المستنقع الأوكراني وتراجع الإمبراطورية الأمريكية (2/2)
آرنو ماير آرنو ماير

المستنقع الأوكراني وتراجع الإمبراطورية الأمريكية (2/2)

يبدو أن فيكتوريا نولاند نفسها كانت من المهتمين بآراء زبيغنيو بريجينسكي*، أحد أبرز الجيوسياسيين الأمريكيين، الذين بدؤوا الخوض في غمار «الديمقراطية» منذ العام 1960. حيث كان يزوّد الرئيس جون كيندي بالنصائح خلال حملته الانتخابية الرئاسية، ومن ثم أصبح مستشاراً للأمن القومي الأمريكي.

ترجمة: نور طه

  

يقول بريجينسكي، وهو الإمبرياليّ المعروف باهتمامه الكبير بمنطقة أوراسيا*، في كتابه الشهير «رقعة الشطرنج» في عام 1997: «سيستمر الصراع من أجل السيادة العالمية على رقعة الشطرنج الأوراسية»، ويضيف: «كانت أوكرانيا محوراً جيوسياسياً لأن وجودها بحد ذاته كدولة مستقلة يساعد على تحويل روسيا»، و «إذا استعادت موسكو السيطرة على أوكرانيا، بسكانها الـ 52 مليوناً - حينها -  ومواردها الرئيسية، وإذا تمكنت من الوصول إلى البحر الأسود، فستستعيد روسيا تلقائياً مستلزمات تحولها إلى إمبراطورية قوية مرة أخرى، وقد تمتد إمبراطوريتها هذه لتشمل أوروبا وآسيا». إن نص بريجينسكي يكثّف طريقة فصل أوكرانيا عن دائرة النفوذ الروسي، بما في ذلك شبه جزيرة البحر الأسود ومدخلها إلى شرق البحر المتوسط عبر بحر إيجة.

 

رقعة الشطرنج الأوراسية

بدل التركيز على الأهداف الجيوسياسية للـ «عدوان» الروسي الحالي ضد أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، قام بريجنسكي بتسليط الضوء على نوايا وأساليب التحرك الذي يقوم به بوتين على رقعة الشطرنج الكبرى.

بإحيائه لنظرية الدومينو، حثّ بريجنسكي الغرب على «الاعتراف الفوري بالحكومة الأوكرانية «الشرعية» الحالية»، وأكد أن  «باستطاعة الجيش الأوكراني أن يعتمد على المساعدات الغربية المباشرة وغير المباشرة، الهادفة لتعزيز قدراته الدفاعية». وفي الوقت نفسه «ينبغي أن توضع قوات حلف شمال الأطلسي في حالة تأهب واستعداد عالية، لإقامة جسر جوي فوري إلى أوروبا بغرض نقل الوحدات الأمريكية المحمولة جواً، الأمر الذي سيشكّل خطوةً ذات مغزى سياسي وعسكري».

 

احتواء روسيا والصين

هذا وقد اقترح بريجينسكي أنه وبالإضافة لهذه «الجهود المبذولة لتجنب أي حسابات خاطئة قد تؤدي لقيام حرب»، على الغرب أن يجدد تأكيده على «الرغبة في تسوية سلمية، وطمأنة روسيا إلى أنه لا يسعى لضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، ولا إلى قلبها ضد روسيا».

وكما لو أنها تنفذ توصيات بريجينسكي وماكين، بدأت واشنطن ببناء قواتها في دول البلطيق، ولا سيما بولندا، كدعم إضافي للعقوبات التي فرضتها على روسيا. ولكن هذا التدخل قديم الطراز لن يؤتي ثماره إلا إذا رافقه تضافرٌ كليّ عسكرياً و اقتصادياً من جانب الأعضاء الوازنين في حلف الناتو، وهو الأمر الذي يبدو غير مرجحٍ. لا شك أن أمريكا تملك طائرات بدون طيار وأسلحة دمار شامل، إلا أن روسيا تملك الشيء ذاته.

باختصار، إن الامبراطورية الأمريكية الخطّاءة تسعى جاهدةً لاحتواء كل من روسيا والصين، وقد بدأت هذه العملية من الحدود الأوروبية القريبة من روسيا، وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان الذي يربط بحرَي الصين الجنوبي والشرقي.

 

عجز.. وإعادة تنظيم

في سياق آخر، أدت القيود المتزايدة على ميزانية واشنطن إلى اشتكاء الأخيرة من التباطؤ المالي والعسكري لشركائها الرئيسيين في حلف الناتو. ومن شأن هذا الضغط المالي أن يركز ويكثف التمحور في المحيط الهادئ، وهو أمر يترتب عليه حصول ارتفاع حاد في نفقات «الدفاع» التي لا يرجح أن يتشارك في تأمينها تحالف آسيوي - باسيفيكي* مشابه للناتو. هذا ومن المحتمل أن يتم تخفيض عدد القواعد الأمريكية في المحيط الأطلسي وأوروبا والشرق الأوسط، بالتوازي مع إعادة تنظيم جغرافية لنقاط التمركز الأمريكية حول العالم. وبالنسبة للمبالغ المالية الهائلة التي ستوفرها الولايات المتحدة من هذه العملية، فإنها ستُصرف على تعزيز وتوسيع أسطولٍ لا مثيل له يتكون من اثنتي عشرة مجموعة عسكرية خاصة تتمركز حول حاملات الطائرات التي تعمل بالطاقة النووية.

