أبو خضير يصوّب البوصلة الفلسطينية
حلمي موسى حلمي موسى

أبو خضير يصوّب البوصلة الفلسطينية

أشعل حرق الفتى محمد أبو خضير ناراً لم تنطفئ في قلوب الفلسطينيين وحّدت إرادة بسطائهم في القدس والضفة الغربية وسخنين وقطاع غزة.

ومثلت جنازة الشهيد الفعلية في شعفاط في القدس الشرقية المحتلة، والجنازات الرمزية والتضامنية في مدن الضفة والقطاع ومناطق 48، أمس، تأكيداً أن الهوية الوطنية، برغم كل مكامن الخلل، لا تزال البوصلة. ورغم الرسائل الإسرائيلية العلنية بالرغبة في التهدئة مع قطاع غزة، إلا أن الصواريخ واصلت الانطلاق نحو مواقع أبعد، حتى بعد الحديث عن التوصل، بوساطة مصرية، إلى وقف لإطلاق النار.

وقد خرجت في القدس جنازة مهيبة للشهيد أبو خضير (16 عاما) شارك فيها عشرات الآلاف من أبناء القدس ومحيطها وجموع من الفلسطينيين في مناطق 48. وبرزت في الجنازة روح جديدة تخلت فيها القوى الفلسطينية تقريباً عن نعراتها الحزبية، حيث لم يظهر سوى العلم الفلسطيني وهتاف موحد ضد الاحتلال ومن أجل الاستقلال وتحت راية «طفح الكيل». وكانت الجنازة مظهر تحد هائل، لأنها شهدت للمرة الأولى منذ العام 1967، ربما، إطلاق الرصاص وحمل السلاح علناً، في شعفاط.
وبعد الجنازة تصاعدت الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية في مظهر يعيد إلى الأذهان مشاهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى وبعضاً من روحها. ووقعت عشرات الإصابات في هذه الاشتباكات المؤهلة للاستمرار أكثر بكثير مما قدرت السلطات الإسرائيلية.
لكن أشد ما يخيف الإسرائيلي أن تكون هذه الاشتباكات مقدمة انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة، خصوصاً بعد توسع دائرة التنكيل وتراجع مكانة السلطة الفلسطينية. ومن المؤكد أن انطلاق الاشتباكات من داخل القدس، وتضامن فلسطينيي الداخل، وانطلاق مسيرات تضامنية في سخنين وتلكؤ المقاومة في غزة بقبول وقف إطلاق النار، أضاءت لدى الإسرائيليين الكثير من المصابيح الحمراء. وهناك مخاوف جدية بأن تندفع الأوضاع نحو صدامات واسعة، ليس فقط في القدس، بل أيضا في مدن الضفة الغربية وربما توسع المواجهة مع قطاع غزة.
وخرج الآلاف من أبناء سخنين أمس في تظاهرة كبيرة تضامناً مع إخوتهم في القدس والضفة وغزة. ورفع المتظاهرون، في نوع من التحدي، أعلام فلسطين وسوريا هاتفين ضد «دولة الإرهاب» الإسرائيلية وضد أميركا. وشددت التظاهرات على أن «المستوطنات وكر الإرهاب» وأن السياسة الرسمية الإسرائيلية «عدوانية».
وقال عضو الكنيست عن «الجبهة الوطنية الديموقراطية للسلام» حنا سويد «لا يجوز أن يعاني الشعب الفلسطيني من العقوبات الجماعية، ونحن هنا لنقول كفى للاحتلال، كفى للعنف». وأكد المتظاهرون أن التظاهرات ليست لمرة واحدة، بل ستتواصل بتواصل «العدوان على الشعب الفلسطيني». وقال القيادي في «حركة الجهاد الاسلامي» خالد البطش، خلال تظاهرة في غزة، «على كل الفلسطينيين أن ينتفضوا في وجه الاحتلال ويقطعوا اليد التي تمتد لقتلهم. لا يمكن ان يقف الشعب الفلسطيني مكتوف الأيدي أمام ما تمارسه دولة الاحتلال وجيشها وعصاباتها».
وحتى مساء أمس بدا وكأن كل الأحاديث عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والمقاومة في قطاع غزة مجرد كلام. إذ أطلقت صواريخ من غزة أثناء جنازة الشهيد أبو خضير باتجاه عدد من المستوطنات الإسرائيلية، وبينها «أوفكيم». وسقطت صواريخ في «كيبوتس» و«سديروت» في ظل تعليمات واضحة من الجيش الإسرائيلي للمستوطنين بالبقاء في غرف آمنة. وأعلن المتحدث باسم وزارة الصحة في حكومة غزة المستقيلة أشرف القدرة أن مزارعا أصيب بجروح خطيرة برصاص الاحتلال وسط القطاع.
