الحرب على «داعش» وبناؤها الصراعي
مصطفى اللباد مصطفى اللباد

الحرب على «داعش» وبناؤها الصراعي

 بدأت الهمروجة الدولية والإقليمية في الحرب على "داعش" من طريق بناء "تحالف دولي" لمحاربة التنظيم التكفيري، وهو، من البداية، تحالف يفتقر إلى الرؤية ووضوح الأهداف، فضفاض إلى الدرجة التي يضم فيها أطرافاً ذات أهداف متضاربة ومصالح متصادمة. تعنى هذه السطور بمحاولة رسم بناء تحليلي للحرب على "داعش"، التي تبدو أكثر من ضرورية للمهتمين والمتابعين، على اختلاف ميولهم ورؤاهم وتفضيلاتهم السياسية لنتائج الحرب. يفيد تعيين البناء الصراعي في تحليل ما سيجري لا المجريات، عبر الربط بين المصالح المحلية والإقليمية والدولية وطريقة التفاعل في ما بينها، فضلاً عن تعيين التطابق في المصالح والتصادم في ما بينها، وصولاً إلى صورة أقرب إلى الدقة بعيداً عن الرغبات والأماني العاطفية.

يشبه البناء الصراعي للحرب على "داعش" بناء مكون من طوابق ثلاثة: الطبقة الأولى تمثلها الأطراف المحلية للصراع في سوريا والعراق، فيما تتكون الطبقة الثانية من القوى الإقليمية في الشرق الأوسط. أما الطبقة الثالثة من البناء الصراعي فتمثلها القوى العظمى أميركا والصين وروسيا بالأساس، ومعهم الدول الأوروبية والغربية المشاركة بالتحالف. ومن المنطقي أن تتفاعل طبقات البناء الصراعي أفقياً ورأسياً، فينتج تفاعلها وحراكها معاً صورة المشهد المحلي والإقليمي والدولي على نحو دقيق. ويعني ذلك أن هناك تأثيراً من نوع ما لما سيجري عملياتياً في سوريا على ما سيحدث في العراق والعكس صحيح، مثلما تتوافر جدلية واضحة بين القوى الإقليمية في مواجهة بعضها لبعض، عبر الوكلاء المتحاربين على الأرض، بحيث يبدو الترابط بين الطبقتين الأولى والثانية في أوضح صوره. وإذ تتحالف القوى الإقليمية مع قوى عظمى، لها حساباتها في مواجهة بعضها البعض، نلحظ ترابطاً بين الطبقتين الثانية والثالثة للبناء الصراعي. ولأن أميركا تنوي شن ضربات جوية مباشرة على "داعش"، فستنخرط في علاقة تفاعلية مع الأطراف المحلية على الأرض في سوريا والعراق، ما يؤكد أيضاً على ترابط مباشر بين الطبقة الثالثة والأولى للبناء الصراعي، ما يعقّد بدوره الحسابات ويقيّد الأدوار.


الطبقة الأولى: الأطراف المحلية
تمثل "داعش" في السياق الصراعي الحالي فتيل تفجير التناقضات القائمة بالفعل في منطقة بادية الشام، أي أنها تلخص الأزمات في الواقع وليست باعثة لها. على ذلك يقتات التنظيم التكفيري - بغض النظر عن التفسيرات التآمرية لظهوره - على مظلوميات سياسية واقتصادية وطائفية وجهوية في كل من سوريا والعراق، بحيث لا يمكن تحييد ذلك التنظيم بالوسائل العسكرية فقط، وإنما بالأساس عبر إعادة تشكيل التحالفات المحلية بما يلحظ هذه المظلوميات. وبالمقابل، صحيح أن هناك ارتباطاً بين مسرح العمليات في سوريا والعراق من التنظيم الذي يتمدد على رقعة جغرافية هي "بادية الشام" الموزعة على البلدين، كما تنضوي سلطة بغداد المركزية والنظام السوري في التحالف الذي تقوده إيران، إلا أن الأطراف المحلية ليست متطابقة تماماً على الساحتين، مثلما أن الموزاييك العرقي والطائفي للبلدين الجارين ليس متطابقاً. ويتأسس على ذلك اعتبار أن الموازين العسكرية ليست متطابقة حكماً في الحالتين، بل حتى على طول جغرافيا سوريا أو العراق، إذ نلحظ حضوراً لتنظيمات أخرى جهادية وغير جهادية في مناطق جغرافية بعينها. وبالتالي يمكن التثبت من أن هناك قواسم مشتركة بين الحالتين وعوامل للاختلاف في ما بينهما في الوقت عينه، ما يعني أن النتيجة السياسية للحرب على "داعش" لن تمثل انتصاراً كاملاً لأي من المحاور المحلية المتصارعة، فلا يعقل مثلاً أن تنبري أميركا والحشد الإقليمي والدولي لهزيمة "داعش" بغرض إبقاء هياكل السلطة في العراق وسوريا بدون أي تغيير، وإلا فسيعني ذلك أن أميركا تعمل عند إيران وتنخرط مع الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في محور واحد. وفي النهاية، لا يخفى أن الضربات الجوية تضعف الخصوم ولكنها لا تغير الواقع على الأرض، ذلك المناط بفصائل محلية بعينها في سوريا وأخرى في العراق، وتلك تتصارع مع "داعش" من ناحية وفي ما بينها من ناحية أخرى. سيكون بلاء الأطراف المحلية في المعارك على الأرض الأساس لإمالة التوازن الإقليمي والدولي نحو هذه الأطراف أو تلك.

