نسق جديد للعلاقات الدولية
عامر راشد عامر راشد

نسق جديد للعلاقات الدولية

سعي واشنطن لاستعادة أجواء وسياسات "الحرب الباردة" لا يلقى آذاناً صاغية لدى حلفائها الأقرب، فضلاً عن أن الولايات المتحدة ذاتها ستكون من الخاسرين الكبار جراء استعادة استراتيجيات تجاوزها الزمن والوقائع، مع تبلور نسق جديد من العلاقات الدولية قوَّض القطبية الأحادية الأميركية.

تختلف القراءات وتتنوع إلى حد التناقض الحاد في الإجابة على سؤال فرضته بقوة مجريات الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، ويكاد يحظى بإجماع على أنه سؤال جيوستراتيجي رئيس يعتبر مفتاحاً لفهم شكل النسق الدولي الجديد، وهو: هل نحن أمام شكل جديد من أشكال "الحرب الباردة" تعمل على نفخ النار فيها الولايات المتحدة الأميركية؟

البعض يرى في إجابته على هذا السؤال أن الأزمة الأوكرانية سرَّعت على الصعيد العملي من عودة شبح "الحرب الباردة"، الظاهر فيها مواجهة سياسية واقتصادية ستكون مفتوحة بين روسيا ودول حلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة، بينما يرى البعض الآخر أن الحديث عن "حرب باردة" جديدة خاطئ من أساسه، لأن شروطها الذاتية والموضوعية وحاضنتها الإيديولوجية غير متوافرة. 

وما بين هذين الرأيين ثمة من يعتقد أن الأزمة الأوكرانية وتداعياتها كانت بمثابة الكاشف لـ"حرب باردة" لم تتوقف في واقع الأمر بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، لأن سياسات دول حلف الناتو، والأميركية منها على وجه التحديد، بقيت تنظر إلى العلاقة مع روسيا من زاوية اعتبارها عدواً محتملاً، وليس شريكاً استراتيجياً يجب تمتين العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية معه، خدمة للمصالح الثنائية المشتركة معه، ولمصالح العالم أجمع في حفظ الأمن والسلم العالميين والتنمية المستدامة.

بديهي أن تقود كل إجابة من الإجابات المشار إليها إلى استنتاجات خاصة ومتناقضة، لكن يبقى الجامع بينها، في شكل غير واضح أحياناً، أنها تصب جميعها في التسليم بأن العالم أمام نسق ميزان قوى جديد، سيفرض قواعد علاقات جديدة بين دول حلف الناتو وباقي القوى الدولية والإقليمية الكبرى، فالتغيير وإن كان ظاهرياً قد مس في شكل مباشر العلاقات بين الناتو وروسيا، إلا أن دائرته تشمل أيضاً العلاقة مع الصين، وسينعكس ذلك مستقبلاً على العلاقة مع قوى إقليمية كبرى مثل الهند والبرازيل وأفريقيا الجنوبية، ناهيك عن القوى الإقليمية الوازنة التي تشوب علاقتها مع الولايات المتحدة مكامن خلل كبيرة، أو على الأقل معقدة، على سبيل المثال لا الحصر إيران وتركيا ومصر والبرازيل.

في الحيثيات التي تستند إليها كل إجابة من الإجابات الرئيسية الثلاث، وتنطلق منها، لا يعوز أصحاب هذه الإجابة أو تلك تقديم براهين ومعطيات حسية تدعم وجهة نظرهم، فردود الفعل الأميركية الانفعالية على استفتاء شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول، وانضمامهما إلى روسيا الاتحادية، يمكن أن تكون دليلاً على توجهات جديدة من قبل حلف الناتو حيال روسيا تضغط من أجلها واشنطن، بعد سنوات من تطور العلاقات الأوروبية - الروسية، وعلى نحو أقل، لكن في مستوى متقدم نسبياً، العلاقات الأميركية- الروسية، ولم تحد منها الخلافات الواسعة بين روسيا والغرب بخصوص العديد من الملفات الإقليمية الشائكة، مثل الملفات العراقية والإيرانية والليبية والسورية. وحتى بالنسبة لملفات ثنائية شائكة تمس الأمن القومي الروسي، كنشر "الدرع الصاروخية" وسعي الولايات المتحدة لضم عدد من الجوار الإقليمي الروسي لحلف الناتو، بقيت ردود الأفعال منضبطة وتُرك الباب أمام حلول دبلوماسية تحافظ على العلاقات الروسية- الغربية.

