ذكرى النورماندي وصعود اليمين المتطرف في أوروبا
عامر راشد عامر راشد

ذكرى النورماندي وصعود اليمين المتطرف في أوروبا

صعود اليمين المتطرف في العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي في الانتخابات الأخيرة على مستوى برلمان الاتحاد، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا، يضع علامات استفهام كبيرة حول الخارطة السياسية الأوروبية مستقبلاً، بينما تزامن ذلك مع إحياء الذكرى السبعين لإنزال النورماندي في 6 يونيو/حزيران 1944.

ضخامة الاحتفالات بالذكرى السبعين لإنزال النورماندي عكرت صفوفها مؤشرات سبقتها بأيام، بالفوز الذي حققته أحزاب اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، حيث حصدت نصيب الأسد من المقاعد في فرنسا وبريطانيا، وعززت من مواقعها في بلدان أخرى على حساب القوى الديمقراطية والليبرالية. 

مفاجأة ثقيلة الوطأة على الائتلافات الحزبية الحاكمة، لاسيما وأن الكثير من بلدان الاتحاد مقبلة خلال الشهور القادمة على استحقاقات انتخابية، بات البعض يتخذ من نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي كدليل ملموس على الفرص الكبيرة المتاحة أمام قوى اليمين المتطرف، لتحقيق نتائج متقدمة في الانتخابات البلدية والتشريعية، ببرامج تركز على فشل السياسات الاقتصادية، وتقديم المصالح والسياسات الوطنية على السياسات التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، من مدخل إعادة النظر في اتفاقية "شنغن" القاضية بإلغاء مراقبة الحدود بين البلدان الموقعة عليها، وإعادة النظر في سياسات الهجرة وإدماج المهاجرين الجدد إلى بلدان الاتحاد. 

وفي كفة أحزاب اليمين المتطرف الأزمات الاقتصادية التي تمر بها غالبية بلدان الاتحاد، وارتفاع نسبة البطالة والمديونية، وعجز الاتحاد الأوروبي عن وضع معالجات وحلول مشتركة، وما يترتب على ذلك من انعكاسات اجتماعية سلبية، توظفها الأحزاب اليمينية المتطرفة في برامجها وخطابها الإعلامي لانتزاع مواقع متقدمة، حذَّرت من نتائجها المتوقعة الائتلافات الحاكمة.

على هامش وقع الصدمة، المباغتة حسب وصف سياسيين ومحللين أوروبيين، حذَّرت مستويات قيادية عليا في أوروبا من تداعياتها على الخارطة السياسية الأوروبية، وإمكانية نشوء تحالفات جديدة قوامها قوى اليمين المتطرف، على قاعدة العداء للتكامل الاقتصادي والسياسي الأوروبي بصيغته الراهنة، وفقاً لاتفاقية "شنغن". وسيكون ذلك خطوة كبيرة إلى وراء، ليس فقط في مضمار تجربة الاتحاد الأوروبي، إنما أيضاً على مستوى عودة اليمين المتطرف كلاعب رئيس في السياسات الداخلية الأوروبية وهيئات الاتحاد المشتركة.

وثمة ما يبرر ذهاب البعض إلى عقد مقارنة فيها مفارقة مرة، فانتصار قوى اليمين المتطرف، في انتخابات برلمان الاتحاد، جاء قبل أيام من الاحتفال بالذكرى السبعين لإنزال النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية، الذي يعد أكبر عملية عسكرية من نوعها في التاريخ، وساهمت في سقوط النازية بما تمثله من نزعة يمينية متطرفة أساسها العداء والعنصرية ضد الأعراق الأخرى. 

المفارقة تكمن في عودة قوى اليمين القومية المتطرفة إلى الواجهة، بزخم عبر صناديق الاقتراع أعطاهم ربع مقاعد البرلمان الأوروبي، بعد سبعين عاماً من إنزال النورماندي، الذي خفف من ضغط الجيوش النازية على الجبهة السوفيتية آنذاك، وكان بداية هزيمة النازية والفاشية والتطرف اليميني القومي عموماً في أوروبا، بعد أن جلب -هذا اليمين العنصري- لشعوب أوروبا والاتحاد السوفيتي ويلات حرب عالمية قضى فيها ملايين البشر.

