الدور «الكَنَسي» يظهر في أوكرانيا مجدداً

الدور «الكَنَسي» يظهر في أوكرانيا مجدداً

لفهم ما يحدث في الدولة الأوكرانية لابد من معرفة مراحل تشكلها تاريخياً. فحسب المخطوطات التاريخية، أطلق لقب الأوكران على سكان الأطراف في روسيا القديمة، كما جرت تسميتهم بحراس الحدود.

حتى القرن العاشر، كانت القبائل الأساسية التي تقطن ما بين البحر الأسود وبحر البلطيق، حتى وسط أوروبا، تسمى بـ «السلافيون الروس»، وكانوا يتكلمون لغةً واحدة هي الروسية القديمة و يفهمون بعضهم بعضاً بشكلٍ جيد، ويمتلكون ملامح الهوية الواحدة.

بدأ الانقسام اللغوي والثقافي مع التوسع العدواني للفاتيكان نحو الشرق. ومع بدء حروب الفرنجة، بدأت عملية الكثلكة تفرضُ على التشيك والبولونيين، وتدِّمر هويتهم السلافية ومقوماتها الثقافية. كما نظَّم الفاتيكان، في القرن الثالث عشر، حملات عسكرية إلى مناطق البلطيق الشرقية، تحت شعار كثلكة الأجزاء الشرقية من أوروبا. وألزمها عنوةً بالمعتقد الكاثوليكي.

ومع بداية القرن الرابع عشر، بدأت عملية تدمير الهوية الأوكرانية والبيلاروسية. كما ترافق ذلك مع بدء التوسع البولوني شرقاً بالتعاون مع الفاتيكان، بهدف كثلكة السكان الروس، ونشر اللغة البولونية. وهذا ما أدى لاحقاً إلى تغييرٍ في الوعي الذاتي والثقافي لسكان غرب روسيا التاريخية الذين أُخضعوا، منذ عام 1596، إلى الكنيسة الكاثوليكية في بولونيا والفاتيكان.

ومن حيث الجوهر، كان ذلك أول «ميدان أوروبي في أوكرانيا». وفيما بعد، تولت الكنيسة البولونية التبشير الديني في أوساط الفلاحين الروس، لتغيير معتقداتهم من الأرثودوكسية إلى الكاثوليكية، وكان الهدف الأكبر إقناع الفلاحين أن الأوكرانيين ليسوا روساً، بل جزء من الشعب البولوني. لكن هذا التوجه لقي مقاومة شديدة من الروس، الذين نظموا أكثر من انتفاضة ناجحة ضد الاستعمار الأوروبي، حيث حقق سكان غرب روسيا انتصارات عديدة في نضالهم من أجل الاستقلال الوطني.

ففي عام 1654، انضمت منطقتا كييف والساحل الأوكراني إلى روسيا القيصرية. وعندما رفضت أوكرانيا - كما اليوم- توقيع اتفاقية التكامل الأوروبية، بدأ الغرب والفاتيكان بالضغط على روسيا، لكن ذلك لم يجد نفعاً حيث استمرت عملية الاندماج بين روسيا القيصرية وأوكرانيا.

ولفهم حقيقة ما يجري الآن من أحداثٍ دموية خطيرة في أوكرانيا، لابد من معرفة مدى تأثير العامل الديني – والأصولية الكاثوليكية – على السياسة هناك بوجهٍ عام، وعلى السياسيين الجدد الذين يتصدرون المشهد السياسي حالياً من رموز الفاشية الجديدة، بعد انقلاب 22- 23 شباط 2014م.

يبرز هنا تساؤل مشروع: ما هي جذور المعتقدات الدينية المتطرفة لمن يملأ «الميدان في كييف» ومن يقف خلفهم؟ إن من يعرف تاريخ الأصولية الكاثوليكية في أوكرانيا لن يتفاجأ بوجود شعارات النازية الجديدة ترتفع على «ميدان كييف»، وكذلك لن يتفاجأ بوجود المئات من رجال الأكليروس الكاثوليكي – أكثرهم من الجنسية البولونية -  يقومون بتقديم الخدمات والغذاء والطبابة لمن جيئ بهم إلى الميدان وأكثرهم من طلاب الجامعة الكاثوليكية الأوكرانية!

لقد سبق لرأس الكنيسة الكاثوليكية في كييف أن أيد هتلر وجيوشه عند احتلال أوكرانيا في مطلع الأربعينات، و ليس مصادفة أن يكرر التاريخ نفسه، حيث أعلن كبير أساقفة الكنيسة من ميدان كييف: «إن الكنيسة وأنصارها تنظم إلى القطاع اليميني، وتعتبر نفسها في خندق سياسي واحد معه».

وليس مصادفةً أيضاً أن تعلن الكنيسة تعليماتها، يوم 25 شباط، حول شكل ومضمون الصلاة في ميدان كييف، وهي مقاطع مأخوذة من نصٍ قديم لرأس الكنيسة في كييف المطران أندريه شيبتيسكي والذي خاطب هتلر، بعد احتلال العاصمة كييف 1941، قائلاً: «يا صاحب السعادة إنني، كرأس الكنيسة، أتوجه إليكم بالتهاني والتبريكات بعد أن سيطرت ألمانيا على عاصمة أوكرانيا... نرى فيكم قائداً لا يهزم، وندرك أهمية الحركة الجبارة للشعب الألماني تحت قيادتكم، سأصلي لكم ولانتصاراتكم اللاحقة».

 لقد مات المطران شيبتيسكي عام 1944 موسوماً بالعار ولعنة التاريخ، لأن التعاون مع النازيين آنذاك تسبب في قتل وحرق وسحل أكثر من سبعمئة ألف أوكراني في منطقة الفوف وحدها، بحسب وثائق محكمة نورنبيرغ .

والآن، نلاحظ كيف يلعب الفاتيكان والكنيسة البولونية دوراً خطيراً في محاولة إشعال حرب أهلية خطيرة على أراضي أوكرانيا، وكي لا نفقد البوصلة لابد من التوكيد أن رأس المال المالي العالمي هو من يمول كل أنشطة الفاشية الجديدة على الساحة الدولية، وهو الذي يستخدم جميع الأصوليات سواءً كانت يهودية، أم مسيحية، أم إسلامية لمصلحة مخططاته الإجرامية ضد الشعوب. والمهمة الأكبر الآن التي تواجه قوى السلام والكرامة الوطنية في أيّ بلد من البلدان هي مواجهة هذا الخطر - الوباء- الذي يستخدمه التحالف الإمبريالي الصهيوني لتفتيت الشعوب والبلدان عبر تسعير الصراعات الدينية والعرقية والقبلية.

ومثلما تحتفل البشرية في هذه الأيام بالعيد التاسع والستين للانتصار على النازية، لن يكون بعيداً انتصار الشعوب على الفاشية الجديدة في القرن الواحد والعشرين. ولا غرابة في ازدياد العدوانية الأمريكية والصهيونية والرجعية العالمية، بعد أن أقفل الأفق التاريخي أمام هذه القوى. وبالمقابل، هناك ما يؤكد انفتاح الأفق أمام الشعوب وقدرتها على إلحاق الهزيمة النهائية بقوى الاستعمار قديمهُ وجديدهُ.