العقوبات ضدّ روسيا: حين تعاقب الرأسمالية ذاتها
ورد كاسوحة ورد كاسوحة

العقوبات ضدّ روسيا: حين تعاقب الرأسمالية ذاتها

حين لا يعود الغرب قادراً على استعمال سلاح العقوبات كما يجب فهذا يعني أنّ هيمنته الاقتصادية لم تعد قائمة، وأنه بات مجبراً على عقد تسويات مع الآخرين لتأمين وصول منتجاته إلى أسواقهم. هيمنته سابقاً كانت تقوم على عوامل عديدة من بينها (لا بل أهمّها على الإطلاق) إمكان التدخّل في الأسواق لضمان وصول المنتجات الغربية إليها ومنع المنافسة التي تعتبرها الرأسمالية قانونها الأساسي!

الطابع الاحتكاري بهذا المعنى يتنافى مع مبدأ التراكم الذي يحقّق الربح للرأسماليين الغربيين ويضمن وصولهم إلى أسواق العالم في جوّ من التنافس مع الآخرين. لا تعود الرأسمالية هنا مخلصة لمبادئها، ويصبح الاحتكار الملازم لتوسّعها العسكري «حاجة» خلقتها الظروف اللاحقة لنشأتها على يد الآباء المؤسّسين. ولأنّ هذا الميل إلى الاحتكار كان مترافقاً مع نزعة تدخّلية واسعة وعدوانية في العالم (وخصوصاً في الخليج والمنطقة وشرق أوروبا) فقد اصطدم بالواقع الذي بدأ يتغيّر وينزع إلى الترسمل خارج نطاق القوّة العسكرية المحضة. في هذا السياق برزت الصين كقوّة رأسمالية منافسة لا تعتدي على أحد عسكرياً، أو تهدّد بالعقوبات الاقتصادية ما لم يتمّ الرضوخ لمشيئتها.

حصل ذلك بعد التدخّل العسكري الأميركي الأوّل في العراق عام 1991، وفي سياق ما بدا أنه انتصارات غربية مدويّة على التجارب الاشتراكية في العالم. يمكن القول إنّ الانهيارات داخل هذا المعسكر قد سمحت بوصول نخب رأسمالية إلى السلطة في الصين وروسيا - بعد يلتسين وليس معه، وسرّعت من انجاز القطيعة مع البناء الاشتراكي فيهما، وهو المعادي بالضرورة للسوق وفكرة المنافسة التجارية. إذ سرعان ما تغيّر التشكيل الطبقي لتلك المجتمعات ربطاً بالتغييرات التي طرأت على نمط إنتاجها، وبدأت فكرة الاستهلاك «تعود» إليها بزخم كبير، وهذا ما ساعد النخب الرأسمالية الحاكمة فيها في انجاز الترتيبات المطلوبة للولوج إلى السوق العالمية التي كان يحتكرها الغرب إلى حدّ كبير. أضحت المنافسة فعلية هنا، فلم يعد هنالك خصم سياسي كبير يبرّر كلّ هذه التدخّلات العسكرية في العالم، وانهارت بالتالي مع هذه التطوّرات قدرة الغرب على التحكّم بالأسواق تبعاً للخطط التي تضعها شركاته. في الحرب مثلاً، كانت الأسلحة تورّد إلى الدول الحليفة له بالاعتماد على الخطط الموضوعة من قبله، فهو الذي كان يحدّد وجهة الحروب ومداها الزمني، وحين تتطوّر وتخرج عن السياق المرسوم لها تلجأ شركات السلاح التابعة له إلى تعديل خططها بما يتلاءم مع «حاجة» الحلفاء إلى الذخيرة. تجارة السلاح بمجملها تقوم على هذا المعطى، وخصوصاً أنّ معظم زبائنها حلفاء للغرب، فقد كان يحتكر هذه السوق كما يحتكر غيرها، ولا يسمح لأيّ رساميل أخرى بمنافسته فيها. في المقابل كانت حركات التحرّر التي تحاربه تعتمد في تسليحها على الاتحاد السوفياتي السابق، فهذا الأخير لم يطرح نفسه يوماً كمنافس تجاري للغرب، وكان يسلّح حلفاءه «بالمجان» غالباً، ثمّ يعمد لاحقاً إلى شطب الديون المترتّبة عليهم إما في إطار اتفاقات للتبادل التجاري التقليدي، أو لمساعدتهم في تجاوز العقوبات الغربية ضدّ اقتصاداتهم.

