مصر: هل ذات صلة؟
كمال خلف الطويل كمال خلف الطويل

مصر: هل ذات صلة؟

وقبل أن يقفز أحد من مقعده سواء مأخوذاً بالسؤال أم مستنكراً لطرحه، فالمثار عندي، ليس في ما إذا وجب على مصر أن تكون ذات صلة، أو التشكيك بما إذا في وسعها أن تكون، وإنما مجرّد سؤال: هل تكون؟

وبدءاً، فمنطق التاريخ والجغرافيا يقتضي أن تكون مصر لا ذات صلة فحسب، بل وضابط إيقاع مجالها بامتياز... لكن نظرة طائر على تاريخ مصر منذ عهود أواخر الأسر الفرعونية، وحتى عبر العصر العربي _ الاسلامي، تقطع بأن نخبها قصُرت عن أن تكون على قدّ الجغرافيا أو فاعلة بالتاريخ، لا مستقبلة لحوادثه وصنّاعها، اللهم إلا اذا استثنينا الوافد المتمصر محمد علي – ونجله ابراهيم – والذي استوعب الخريطة واستلهم التاريخ.

والشاهد أن قنوط النخب أزمن لحدّ أن أول حاكم مصري منذ أواخر العصر الفرعوني كان جمال عبدالناصر... وهو الذي خرج عن مألوف أسلافه، الذين تلَوا محمد علي، من واقع إدراكه اليقظ لقيمة مصر الجغراستراتيجية، ومن أنها من دون عروة عروبةٍ صفرٌ كبير، بمقدار ما ان العرب بلا مصر عرضةٌ للتفرق أيدي سبأ.

لم يكن عبدالناصر من اكتشف عروبة مصر بل شريحةٌ صغيرة من مثقفيها كانوا اصواتاً في البرية، فيما سواد النخب الأعظم قد توزع هواه بين تأورب متوسطي، وتفرعن انعزالي، وشرقية غائمة، واسلامية يجتمع فيها حلم ليلة صيف بمشبوب عاطفة. ولعل فرادة عبدالناصر عمن قبله وبعده هي في وعيه الدارس لحقيقة ان مصر عربيةً بوزن التنين وبدونها بوزن الريشة، وتصرف على هذا الأساس.

صحيح أن خبرة كوادره بالشأن العربي تفاوتت بين ضئيلة ومقبولة، وصحيح أن بعضهم تصرف بمنطقٍ صرف مصلحي ضيّق، وصحيح أن سوء إدارة مسارح وازنة خارج الوادي – سوريا واليمن بالتحديد – كان مفرطاً، إلا ان ذلك كله لم يأخذ من رصيد مصر ما يهدد.

والحاصل أن أخذَ عبدالناصر مصر الى العروبة، حصل بتسارع لاهث لم يكفل تجذره، لا سيما وهو معطوفٌ على نرجسية مصرية فيها من التزيد اللاشعوري ما يفيض عن نواميس حب الوطن والتغني به، لتبدو وكأنها تعويض مستبطَن عن طول استتباع، فترى المصري مستنكرٌ لنقد حاكمه من عربيٍ غيره حتى ولو قال هو فيه أكثر مما قاله مالك في الخمر... وترى نهّابي مصر وسرّاقها وعملاء الخارج من بنيها يصدحون بمعلقات الوله بمصرهم، وهم لا يتقون فيها الخالق.

عام 1948 اندفعت مصر الى حرب فلسطين بقرار من فاروقها الذي هاله ما نما الى علمه عن نية عبدالله ـ عبر الاردن ـ نهش «الدولة العربية» في فلسطين المنصوص عليها في قرار التقسيم وضمها لمملكته، فأبى إلا ان تكون له طلّة عليها، وفي جوارحه ان يكون نقبُ فلسطين وديعةً عنده، ومعبره الى «الشام».

شاركه ضباط جيشه في رؤيته، وهم من كان لبعضهم – إضافةً – مشاعر اسلامية فياضة، سواء انتموا للإخوان أم اكتفوا بمصادقتهم، وعلى خلفية أزرٍ شعبي واسع لعرب فلسطين في ذودهم عن حياضهم من منطلق مزيجٍ من «الاسلامية» و«الشرقية».