في المقابل، إن وجهة النظر التي تنفي إمكانية نشوب "حرب باردة" جديدة لها ما يعززها، وذلك من خلال قراءة معمقة لشبكة المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية التي تربط بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي، وهذا يفسر لماذا تعاملت هذه الدول بـ"كتف بارد" مع دعوات واشنطن لفرض عقوبات قاسية، اقتصادية في المقام الأول إلى جانب عقوبات سياسية، ضد روسيا، رداً على استفتاء شبه جزيرة القرم، وانضمام القرم وسيفاستوبول لروسيا الاتحادية.  

يضاف إلى ما سبق قراءة موضوعية لقدرة الولايات المتحدة الذاتية على العودة إلى أجواء "الحرب الباردة"، من حيث تحمل تبعاتها الاقتصادية والسياسية، لاسيما في ظل المعضلات التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي كنتيجة لحربين إقليميتين كبيرتين خاضتهما الإدارة الأميركية السابقة برئاسة بوش الابن، والخلل البنيوي في الاقتصاد الأميركي، الذي كشفت عنه أزمة انهيار سوق الرهون العقارية، والتداعيات التي تبعتها على الصعيدين الأميركي والعالمي. 

وعليه، الولايات المتحدة راهنت على خوض معركة ضد روسيا من الضغط خلال بلدان الاتحاد الأوروبي، لكن تلك البلدان أحجمت عن مجاراتها، لأنها تدرك تماماً أن روسيا قادرة على أن ترد بإجراءات اقتصادية وسياسية وأمنية مؤلمة لأوروبا الغربية، ويكفي إبراز حقيقتين على قدرة روسيا في هذا المجال. الحقيقة الأولى: اعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الطاقة الروسية، وكون روسيا من أكبر الشركاء الاقتصاديين لأوروبا. والحقيقة الثانية: يمكن لروسيا أن ترد على أي تهديد قوى لأمنها ومصالحها الحيوية بنشر منظومات صواريخ "إسكندر" أو غيرها (الأكثر تطورا) في مقاطعة كالينينغراد في المنطقة الحدودية مع الاتحاد الأوروبي. وبالفعل - حسب تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف - تُرك هذا الأمر لوزارة الدفاع الروسية كجهة مخولة للبت بموعد نشر منظومات "إسكندر".

أصحاب وجهة النظر الثالثة، القائلة بأن الأزمة الأوكرانية لم تكن سوى كاشفة لاستمرار "الحرب الباردة"، لا تعوزهم البراهين للدفاع عن وجهة نظرهم، ففي كل الاستراتيجيات التي اعتمدتها الولايات المتحدة ودول الناتو، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحل حلف وارسو، بقيت روسيا مستهدفة في أمنها ومصالحها العليا، كجزء من استهداف قوى دولية وإقليمية كبرى في الاستراتيجيات الأميركية، من بينها الصين والهند والبرازيل وإيران وجنوب أفريقيا، وهو ما يؤكد وفقاً لأصحاب وجهة النظر هذه أنما تغير على أرض الواقع منذ عام 1991 يتمثل في أطراف "الحرب الباردة" وأدواتها.

وللخروج من زحمة القراءات المتناقضة لما أفرزته الأزمة الأوكرانية من تداعيات، فإن الشيء الأهم في كل القراءات أنها تُسلِّم بنشوء ميزان جديد في العلاقات الدولية لم يعد فيه مكان لقطبية أحادية أميركية، وأن العالم استعاد بالفعل ميزة تعدد الأقطاب، وسيتضح ذلك في المدى القريب، ما يملي على الولايات المتحدة ودول حلف "الناتو" مراجعة جذرية لسياساتها وعلاقاتها الكونية على أساس الشراكة واحترام المصالح المتبادلة.

 

المصدر: أنباء موسكو