح العلي، وتساعد ثوار الجبل ونسقوا عملياتهم مع ثوار الغوطة في دمشق. كما شارك أبناء الجزيرة، من كرد وعرب، بالتصدي لجحافل الاستعمار، وأطلق «محو إيبش» الرصاصة الأولى للثورة في الجزيرة، وقد أردى الكرد في وقعة «بياندور» الضابط الفرنسي «روغان» قتيلاً.

وخاض الثوار في الجبل الكثير من المعارك الظافرة ضد الفرنسيين، كالمزرعة وصلخد والمسيفرة وغيرها.

هذه الثورة العامة والمعارك الكبيرة زعزعت بشكل كبير سياسة الفرنسيين في سورية، ودامت حتى نهاية عام 1928، وكان عدد شهدائها، كما جاء في كتاب (قبسات في جبل العرب، والثورة السورية الكبرى)، كما يلي: 311 شهيداً في حلب وإدلب، 331 في اللاذقية وطرطوس والساحل، 731 في دمشق والغوطتين، 150 شهيداً في حماة، 250 في حمص والنبك والقلمون، 71 في دير الزور والجزيرة والبوكمال، 34 في درعا، 28 في حامية البرلمان، 2064 في جبل العرب، 275 في إقليم البلان وراشيا ومجدل شمس والقرى التي حولها، أي بما مجموعه 4245 شهيداً.

- وقد تحققت خلال الثورة انتصارات كبرى، وقد أطلق سلطان الأطرش، قبل ذلك، البيان الثالث للثورة السورية الكبرى، وجاء فيه:

«يا بني وطني: لا تنافس في الأهواء ولا خصومات، ولا أحقاد طائفية بعد اليوم، إنما نحن أمة عربية سورية، أمة مستضعفة قوية في الحق، قد انتبهت إلى المطالبة بحقها المهتضم، أمة عظيمة التاريخ نبيلة المقاصد، قد نهضت تريد الحياة، والحياة حق طبيعي وشرعي لجميع الأمم، وقد قسمها الاستعمار الأجنبي، فوحدتها مبادئ حقوق الإنسان وأعلام الحرية والمساواة والإخاء.

نعم ليس هناك درزي وسني وعلوي وشيعي ومسيحي، ليس هناك إلا أبناء أمة واحدة، وتقاليد واحدة ومصالح واحدة، ليس هناك إلا عرب سوريون.

يا بني الوطن: ليس لكم بعد الآن، على اختلاف المذاهب والفئات، إلا عدو واحد، هو الحكم العسكري الجائر والاستعمار الأجنبي. فانفروا إلى إنقاذ البلاد من أوضاعها السيئة، وارفعوا علم الاتحاد والتضامن والتضحية. إن حركتنا اليوم هي حركة مقدسة غرضها المطالبة بالحرية والاستقلال، وضمان حقوق البلاد، على مبدأ سيادة الأمة. فاتحدوا على اختلاف المذاهب والفئات.

إن قائد جيوش الثورة السورية المقدسة، يطلب إلى كل العرب السوريين:

1 ـ إعلان الإخاء الوطني بين الطوائف كافة.

2 ـ قيام الأحياء (الحارات) في كل مدينة، بصيانة الأمن الداخلي، كل بحسب جبهته، عند دخول جيوش الثورة الوطنية، وانهزام المستعمرين.

3 ـ تأليف دوريات ومخافر وطنية، يترأسها المخلصون المحترمون من الأمة، لتأسيس الاتصال الداخلي، ولحفظ الأمن وصيانة الأموال ومنع التعدي.

4 ـ إرسال قوة محلية من المتطوعين، إلى خارج المدينة أو القرية، لاستقبال كتائب الثوار الوطنيين بالأهازيج الحماسية، عند وصولهم. باعتبار جميع أفراد الأمة جيشاً واحداً لهذه الثورة المقدسة.

هذه التعليمات يجب أن يتبعها الشعب العربي السوري، في المدن والقرى، تأييداً للأخوّة القومية، والثورية الوطنية، ولتحيا سورية حرة مستقلة.

أصبح الفرنسيون على قناعة تامة، بأن الشعب السوري لن يرضخ،  وتوالت الضغوط على فرنسا واستمر النضال إلى أن تم الاستقلال الكامل والجلاء عام 1946.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.