يوسف البني يوسف البني

الجلاء.. ربيع سورية.. صنعه أعلامها

في بيت ريفي مفعم بالروح الوطنية، عامر بمشاعر الحقد والكراهية لكل أشكال الاستعمار والاستبداد، كان «أبو سعيد فارس» مثالاً في الوطنية الحقة، ونموذجاً للمجاهد الحقيقي. ومنه تعلمت الدروس الكثيرة في الوطنية والكرامة، وتحت جنحه نشأت وتربيت وكبرت حاملاً بين ضلوعي الإيمان المطلق بالعمل على مقاومة الاستعمار والامبريالية بكل الأساليب المتاحة.

كان «أبو سعيد» حين يتحدث عن الجلاء تنتابه قشعريرة عارمة، تجتاح جسده التسعيني، ويحس بنشوة النصر مازالت جديدة متجددة في دمه، خليط من المشاعر الإنسانية ملؤها العز والفخار. وعن يوم الجلاء كان يقول: «يوم الاستقلال، عيد التحرير، العيد الوطني للجمهورية العربية السورية، هو يعني كل ذلك معاً، ولكن تسميته لم تكن أياً من تلك العبارات، بل إنه عيد الجلاء (جلاء الأجنبي عن أرض الوطن). وقبل ذلك حصلت سورية على استقلالها مرتين: الأولى في الثامن من آذار عام 1920، عندما أعلن المؤتمر السوري، من ساحة الشهداء بدمشق، استقلال سورية عن الاحتلال العثماني الطاغي، وهذا الاستقلال لم يدم أكثر من أربعة أشهر، فقد استُعمرت سورية من جديد، إثر دخول قوات الانتداب الفرنسي، بعد معركة ميسلون، التي استشهد فيها البطل يوسف العظمة، والتي أسست لتاريخ نضالي مقاوم طويل. والمرة الثانية كانت اعترافاً شفهياً من فرنسا باستقلال سورية، بعد أحداث أيلول عام 1936، والإضراب الستيني، حيث استطاع الزعماء الوطنيون، بدعم كبير من الشارع الشعبي الوطني، فرض معاهدة الاستقلال مع فرنسا، التي اضطرت للاعتراف بمطالب الوطنيين، المتمثلة بتحرير سورية من الأجنبي، وإن تم ذلك بصيغة شفهية، عبر المندوب السامي الفرنسي «دومارتيل»، وذلك كي تضمن فرنسا الرأي العام السوري إلى جانبها قبيل هبوب رياح الحرب العالمية الثانية. ولكن الجلاء الحقيقي للقوات الأجنبية، الفرنسية والإنكليزية عن سورية، حصل في الخامس عشر من نيسان عام 1946، إلا أن الاحتفال به رسمياً تم في السابع عشر من نيسان، ليتسنى لكبار الضيوف من الشخصيات العربية، الوصول إلى دمشق والمشاركة فيه.

كان جلاء المستعمر عن سورية ولبنان في يوم واحد، وكان خروج آخر جندي فرنسي من محطة «رياق» على الخط الحديدي الحجازي، وقد خطب قائد القوات الفرنسية مودّعاً، وداعياً الضباط وصف الضباط السوريين، تحت القيادة الفرنسية، للانضمام إلى الفرنسيين بالمغادرة، ولهم هناك كامل حقوق المواطَنة وتتمة الخدمة والتقاعد. ولكن «أبا سعيد» أبى أن يغادر تراب الوطن، واعتلى إحدى القاطرات وصاح بالجنود: «من يحب هذا الوطن فليتبعني». وعاد إلى دمشق بثمانمائة جندي وصلوا إلى ثكنة الحميدية، وكانوا نواة للجيش العربي السوري الوطني.

وفي العرض العسكري احتفالاً بالجلاء، كان «أبو سعيد» قائداً لسرية المراسم المُشاركة بالاحتفال، وقد تنكبوا سلاحهم الذي كُتب عليه «هذا السلاح وقفٌ للجهاد في سبيل الله والوطن، لعن الله من يبدله».

وقد حدثني عن الاحتفالات بعيد الجلاء في السنوات التالية فقال: «كانت تجري مسيرات ليلية حتى الصباح، وتنشَد الأناشيد والأغاني الوطنية، وكان أكثر من يعطي هذه المناسبة قدرها، ويتميز بمظاهر الاحتفال بها، هو الحزب الشيوعي السوري، الذي كان يعقد اجتماعات خاصة بالمناسبة، وكان في كل عام يقيم احتفالاً عاماً، مهرجاناً كبيراً في صالة سينما، أو في نادي «الأبولون» اليوناني في حي القصاع، أو في حديقة «السلوى» الصيفية في ساحة التحرير.

لقد كان عيد الجلاء في سورية، عيد فرح وسرور ، تظهر فيه الوحدة الوطنية بأسمى معانيها، وأصدق وأنظف أشكالها، فقد كان الهتاف السائد في المظاهرات «بدنا الوحدة الوطنية، إسلام ومسيحية».

لتكن هذه الروح الوطنية، والتمسك بالوحدة الوطنية، نبراساً نقتدي به ونسير على دربه، ومن هنا تأتي أهمية خيار المقاومة الشاملة، لنكمل تحرير أرضنا المحتلة وجولاننا الحبيب من رجس الاستعمار الصهيوني البغيض، فلن تكتمل فرحتنا بالجلاء، إلا بعودته سالماً محرراً، فهو لن يكون إلا عربياً سورياً.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأربعاء, 31 آب/أغسطس 2016 13:31