الطبقة الثانية: الأطراف الإقليمية
يعرف الشرق الأوسط خمس قوى إقليمية كبرى تملك بعض المقوّمات للعب دور القوة الإقليمية، وتفتقر إلى بعضها الآخر، وهذه القوى هي: إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية ومصر. على ذلك تبقى نتيجة الحرب على "داعش" محكومة إلى حد كبير بتوازنات القوى بين الدول الخمس في ما بينها، تلك التي يعتمد عليها أوباما عبر توزيع الأعباء والمسؤوليات في لجم وتحفيز الأطراف المحلية للوصول إلى النتائج التي يتوخاها. لذلك اعترضت تركيا على "بيان جدة" الختامي كونه لا يضمن سقوط النظام السوري، لكنها مع ذلك جزء أساسي في التحالف، وبالمثل إيران مستبعدة شكلياً من محادثات الحلف ذاته، لكن قنوات الاتصال الخلفية معها تعمل بوتائر عالية. إسرائيل لم تنأ بنفسها كما فعلت في حرب تحرير الكويت، ولكنها لا تطل برأسها لعدم إحراج الأطراف الأخرى. السعودية تريد إسقاط النظام السوري ومعه العراقي إن أمكن، ولن تأخذ بالطبع كل ما تريد. إيران تريد الحفاظ على الأمر الواقع الراهن، وهو أمر محل شك كبير، خصوصاً بعد بدء العمليات العسكرية. مصر تراجعت أدوارها في العقود الأخيرة وحاضرة على طاولة "التحالف الدولي"، وسيناريوهات النتائج في سوريا والعراق سيكون لها تأثير كبير على عودتها إلى المنطقة أو استمرار غيابها. بمعنى أن بقاء الوضع الحالي في سوريا غير مؤات لمصالح مصر الإقليمية بفعل تزايد احتمالات التقسيم، لكن في الوقت نفسه إزاحة النظام في سوريا - وهو أمر وارد ولا يمكن استبعاده كلياً من قائمة الاحتمالات - وتثبيت نظام جديد محله يهيمن عليه "الإخوان المسلمون" برعاية تركية وقطرية سيكون خسارة في الحسابات المصرية، من دون أن يعني ذلك بالضرورة تأييداً مصرياً للنظام السوري الحالي. كلما حافظ الحل المرتقب على وحدة الأراضي السورية في إطار توافق وطني سوري عام، كلما اقترب ذلك الحل من المصالح المصرية. أما إسرائيل فستسعى في الكواليس إلى سيناريوهات تقسيمية لكل من سوريا والعراق، لتضمن سيطرتها على المنطقة المفتتة، وبالتالي ستقيس نتائج الحرب على "داعش" وفقاً لهذا المؤشر. على ذلك تنضوي الأطراف الإقليمية في التحالف الدولي ليس لمواجهة "داعش" في الواقع، بل للحصول على حصة أكبر في الأدوار الإقليمية لما بعد الحرب عليها. لذلك سيوزع ممثلو القوى الإقليمية الابتسامات على الطاولة أمام الكاميرات، ويفعلون في الوقت نفسه كل ما بوسعهم لعرقلة أهداف القوى الإقليمية المنافسة من تحت الطاولة.

الطبقة الثالثة: القوى العظمى
لم يكن مستغرباً أن تعارض روسيا فكرة التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، ليس لأنها تتعاطف مع الأخيرة، ولكن لأن بناء التحالف هو المقدمة لتغيير الواقع على الأرض، وبالتالي تغيير المعادلات الإقليمية والدولية. بدورها الصين حاضرة في حسابات أوباما بشدة، ولكنها تتلطى - حتى الآن - خلف روسيا التي تتواجه مع أوباما في أوكرانيا بالفعل. وحتى في إطار التحالف الغربي لا تبدو الحسابات متطابقة، ففرنسا الساعية إلى لعب أدوار أكبر في منطقة تعتبرها منطقة نفوذ تاريخي، لها تفضيلاتها لنتائج الحرب لا تتفق بالضرورة مع تفضيلات واشنطن أو لندن أو برلين. فهناك مستوى صراعي فرعي بين كل من باريس ولندن وبرلين كل في مواجهة الآخرين، وكل من العواصم الثلاث سيستدعي من كتب التاريخ وأرشيفات المكتبات والمخابرات ما يدعم به علاقاته مع العشائر والطوائف في ساحات الصراع، مع ترجيح أن كلاً منهم يخفي أوراقاً ستظهر عندما يحين وقتها.
عليك أن تتذكر دوماً عزيزي القارئ عند متابعة الأخبار أن همروجة الحرب على "داعش" ليست سوى "زمبليطة في الصالون" كما يقول أحد حوارات الأفلام المصرية القديمة، إذ تتخطى الأهداف النهائية بكل يقين هدف مواجهة التنظيم التكفيري. وبالمثل تختلف هذه السطور مع نظرية المؤامرة الشائعة، فالكرة ما زالت إلى حد كبير في الملعب، والنتيجة ليست محسومة لأحد الأطراف سلفاً كما يعتقد البعض. الأرجح أن نشهد في الشهور المقبلة غباراً كثيفاً سياسياً وإعلامياً وعسكرياً تحت شعار محاربة "داعش"، قبل أن ينقشع لتظهر رويداً رويداً الخرائط السياسية الجديدة للمنطقة.
النتيجة السياسية للحرب على «داعش» لن تمثلانتصاراً كاملاً لأي من المحاور المتصارعة،فلا يعقل مثلاً أن تنبري أميركا والحشد الإقليميوالدولي لهزيمة «داعش» بغرض إبقاء هياكلالسلطة في العراق وسوريا بدون تغيير.

 المصدر: السفير