اعتبر الجيش المصري أن من أسباب هزيمته في الحرب نكوص جيش عبر – الاردن عن عونه، مكتفياً بحصته المتاحة صهيونياً – الضفة –... لا سيما وقد انتهى به المآل أن لاحقته «الهاغاناه» حتى العريش، ولولا التدخل الأميركي اللاجم لبلغت العريش. شاعت الشائعات في بر مصر أن الفلسطينيين هم السبب «ففيهم ومنهم جواسيس الصهاينة، وأن لا خير في العرب بالجملة، فهاشميوهم من طعن مصر من الخلف وخانها».

على خلفية هذه التربة المستريبة من جيران الشرق جاء «23 يوليو»، والحاصل ان ما يعجب له المرء هو كيف استطاع عبدالناصر ان يردم تلك التربة بسرعة الضوء ليبدأ مشواره العروبي بإطلاق صوت العرب، ثم تبني ثورة تحرير الجزائر ثم كنس الأحلاف الغربية ثم شن حرب الفدائيين من غزة والضفة... كلها في برهة أعوام ثلاث على ذلك اليوم... تفسير ذلك من شقين: موضوعيةُ قدْر الجغرافيا معطوفاً على وزن التاريخ... وذاتيةُ بصيرة رجل من قماشة قائد.

والحال أن ما سبقَ ظهوره على مسرح الشرق كان شيوع تناءٍ مزمنٍ بين الموضوعي والذاتي لبث في ثنايا العقل السياسي الجمعي المصري منذ الاحتلال البريطاني، مدعاته إيثار النخب ما ظنته سكة السلامة بحصرها الاهتمام بالوادي – رغم فقر دم شديد لفهمها السودان – وحسر بصرها عما بعد سيناء.

ولعل تلقف مصطفى النحاس إشارة انتوني إيدن لتأسيس الجامعة العربية عام 1944، ثم دخول فاروق حرب فلسطين عام 1948 كانا مدفوعين، في المقام الأول، بحافز الخشية من الهاشميين والصراع معهم على «الشام»، لا نزوعاً عروبياً لوصل شقي آسيا وأفريقيا العربيين في منظومة استقلال وتكامل ونهضة.

من هنا كان «23 يوليو» نقلة فارقة بين نخبة قاعدةٍ عن استقلاب التاريخ والجغرافيا وعاجزةٍ عن تمثّل متغيرات العصر، وبين من امتلك البصيرة والعزيمة بوعي الجغراستراتيجيا، لا بحماوة الايديولوجيا.

وما إن مضت نصف دزينة من السنين على انتهاج مصر العروبة مساراً الا وداهمتها صدمة الانفصال السوري ليبرز من جديد ما كان تحت جلد العروبة، الرقيق بعد، من نسُج نأي سميكة. ولولا ثقل عبدالناصر الجماهيري الكاسح لطوّح الانفصال بعروبة مصر في جبّ النكران، لا سيما وغثاء ما نطق به إعلام الانفصال، مؤيداً بإعلام آلي سعود وهاشم والانعزال اللبناني، وصل الى تخوم من الإسفاف تليق بهمَج يعمهون.

ثم اضيفت حرب اليمن لتثير عند الجمهور المصري تساؤلات مريرة عن عرب يقتلون جنده، وهم في مهمة عون ثورة ابتغت الانتقال من القرن العاشر الى العشرين، وينفقون من كيس تنميتهم على تلك المهمة التي طالت سنيناً خمس بفضل قيادة عسكرية تعاملت مع المسرح بطريقة البيضة والحجر.

والشاهد أن هزيمة 1967 لم تنل من خط العروبة جرّاء ثقل وطأتها والتهام إزالة آثارها كل فكر وجهد، لا سيما وعرب الطوق هم أيضاً في حالة اشتباك مع المحتل تبرّئهم من مظنة التنائي عن الكنانة. عبر كل تلك المراحل، ووصولاً الى يوم الرحيل، كان جمال عبدالناصر - شخصاً وفكراً وحكماً - هو الضمانة الأكيدة لعروبة مصر... ولا أحد سواه.

صحيح أن بعضاً من كادره كان قومياً عربياً بقناعة المؤمن إلا أن الأشيع كان رهط كبير ممن يتعاملون مع النهج بوظيفية المنفذ.

