سوق متأرجحة بين الانفلات.. وادِّعاء الجودة.. والشراكات المشبوهة

لا غرابة فيما يحدث في السوق السورية المنفلتة.. طالما أنّ لا أحد يحاسب أو يراقب، وطالما باستطاعة الفاسد أن يجدد وسائل فساده ويطور آليات احتياله، وطالما أن القانون يترك ثغرات واضحة لانتهاكه.

السوق السورية تتأرجح، أسعار تتفاوت، القطعة نفسها في شارع واحد، وبسعرين مختلفين، جهة المنشأ نفسها، والحجة والمبرر أن السعر تحكمه الجودة.. حتى الخردة تخضع للمقاييس ذاتها..

الأدهى والأسوأ.. أن مهناً إنسانية دخلت اللعبة، وتواطأت مع بعضها، وقاسمها المشترك إيصال الزبون إلى طريق مسدود بين طرفي المعادلة المستفيدين من ذهابه وإيابه، أما الأسعار فهي للشركة الأكثر شهرة والمخبر الذي يذيع صيته.

معاهدة جوار!

مع الزمن تجاور الدكتور (س.ر) والصيدلاني (ف.ع)، ومع الزمن شكلا فريق عمل، ولغة رمزية فيما بينهما، والغاية ألا يذهب المريض بالوصفة الطبية إلا إلى الصيدلاني.

الطبيب (س.ر) معروف في كل أنحاء المنطقة، يأتي إليه المرضى بسبب سمعته الجيدة.. وتعرفته (المعاينة) الرخيصة، وهو دائماً في حالة ازدحام كون البيئة السورية الملوثة ساهمت في ازدياد وتفشي الفيروسات والأمراض.

يكتب الدكتور (س.ر) وصفته بخط يكاد لا يقرأ.. ويقول لمريضه (معافى) ثم يودعه: اصرفها من عند الصيدلاني (ف.ع).. فأسعاره جيدة..

الصيدلاني (ف.ع) بدوره.. يجمع مفردات الوصفة ثم يحسم من هذه /10/ ليرات، ومن تلك /15/ ليرة.. وهذا (ظرف سيتامول) مجاناً.. والحمد لله على العافية.. ثم يلقي مجموعة من النكات السمجة على الزبائن المكومين عنده.. وبالوقت نفسه يعطي إبرة (ديكلون) مضادة للالتهاب وخافضة للحرارة.. وأحياناً لا يحتاج إلى وصفة طبيب، يصف وحده حسب الأعراض التي يذكرها الزبون.. أو يعتمد على الحالة العامة لمرضى المدينة أو المنطقة.. يقول متباهياً: (هناك جائحة أنفلونزا).. وهكذا..

 

الصيدلة والسياسة

في غوطة دمشق.. على تخوم العاصمة.. بلغت سمعة الصيدلاني (خ.ع) مكانة لا يحسد عليها.. تدخل الصيدلية، شاب في الأربعين وسيم متأنق.. وثلاث فتيات محجبات يعملن لديه.. واحدة لتحضير المرضى.. واثنتان لصرف الوصفات الطبية.. كل ما تحتاجه لدى الصيدلاني المشهور.. وعلى جدران الصيدلية من الداخل.. مجموعة من اللافتات الكرتونية.. بخط جميل (قاطعوا البضائع الأمريكية).. ولافتة صغيرة (بضاعتنا المستوردة ألمانية).. كل ما هو مستعصٍ له علاج.. (الصدف، البهاق، عدم الإنجاب «العقم»...الخ).

بسم الله في أول علبة دواء يناولك إياها السيد (خ.ع)، ثم يحسب حساب الأدوية ويقوم بضربة واحدة، ناقص 15 % مع علبة شامبو هدية.. كيف يربح هذا الرجل؟!

أحد المواسم، عطلت الصيدلية أكثر من شهر.. بعد يومين وجدت لوحة (الصيدلي (خ.ع) في الحج)، أحد المقربين وجيران الصيدلي المذكور قال لأحد الزبائن: «الصيدلاني في السجن».