رئيسة حزب الجبهة الوطنية اليميني المطرف في فرنسا، مارين لوبان، علقت على نتائج انتخابات البرلمان بالقول: "اليمينيون صعدوا في أوروبا لأن الشعوب تراجعت ذاتها الآن تجاه المنجزات التي تحققت، وأي مكاسب جنتها من الاتحاد الأوروبي وكثرة المهاجرين"، في إشارة تبيِّن الخطين الرئيسيين اللذين سيحاول اليمين الفرنسي المتطرف أن يجعل منهما أساس تحالفات مع قوى اليمين الأخرى في الاتحاد، تسعى لفرض قوانين اتحادية جديدة يتم من خلالها مراجعة اتفاقية "شنغن" وسياسات الهجرة وإدماج المهاجرين. وتلقى مثل هكذا دعوات تأييداً متنامياً من قبل قطاعات جماهيرية تتسع أكثر فأكثر، لاسيما في ظل إجراءات التقشف التي لجأت إليها دول الاتحاد في مواجهة الأزمة الاقتصادية، التي عصفت بمنطقة اليورو، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا.

صعود اليمين شمل الدولتين المذكورتين، بصعود الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة في الأولى (25%)، وفوز وصف بالتاريخي لحزب بريطانيا المستقلة اليميني المتطرف، بزعامة نايجل فراج، بتفوقه على حزبي المحافظين والعمال. وإلى جانبهما حققت أحزاب يمينية متطرفة تقدماً في بلدان أوروبية أخرى، كـ"حزب الفنلنديين الحقيقي" والحزب الديمقراطي" السويدي و"حزب الشعب" الدانماركي وحزب "الفجر الذهبي" النازي في اليونان، الذي حصل على 10% من أصوات الناخبين اليونانيين، وحزب "الحرية اليمنى" في النمسا، وحزب "العدالة" في ليتوانيا، وحزب "كاي ان بي" البولندي.. الخ

وتعمل زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية المتطرفة، مارين لوبان، على بناء تحالف مع  نايجل فراج، زعيم حزب "بريطانيا المستقلة"،  كنواة لتحالف صلب بين أطراف اليمين الأوروبي المتطرف، رغم الخلافات الواسعة بين لوبان وفراج الذي رفض في تصريحات سابقة مثل هكذا حلف، غير أنه لم يغلق الباب أمام أشكال متقدمة من التنسيق بين الجانبين في القضايا الخاصة بالاتحاد الأوروبي، من زاوية رؤيتهما المشتركة لبنية الاتحاد ودوره والقوانين الناظمة لعمله.

ويسعى الجانبان، وهما الأكبر من حيث كتلة تمثيل القوى اليمينية المتطرفة في البرلمان الأوروبي، إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من الأحزاب اليمينية في بلدان الاتحاد الأخرى، لكن هذا المسعى يظل محفوفاً باحتمالات أقرب إلى الفشل، بسبب الخلافات الإيديولوجية الواسعة بين هذه الأحزاب، والأولويات السياسية التي تعمل عليها. بيّْد أنه وبصرف النظر عن نجاح قيام شكل من أشكال التحالف العملي بين لوبان وفراج واستقطابهما لأحزاب أخرى، أو فشلهما في ذلك، يبقى نجاح اليمين الشعبوي القومي المتطرف في انتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي مؤشراً خطيراً على اختراقات محققة، يستطيع اليمين المتطرف من خلالها أن يؤثر نسبياً على سياسات الاتحاد المشتركة، وعلى السياسات الوطنية لدوله، وتتحكم في الثانية قوة كل حزب من تلك الأحزاب في بلده.

ويبقى الأهم في تقييم ظاهرة صعود قوى اليمين المتطرف أنها تعيد إحياء العنصرية ضد الأجانب والمهاجرين الجدد، وهو الشعار الرئيس الذي كان في كل الحملات الانتخابية لأحزاب اليمين المتطرف، وإن بصياغات مختلفة تبعاً لكن حزب وفقاً لخصوصية برنامجه ومتطلبات الدعاية الانتخابية. 

أمر آخر توافقت عليه حملات اليمين المتطرف بالدعوة إلى سياسات وطنية انعزالية، تعيد الاتحاد الأوروبي خطوات واسعة إلى وراء. وإذا كانت تلك الأحزاب تبقى أقلية في عضوية البرلمان الأوروبي، رغم ما حققته من تقدم نُظر إليه بمثابة فوز كبير، ولن تستطيع في الفترة القريبة القادمة أن تفرض تغيرات جوهرية وواسعة في سياسات الاتحاد، إلا أنها نبَّهت إلى أن الجسد الأوروبي بات يعاني من اعتلال سياسي خطير، بما حققه اليمين المتطرف، ومن سوء طالع الفرنسيين والبريطانيين خصوصاً أنه تزامن مع الذكرى السبعين لإنزال النورماندي، فرسالة انتخابات البرلمان الأوروبي مفادها: اليمين العنصري المتطرف بدأ يطل برأسه من جديد.

 

المصدر: أنباء موسكو