وأغار الطيران الاسرائيلي على «ثلاثة أهداف» في رفح، بعدما حاول الجيش الإسرائيلي منذ صباح أمس إظهار أنه اتخذ سياسة «ضبط النفس»، ولم يعد يرد على الإطلاقات من غزة، موحيا أنه لا يريد تصعيدا. وتأتي هذه السياسة بعد وقت قصير من الإعلان عن إنذار للمقاومة في غزة بوقف إطلاق الصواريخ خلال 48 ساعة. وكان الجيش الإسرائيلي قد نشر وحدات مدرعة حول القطاع، مشيرا إلى أن ذلك يقع ضمن خطة دفاعية وتحسبا لاحتمالات تدهور الوضع والاضطرار للعمل بشكل أوسع.
وكانت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) قد نقلت صباح أمس عن مصدر فلسطيني تأكيده التوصل إلى اتفاق لوقف النار، سيدخل حيز التنفيذ خلال ساعات، على أن توقف إسرائيل غاراتها على القطاع. لكن قيادياً من حماس أشار لاحقا إلى أن ما يمكن قوله هو أن محادثات ووساطات تجري لوقف إطلاق النار. ورفضت مصادر إسرائيلية تأكيد التقارير أو نفيها بشأن المحادثات والوساطات لوقف النار، مؤكدة أن «الكرة في ملعب حماس. نحن أبلغنا حماس أن الهدوء سيقابل بالهدوء، وإذا قبلوا وقفاً لإطلاق النار من جانبهم، فسيحل الهدوء».
ويبدو أن الاتصالات لوقف النار صحيحة وجدية، وإن كان التوصل لاتفاق أو تنفيذه ليس بالسهولة نفسها في هذه الظروف. ومن بين الدلائل الأبرز على ذلك تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان ضد أن «تقرر حماس متى تزيد اللهيب ومتى تقلصه». ودعا إلى تدمير أنفاق «حماس» في قطاع غزة التي تستخدم لـ«الإرهاب»، قائلا إن «مصانع إنتاج حماس موجودة تحت المدارس، العيادات والمساجد، وواجب تدميرها». وأكد أنه يجب عدم «منح حماس قدرة السيطرة على الوضع» وأن مقاربة «هدوء مقابل هدوء خطأ خطير».
وفي كل حال، فإنه من الجلي أن الجهات التي يمكن أن تؤدي دور الوساطة بين إسرائيل و«حماس» في هذه الظروف ثلاث: السلطة الفلسطينية نفسها، مصر والأمم المتحدة. وليس معروفا قطعاً من هي الجهة التي تدير الوساطة، حيث إن لوساطة كل من هذه الجهات عواقب مهمة. فالمصريون الذين كانوا الوسيط الأهم في كل الجولات السابقة، انتقلوا إلى حالة عداء مع الحركة جراء تغييرات في الحكم. وعلى الأقل منذ شهور طويلة يصعب الحديث عن أي علاقة لمصر مع «حماس». ولذلك إذا كانت القاهرة تؤدي هذه الأيام دور وساطة فهذا تطور مهم. والأمر نفسه يسري على السلطة الفلسطينية في رام الله، والتي رغم المصالحة وإعلان «حكومة التوافق» إلا أنها ظلت بعيدة عن التعاطي الفعلي مع قطاع غزة وأجهزة الحكم ومع حركة «حماس». ومن المؤكد أن وساطة بين السلطة و«حماس» تعني، بين ما تعنيه، تراجعاً لإسرائيل عن مطالبتها للسلطة في رام الله بالتخلي عن «حكومة التوافق» وتفكيك الاتفاق مع الحركة. لذلك تبقى الأمم المتحدة، في الظروف الحالية، الجهة الأكثر معقولية للقيام بمثل هذه الوساطة، إذا كانت هناك فعلا وساطة.
عموما تحاول إسرائيل القول إنه في حزيران الماضي أطلقت على الدولة العبرية أكثر من 125 صاروخا، وهو عدد أكبر من عدد الإطلاقات في العام 2013، حين سقط طوال العام 105 صواريخ فقط. كما أنه منذ 12 حزيران، حين بدأت الأزمة الحالية، أطلق من غزة 81 صاروخا تم اعتراض 13 منها.
وتدل هذه المعطيات على تآكل ما تسميه إسرائيل «قدرة الردع»، لكنها تحاول القول إن المقاومة في غزة لم تطلق حتى الآن أي صاروخ باتجاه بئر السبع أو أسدود، وهي مدن كبيرة نسبيا، الأمر الذي يدلل على أن الأمور لم تفلت ويمكن ضبطها.
إلى ذلك، ذكرت صحيفة «يديعوت احرونوت» أن مجلس مستوطنة «غوش عتسيون» في الضفة الغربية المحتلة نشر كرافانات في موقعين جديدين، من أجل استحداث مستوطنتين جديدتين بحجة تكريم المستوطنين الثلاثة الذين عُثر على جثثهم الاثنين الماضي. كما سيتم استحداث مستوطنة ثالثة في الضفة.