 

روسيا الآن

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تغيّرت روسيا جذرياً، وتطلّب الأمر منها سنوات قليلة حتى تصبح تاجر السلاح الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة. أصبحت تبيع أسلحتها إلى الحلفاء وغير الحلفاء، ولم تعد نظرتها إلى العالم محكومة «بمنطق المعسكر» والعداء للرأسمالية. وهذا ليس بالأمر الجيد أبداً، ولكنه وفقاً للرؤية الليبرالية التي اعتنقتها يحقّق لها أرباحاً كبيرة، ويحافظ على مبدأ المنافسة «المتساوية» مع الغرب، وهذا بالضبط ما تحتاجه قوّة رأسمالية محافظة وغير تدخّلية مثلها. هي الآن تسابق الزمن للانضمام إلى منظّمة التجارة العالمية، وتعمد إلى اغتنام أيّ فرصة تحقّق لها اندماجاً أكبر بالسوق العالمية. حتى التكتّلات الإقليمية ذات الطابع الاقتصادي - والسياسي طبعاً - التي أنشأتها بمساعدة آخرين كالبريكس أو الاتحاد الجمركي «الأوراسي» بقيت مطروحة كصيغ أفضل لهذا الاندماج، بحيث لا يتعارض نشاطها الاقتصادي مع سياسات المؤسّسات النقدية التي تتبع الغرب الرأسمالي وتنفّذ سياساته. هي بهذا المعنى لا تشكّل بديلاً من أيّ نوع، وإنما تتكامل مع سياسات الاندماج التي تنادي بها تلك «المؤسّسات الدولية». وإذا حصل تعارض ما بين الطرفين فسيكون على الأغلب جزئياً، وبما لا يؤثّر في السياسات النقدية التي تهندس اقتصادات دول الجنوب عبر الإقراض المكلف والمدمّر. ثمّة دول من داخل منظومة «البريكس» تخلّصت جزئياً من شروط الإقراض واملاءاته، كالأرجنتين مثلاً، ولكنها عادت الآن للمعاناة بعدما جدّدت «صناديق التحوّط» في الولايات المتحدة مطالبة الحكومة الأرجنتينية بالديون التي «اشترتها منها». روسيا لا تفكّر بهذه الطريقة غالباً، وتعتبر نفسها محصّنة من استحقاقات كهذه، إذ إنّ دينها العام يعتبر قليلاً قياساً إلى دول أخرى، كما أنّ ارتباط بنوكها بالقطاع المالي العالمي لا يستحقّ الذكر، وهذا ما جعلها بمنأى عن أزمة الرهون العقارية التي ضربت العالم عام 2008، ولمّا تزل. هي لا تطرح نفسها أصلا كقوّة رأسمالية تدخّلية مثل الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية (بريطانيا، فرنسا،... الخ) وتتعمّد الفصل بين المسارات السياسية والاقتصادية، أي تماماً كما تفعل حليفتها الصين ولكن على نطاق أضيق، لأنّ الاقتصاد الصيني أكثر تأثيراً وفاعلية في السياسة الدولية، وخصوصاً لجهة حركة الاستثمارات وعلاقتها بالنفوذ السياسي. الشبه بين البلدين يتمثّل خصوصاً في الاعتماد على البيروقراطية الحكومية الضخمة والنافذة لإجبار أصحاب الرساميل والاحتكارات على الرضوخ، وبالتالي الخضوع لسياسة الدولة في الانفتاح المدروس على الاقتصاد الرأسمالي. لا تلعب الدولة هنا دور الوسيط بين الخارج والكومبرادور المحلي، بل تتدخّل بنفسها وعلى نحو فظّ غالباً لتنظيم العلاقة بينهما، بحيث تسمح لحركة الرساميل بالتدفّق ولكن ضمن الضوابط والأطر التي تحدّدها. بالمناسبة، هذه الدينامية الدولتية لا تتناقض أبداً مع السعي للانضمام إلى المنظمات التجارية الدولية، فالعلاقات التبادلية مع الخارج قائمة، وكذلك حركة الاستثمارات التي ازدادت في روسيا على نحو ملحوظ. ولم تتضاءل إلا حين بدأ الغرب بفرض العقوبات على موسكو بعد نشوب الأزمة الأوكرانية. يمكن تشبيه حالة روسيا اليوم بأميركا إبّان الحرب العالمية الثانية، مع تأكيد اختلاف السياقات والأنماط الانتاجية. بمعنى أنها قوّة رأسمالية محافظة تعتمد في حراكها على التراكم الاقتصادي الداخلي، وتحتفظ ببنية صناعية جيّدة - ولو في إطار عسكري - تتيح لها الاستغناء عن الخارج والاستقلالية عن سياساته النقدية. لا يحصل التدخّل هنا إلا في الحالات الضرورية، أي حين تشعر الدولة الرأسمالية المحافظة بأنها محاصرة أو تحت وطأة انهيار اقتصادي وشيك، وهذا ما يحاول الغرب فعله بروسيا عبر محاصرتها بحلف الناتو وفرض عقوبات مؤلمة على «اقتصادها الناشئ».