في البحث عن التفاصيل تبين أن الصيدلاني المذكور.. كان يعالج المرضى علاجاً سحرياً، وخصوصاً مرضى الجلد.. فأمراض معندة ومستعصية كالصدف والبهاق.. يمكن أن يكون للـ(كورتيزون) أثراً سحرياً عليها.. لكنها بعد انقطاع الأدوية تتحول إلى شبه سرطانات متمردة.. شكوى تقدم بها أحد مرضى الصدف الذي كان يعالجه (خ.ع) ألقت به في السجن.. الدواء الألماني السحري كان (كورتيزون)، بعد أن يأخذ المريض الإبرة ويبقى لمدة شهر لا أثر للصدف في جسمه.. لكنه لا بدّ أن يعود أول الشهر التالي.. وهكذا كان (خ.ع) الصيدلاني المؤمن.. والذي يكره (أمريكا) يبتز المرضى بأسعار كاوية.

 

شراكة التحاليل

أي تحليل يجب أن يجريه مريض لدى الدكتور (ع.ب) هو غير صحيح ومشكوك بأمره إذا لم يكن من مخبر (ق)، فالأجهزة الطبية المخبرية لدى مخبر (ق) لا يعلو عليها.. أكثر دقة.. ووضوح.. و النسب التي تظهرها صحيحة 100 %.

مخبر (ق) بدوره يقوم بالدعاية للدكتور (ع.ب)، وبالتالي شراكة دائمة..و لكن ما أدراك ما سعر تحليل (ق) المشهور في كل المدينة.. إذا كان تحليل السكر يكلف /50 ـ 75/ ليرة في المخابر العادية وهو يعتبر من أسخف وأبسط التحاليل، فلدى (ق) بـ/150/ ليرة، فما بالك إذا كانت التحاليل المطلوبة، هي للغدة الدرقية، الجرثومية، وسواها.

-(إيكو) القلب لدى أحد المخابر في (قطنا) يرسل فقط للطبيبة (م.س)، فهي طبيبة القلبية الوحيدة القادرة على قراءة تحاليل وصور (إيكو).. المخبر (ض) ولا يثق بسواها.. فالمريض بين رحلة المعالجة والتحاليل.. لا يتكلف عناء المواصلات فهما في شارع واحد.

-الطبيب (ا.س) أحد المشهورين كطبيب أطفال في المدينة نفسها.. تزوج من (صيدلانية) وفتح لها (صيدلية) بجواره.. الوصفة عند الزوج وتصرف عند الزوجة.

 

شراكة الماركة

لكل طبيب شركته المفضلة، والشركة هي الحامل لماركة عالمية، وبالتالي ينفذ الطبيب للشركة خدمات الترويج.. مقابل زيادة العينات المجانية وتخفيضات سعرية، وهنا تكتمل الدائرة المثلثة.. الطبيب مع الشركة والصيدلاني.

الطبيب (خ.ز) لا يعترف إلا بالدواء الذي تنتج عبواته المختلفة شركة (ا.ز)، وبالتالي كل وصفاته لنفس الشركة من خوافض الحرارة وصولاً إلى أدوية الالتهاب.

الطبيب في هذه الحالة هو وسيلة إعلان.. مروّج.. لأدوية الشركة، وذات يوم إذا ما صدف وأنتجت هذه الشركة دواء مخالفاً للشروط وأدى إلى نتائج سلبية، رفع يده ويتشارك مع شركة أخرى..

نماذج سريعة لمهن إنسانية اخترقتها المادية.. المهن التي يقسم أصحابها قسماً أزلياً لأبوقراط.. دخلت إلى السوق المفتوحة فقط على الربح.. دون الأخذ بعين الاعتبار تلك الآلام التي يشعر بها المريض.

 

مزاد طبي

لأطباء الأسنان لغة أخرى.. عادت بهذه المهنة إلى زمن (أسنان الذهب)، حيث يستطيع رجل بمحفظة ومخدر وأسنان جاهزة أن يكون طبيباً، ببساطة تدخل عيادة أي طبيب.. وتبدأ المفاوضات.