إن المحور الآسيوي - الباسيفيكي سيزيد إرهاق الإمبراطورية الأمريكية، في وقتٍ تتصاعد فيه القيود المالية وقيود الميزانية التي تعكس الصعوبات الكبيرة في منهجية اقتصاد الولايات المتحدة وأزمتها الاجتماعية الملتهبة، التي أدت إلى تزايد العجز والخلاف السياسيين فيها.

 

أوليغارشيا السلاح

خارجياً، تبلغ النفقات العسكرية الأمريكية حوالي 40% من مجمل النفقات العسكرية في العالم، بالمقارنة مع 10% للصين و 5.5% لروسيا. أما داخلياً، فإن ميدان الصناعات الفضائية والدفاعية يساهم بحوالي 3% من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، وهي أكبر مساهم إيجابية في الميزان التجاري للبلاد.

إن شركات السلاح الثلاث الأكبر في الولايات المتحدة - لوكهيد مارتن / نورثروب غرومان / بوينغ - هي الأكبر من نوعها في العالم أيضاً، حيث أنها توظّف 400 ألف يد عاملة.

إن الأوليغارشية الهائلة، المؤلَفة من صانعي السلاح وتجاره داخل المجمّع الصناعي العسكري الأمريكي، تشكّل «جيشاً» كبيراً من أعضاء اللوبيات* في واشنطن. هذا وقد أنفق لوبي السلاح في السنوات الأخيرة ملايين لا تحصى خلال الدورات الانتخابية المتعاقبة، وتقاسم كل من الجمهوريين والديمقراطيين المساهمات التي قدمها هذا اللوبي بالتساوي.

قام مارتن لوثر كينج في عام 1967 بكسر صمته حول الحرب في فيتنام، وتكلم بشكل مباشر عن تداخل السياسة الداخلية والخارجية في هذا النزاع، معتبراً هذه الحرب بمثابة تدخلٍ إمبريالي في جنوب شرق آسيا البعيد على حساب «المجتمع العظيم» الذي اقترح الرئيس الأمريكي جونسون* - المسؤول عن تصعيد هذه الحرب - تعزيزه داخل الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد رثائه للتضحيات الفادحة في الأرواح من كلا الجانبين، قال كينج: «إن الأمة التي تواصل عاماً بعد عام إنفاق المزيد من الأموال على الدفاع العسكري، بشكل يفوق إنفاقها على البرامج الاجتماعية هي أمةٌ تقترب من موتها الروحي»، وألمح إلى أنه: «لا شيء إلا رغبة في الموت المأساوي قادرة على منع أغنى وأقوى دولة في العالم من إعادة ترتيب أولوياتنا، بحيث يأخذ السعي لتحقيق السلام الأسبقية على السعي وراء الحرب».

 

نكسة الامبراطورية

وبعد حوالي خمسين عاماً، ما زال الرئيس أوباما وموظفوه، فضلاً عن جميع أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين والجمهوريين تقريباً، والنواب وخبراء السياسة والمحللون، ما زالوا إمبرياليين بشكل قطعي لا جدال فيه. ولو توجّب على أيٍ منهم أن يقرأ ما كتبه جيبون، فإنه لن يلقِ بالاً لحدسه الذي عبّر عنه في كتابه بالقول: «إن تراجع روما كان تأثيراً طبيعياً وحتمياً لعظمتها المفرطة» والتي أنتجت - كردّ فعل-  نكسة وتآكلاً لكل من النظام السياسي والمجتمع والثقافة التي قامت عليها.

 

الأمة الاستثنائية

إن تراجع الإمبراطورية الأمريكية، شأنها في ذلك شأن بقية الإمبراطوريات، سيكون تراجعاً تدريجياً ونسبياً في الوقت ذاته. أما بالنسبة لأسباب هذا التراجع، فهي أسباب داخلية - محلية وخارجية - أجنبية. وليس هنالك فصلٌ ما بين العجز في الميزانية وما يصاحبه من تزايد للنزاع السياسي والاجتماعي، وبين الميزانية العسكرية غير القابلة للتخفيض واللازمة لمواجهة الإمبراطوريات المنافسة، ويمكننا اقتباس عبارة «إمبراطورية القواعد» للتوضيح.

بوجود شبكة تتألف مما يزيد عن 600 قاعدة متوزعة في أكثر من 100 دولة، ومع ازدياد مخاطر الوقوع بين ليلة وضحاها من حالة «السلطة المطلقة» إلى حالة «العجز التام»، فإن هذه المخاطر تفقد انتظامها وتتحول بشكل متقطع إلى «دفاعٍ» عنيف عن ما يُسمى بـ «الأمة الاستثنائية المقدسة».

معلومات إضافية

ترجمة:
نور طه