 

العقوبات... من يحاصر من

ليست أوكرانيا المحطّة الوحيدة في سياق هذا الكباش، فقد سبقها النزاع حول جورجيا، ولكن الأزمة وقتها «سرعان ما انتهت»، ولم يتعدّ تأثيرها النطاق السياسي. بالنسبة إلى الغرب فقدان جورجيا أو أجزاء منها «أمر يمكن احتماله»، فهي بلد صغير ولا يمكن بسببه فقط تعطيل عجلة العلاقات الاقتصادية الناشئة مع الروس. أميركا ليست دائماً في موقع المقرّر (أو ليست وحدها من يقرّر)، فهي تنظر أحياناً إلى مصلحة حلفائها، والمصلحة في جورجيا بعد خسارة الحرب عسكرياً اقتضت من هؤلاء جميعاً الإقرار بالأمر الواقع والتسليم بفقدان أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، في انتظار جولة جديدة تكون أكثر إيلاماً للروس. هكذا، غدت أوكرانيا بيضة القبّان، وأصبح النزاع حولها محدّداً فعلياً، لا صورياً فحسب لمستقبل المنطقة. بطبيعة الحال، لم تنتظر روسيا من يأذن لها بتجاوز حدودها، وبالتالي «تدخّلت في أوكرانيا» لإنقاذ دورها الذي بات مهدّداً بوجود سلطة تابعة كلّياً للغرب في كييف. لم تتدخّل كما كان يفعل الاتحاد السوفياتي السابق حين كان يرفع شعارات التضامن مع الشعوب المستعمَرة ضدّ الامبريالية، وإنما فعلت كدولة رأسمالية صاحبة مصلحة في انجاز تراكم اقتصادي يفتح لها أسواق الجوار، ويحمي فرصها التنافسية مع الغرب. من هنا نفهم تصميم بوتين الدؤوب على إنشاء الاتحاد الجمركي «الأوراسي» وتوسعته ليشمل دولاً من خارج التحالفات التقليدية لروسيا (أذربيجان مثلاً، وهي الحليف الأقرب للغرب وتركيا في المنطقة!). أوكرانيا بهذا المعنى هي سوق، والصراع عليها هو صراع بين دول رأسمالية تبحث عن أسواق جديدة لمنتجاتها. لا يمكن أن نفهم العقوبات الأميركية والأوروبية ضدّ روسيا خارج هذا الإطار، فالغرب في أوج صراعه مع الاتحاد السوفياتي السابق لم يفعل مثل ما يفعله الآن من توقيع عقوبات بحقّ شركات أو حظر سفر على مسؤولين روس إلى أوروبا وأميركا. الحزمة بمجملها تبدو وكأنها موجّهة لتقييد الدور الاقتصادي الذي باتت تلعبه روسيا في محيطها. وهذه في الحقيقة مشكلة كبيرة بالنسبة إلى الغرب، فهو يعتقد أنه بهذه العقوبات سيردع روسيا من التقدّم أكثر في أوكرانيا، وسيعيدها إلى حجمها التقليدي كقوّة إقليمية لا تعتدي على غيرها ولا تدعم حركات تمرّد «مطالبة بالانفصال». دعكم من الكلام الإنشائي هذا ولنبحث في الأساس: المشكلة التي تواجه الغرب حالياً وأخصّ بالذكر أوروبا أنه يفرض عقوبات على دولة رأسمالية تبحث عن