فاقم من تأثير الفرد أن تساوق المجتمع المصري مع مقولات إعلامه يقترب في شدته مع ذلك الأميركي... ولهذا صلةٌ بمركزية دور الدولة في حياته ومايترتب عليها من صدقية مكينة لحاكمها. وهو ما يفسر كيف استطاع إعلام أنور صبّ الدماغ الجمعي المصري في قالب ان «السلام» هو الحل، وأن التخفف من أثقال العروبة هو الطريق الى الرخاء، وأن الولايات المتحدة هي مناط الرجاء. قالبٌ استمر في فعله وتأثيره بوتائر مختلفة عبر عقود أربع، وكان أوضح تجلياته تفارق الشعور الجمعي المصري عن باقي العرب عند نوازل ثلاث نزلت بالأمة:

1ــ زيارة أنور السادات للكنيست، عبوراً بكامب ديفيد، ووصولاً لتوقيع الصلح المنفرد. لن يغيب عن الذاكرة مشهد المليون محتفي بأنور عائداً من الكنيست - 1977، ولا قبله مشهد المليون مرحب بنيكسون - 1974.

2ــ احتشاد قوات «الناتو» في الجزيرة تمهيداً للحرب على العراق، بتعلّة اجتياحه الكويت – 1990 (شارك المصريين في موقفهم الخليجيون، فيما باقي الأمة كانت على المقلب الآخر).

3ــ حرب غزة 2008 - 2009 حيث اصطفت غالبية المصريين عموماً مع حسني مبارك في تواطئه مع إسرائيل على القطاع.

والحاصل ان تبايناً شعورياً بهذا القدر يشي بهشاشة عروة العروبة في حاضر الأيام على وجه العموم، وتضاؤلها لحد الضمور الشديد مصرياً على وجه الخصوص. حالٌ يملي على كل صاحب رأي أو فكر اعتباره تهديداً وجودياً لا للأمة ككل وانما لكلٍ من شعوبها، بل ولكل فرد من كل شعب منها مسؤولية تتضاعف عند المصري لقدر ما الحاجة أكبر والنقص أفدح. لا تستطيع مصر بناء تقدم منعزل حتى بإيرادات قناة السويس، وبمدخول 2 بليون متر مكعب احتياط غاز، وبموارد السياحة، بل حتى لو استعادت مالها المنهوب بكمّ 300 بليون دولار. لا مندوحة لها من التكامل عربياً في الشرق والغرب. ثم أن اتكالها على القرن الافريقي لتأمين حصة وافرة من مياه النيل يفرض ان تكون قوية بعروبتها، ناهيك عن ان إخراج أنور لمصر من الشام – حيث الصراع فيه وعليه مع صهيون – أودى بها الى دولة من درجة الترسو، لا دولة المقصورة كما تخايلت زمانَ عبدالناصر.

من يتابع الاعلام المصري في السنة الأخيرة، يؤخذ بكمّ الجهل والكراهية والسمّية الذي يفرزه على حواس المشاهد تجاه عرب آخرين، وبالتحديد الفلسطيني والسوري، مسوغاً ومفلسفاً قراراً مجرماً بإغلاق معبر رفح، ومختلقاً له معاذير تنفع في الضحك على أطفال في سن الحضانة، من مثلِ مخاطر «التوسع الفلسطيني شمال سيناء».

وأسوأ ما في الهوجة المنحطة للإعلام المملوك خليجياً في مصر هو تلبيسه طاقية نبذ الإخوان على رأس شعب بأسره، هو الفلسطيني في غزة، وشيطنته حدّ تصويره بالداهمِ خطره على أمن الوادي وبنيه: إسفافٌ يعكس أي درك وصلته أحوال مصر، ويقلّب جثمان الجبرتي في لحده. لا تحتاج مصر أن تتسول من حكام الخليج، ولا أن تجعل من جيشها قوة ارتزاق لهم حامية، ولا ان تتبنى نظريات أمن اقليمي مفتعلة تضعها في وجه غيرها من قوىً لصالح من يملك المال الحرام، ولا أن تبقى في ظلال الناتو في قليل أو كثير، ولا ان تحارب في سيناء لصالح عدوها بدلَ تأكيد سيادتها عليها... وهو الذي بذاته يزيل أسباب التمرد فيها.

هي تحتاج أن تستعيد ملامح الفترة – الطفرة من ماضيها القريب: 1955 - 1970 عندما تبنت نهج الاستقلال الوطني والتوحيد القومي ومقاومة الاستعمار والعدل الاجتماعي والتنمية المخططة، في قراءة عصرية تخلص بالدروس المستفادة وتتكيف مع متغيرات العصر. وإلا لا تكون مصر ذات صلة.

* كاتب عربي

المصدر: الأخبار