هل تريد جسر عادي.. سيراميك.. معدن.. خزف.. لكل هذه الأصناف سعرها، تقسيطاً أم نقداً.. مستعجل أم أن بإمكانك الانتظار.. المخبر لديه ازدحام.. إذا كنت مستعجلاً سيكون المبلغ أكبر.. إذا دفعت نقداً يمكن أن نحسم لك 20 % وهكذا..

حتى لدى المرضى العاديين.. الحشوة السريعة ؟ هل تريد حشوة دائمة.. أبدية.. والله نصيحة.. كل سكان المنطقة يعالجون عندي ولم يراجعني أحد بشكوى... بعد أيام تسقط الحشوة والسبب سوء الاستخدام.. ولا بدّ من حشوة جديدة.

مزاد علني.. طبي فقط، وكل الحسومات هي بالمحصلة مجرد دروس استفادها الأطباء من أي بائع خضار أو تاجر جملة.. سياسة المفاوضات من أجل الحصول على الحد الأعلى من السعر من خلال البدء بسعر تفاوضي.

 

انفلات أم جودة.. حتى الخردة:

سوق أخرى ومختلفة.. لكنها سوق مقايضة.. البضاعة في الوسط بين حدين، الانفلات والجودة.. والمستهلك يذهب في شارع واحد، سوق واحدة دون أن يدري السبب في تسعير منتج واحد بسعرين..

ـ من برغي بإسفين لزوم الديجتال كل 10 عشرة براغي بعشر ليرات.. إلى كل /3/ براغي بعشر ليرات.. لماذا؟ الجواب عند صاحب الثلاثة براغي: أن هذه البراغي أصلية.. وعند جاره براغٍ رملية تنكسر مع الضغط.. تصدأ سريعاً.. خردة.

ـ من عبوة الدهان ماركة (ياء أو باء) بـ550 ليرة سورية إلى العبوة نفسها في الشارع الواحد.. في محل آخر 450 ليرة سورية.. إلى /500/ ليرة سورية..

ـ من أبسط الأشياء (حنفية) بـ/35/ ليرة سورية.. بالشارع نفسه.. في المحال المجاور بـ/50/ ليرة سورية.. إلى إحدى البسطات في سوق عاصم بـ/25/ ليرة سورية.. والمنشأ المصدر نفسه (الصين الشعبية).

ـ أزمة المياه الملوثة.. والإصابات العديدة (باليرقان) في مدينة (قطنا)، أجبرت المواطنين على استهلاك عبوات المادة (بقين) وسواها من العبوات الموجودة في الأسواق.. على سبيل المثال مياه (بقين) كل ست عبوات بـ/90/ ليرة سورية.. أي أن سعر الواحدة /15/ ليرة سورية.. في محلين متجاورين كل ست علب بـ/90/ والآخر بـ/100/ ليرة سورية.. في عين الخضراء كل ست عبوات /125/ ليرة سورية.. وهنا المنطقة كما يقول التاجر: سياحية.

فواكه المناطق والمواسم

ـ لعبة أخرى تديرها المناطق حيناً.. والمواسم حيناً آخر.. وهي فلسفة أسواق سورية بامتياز، تفاح عرنة يشبه تفاح الجولان فالمنطقة الجغرافية واحدة.. ولكن الأسعار مختلفة..

ـ التين في وادي بردى أكثر جودة من التين الدمشقي أو تين الغوطة.. فهو إن كان طازجاً أو يابساً للاستهلاك الصيفي والشتوي أغلى وأفضل ولا دود فيه.

ـ عنب جبل الشيخ أفضل من عنب وادي بردى.. أولاً لأنه بعل، وثانياً لأنه على خير الأرض لا يخالطه الصرف الصحي.. فهو أكثر جودة وأغلى سعراً.