الاندماج في السوق العالمية وتتبادل معه تجارياً بأرقام تتعدّى المليارات شهرياً. هذه الدولة بخلاف الغرب لديها «أسواق بديلة»، وقد طوّرت منذ فترة شراكات مع دول (البريكس وغيرها) تبحث بدورها عن بدائل للتبادل التجاري مع الغرب، ولا يستبعد أن تكون قد بدأت في تصدير البضائع المحظورة غربياً إليها. الآلية نفسها أيضاً بالنسبة إلى الاستيراد، حيث يعتقد على نطاق واسع أنّ روسيا مقدمة بسبب العقوبات الغربية على توسيع دائرة الدول التي تستورد منها البضائع، وخصوصاً بعدما وقّع بوتين مرسوماً بحظر استيراد المواد الغذائية من أوروبا وأميركا كردّ أوّلي على العقوبات الغربية ضدّ روسيا. بالأمس فقط أعلنت الهيئة الفدرالية للرقابة البيطرية والصحّة النباتية الروسية بحسب وكالة «نوفوستي» وموقع «روسيا اليوم» أنّ مصر مستعدة لتوريد منتجات الألبان واللحوم والأسماك والمأكولات البحرية إلى روسيا، مشيرة إلى أنّ مصر يمكنها تعويض روسيا بجزء كبير من المنتجات التي حظرت من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ثمّة أخبار أخرى آتية من أوروبا، وتفيد بحصول انكماش اقتصادي في بعض الدول التي فرضت عقوبات ضدّ روسيا. فبحسب «روسيا اليوم» و»رويترز» قالت وزارة المال الألمانية إنّ الانكماش المفاجئ في الربع الثاني من العام يرجع على الأرجح إلى العقوبات الروسية وتآكل الثقة بسبب أزمة أوكرانيا. وأضافت الوزارة في تقريرها الشهري أنّ انخفاض الناتج المحلّي الإجمالي (نسبة الانكماش 2%) من المرجّح أنه مرتبط بتأثير العقوبات والآثار السلبية في الثقة بسبب أزمة أوكرانيا. وإذا كانت المعاناة بسبب العقوبات قد طاولت دولاً مستقرّة اقتصادياً وذات قاعدة صناعية متينة كألمانيا فكيف الحال بدول مفلسة وتعاني من انهيارات اقتصادية كاليونان. المزارعون هناك يشكون من كساد منتجاتهم التي كانت تعتمد في تصديرها على روسيا بنسبة أربعين في المئة. على الأرجح أنّ الأمر لن يتوقف هنا، وستكبر كرة الثلج لتطاول كلّ الدول الأوروبية التي فرضت عقوبات على روسيا. الأمر لا يحتاج إلى تفسير، فالرأسماليات التي سعت إلى «توحيد الأسواق» وتسهيل حركة الرساميل بالقوّة والتدخّلات العسكرية إن أمكن هي أوّل من سيدفع ثمن إخراج روسيا من السوق.

لا يمكن ببساطة الاستعاضة عن الاحتكار الذي كسرته روسيا والصين بسلاح العقوبات، إذ إنّ الجميع يلعبون اللعبة القذرة نفسها، وعلى من يختار أن يلعب وحده أن يدفع الثمن. انه قانون المنافسة أيها الأغبياء.

المصدر: الأخبار