ـ بطيخ جبل الشيخ ذو اللصاقة الذهبية أحلى ولونه أحمر حقيقي.. كذلك بطيخ (حماة).. وهما أفضل من بطيخ (درعا) والقنيطرة.. لذلك سعر الكيلو أغلى.. وعلى (المكسر).

 

خضراوات نظيفة

قاعدة جديدة للتسوق والمنافسة اسمها الماء النظيف.. أي أنك تأكل (بصلاً) أخضر نظيفاً.. مكفولاً.. خالياً من الصرف الصحي..

ـ خس وكزبرة وبقدونس على مفرق (عرطوز) قادم ومزروع في القنيطرة بماء نظيف، كل (جرزة) بـ/10/ ليرات.. وكل ثلاثة بـ/25/ ليرة سورية.. أما في داريا وكفرسوسة فالمسألة غير مضمونة، كذلك في الغوطة، لأن الخضراوات تسقى من مياه الصرف الصحي.

ـ بندورة (حوران ـ القنيطرة ـ الأردن) طعمها أفضل وسعرها أغلى.. لونها لون (البندورة)، مختلفة عن البندورة في محيط ريف دمشق، نظيفة، مسقية من مياه نظيفة، خالية من الصرف الصحي.

 

أسعار يحكمها المكان

ـ في الجسر الأبيض ومخيم اليرموك (لوبية) محلان للشخص نفسه.. والماركة نفسها.. لبيع (المانطوات) أو ما يسمى (الجلباب) للمحجبات فقط.. بأسعار متفاوتة جداً، في الجسر الأبيض /3550/ ليرة سورية وفي لوبية من /1500 ـ 2000/ ليرة سورية.. ولدى سؤالنا لماذا.. المحل في الجسر الأبيض أغلى من اليرموك.. الضريبة أكبر، أجرة الصانع (الشغيل) أكبر.. وهكذا.. إذا أراد أن يقدم لك نصيحة، يقول لك: اذهب واشتر من محلنا في مخيم اليرموك..

ـ الحذاء نفسه.. ابن صاحب محل يضع بسطة على بعد بضعة أمتار من محل والده.. الوالد يبلغ سعر الحذاء عنده /1900/ ليرة، بينما في بسطة ابنه /900 ـ 1200/ ليرة سورية.

ـ ألبسة داخلية نسائية، في المحل سعر القطعة يختلف فهي على الواجهة.. وفي علبة، مطوية، أما على البسطة متكومة على بعضها كل قطعة بـ/50/ ليرة سورية، وبالجملة قد تصل إلى /25/ ليرة سورية.

أسلوب جديد ابتكره السوريون، يدعى فلسفة الأمكنة والأسعار، إذ لا ضريبة على البسطة سوى الركض أو المصادرة.

 

ضحية واحدة فقط

بين شراكة المصالح والانفلات.. وادعاء الجودة، وحده المواطن السوري يقع ضحية لاختلاف الأساليب في غياب الرقابة على الأسعار والجودة.. والسوق المفتوحة على الاحتكارات.. وغياب الدولة.

من أكثر المهن إنسانية حيث التواطؤ على الألم.. إلى أقلها إنسانية، الاتجار بكل شيء.. والتلاعب بالأسعار لأسباب في مجملها واهية، تشكل من الإنسانية إلى التجارة درباً واحداً يريده كل هؤلاء.. الذين أقسموا أو من لا قسم لهم، وهو الربح على حساب مواطن حائر، محتاج، إلا أن الحاجة والألم لابد أن تقوده إلى مستثمريه.

بعضهم لديه القدرة على استثمار الخوف.. الخوف من المرض، على الأبناء، وشعارهم ادفع لبضاعة جيدة، خيراً من أن تدفع ذلك ثمناً للدواء.. ولكن في المحصلة لابدّ من الذهاب إلى الطبيب لتقع في دوامة شراكة المصالح.. التاجر الذي يغش أو يخترع أسلوباً لسحب ما فيه الجيب، والطبيب الذي يشارك الصيدلي وشركة الدواء.. كلهم شركاء في مصالحهم ضد واحد فقط: مواطن الحاجة والألم.