الاحتفائيون العرب: تدليك تشومسكي بالنقد "اللوَّام"

الاحتفائيون العرب: تدليك تشومسكي بالنقد "اللوَّام"

اعتقدت، وسأواصل الاعتقاد، منذ انتصار الجزائر وهزيمة فرنسا وانتصار عدن وهزيمة بريطانيا، وانتصار حرب اكتوبر 1973 وصمود الجيشين المصري والسوري، رغم تواطؤ راس المال الكمبرادوري المصري، وبعدَ صمود مخيم جنين، والمقاومة العراقية (عابرة الطوائف-رغم كل شيىء) وانتصار حزب الله الناصع عام 2000 وانتصاره عام 2006، وصمود مقاتلي غزة 2008-2009 و 20012 رغم مخاطر دور قطر، اعتقدت وسأواصل الاعتقاد بأن بوسعنا مقاومة جيوشهم، فلماذا نجبن عن مجابهة وصد خطابهم صدّاً وضدَّاً.

صحيح أننا لم نفرز بعد قوة تصدي فكري بقدر المهمة التي نواجهها، والقوة الفكرية ليس شرطا بإنتاج فلاسفة ومفكرين، وهناك فلاسفة ومفكرون، فلا يخلو الوطن العربي من قامات فكرية هامة ومتميزة رغم ما تعرضت له من قمع وتشريد. ولست هنا بصدد التعداد. ولكن ما اقصده جرأة ووضوح الموقف والتصدي للمركزانية الفكرية تحديداً.

ما يهمني هنا هو معالجة مسألة تقع ما بين صعود المقاومة بالسلاح وتضعضع المقاومة بالكلمة وموقف الكلمة كلغة ومعنى وسياسة! أو عدم ارتقاء قامة الفكر بما يوازي ويقوي مقاومة الطلقة! وكنت كتبت في كلمة بعنوان” حرب غُوار الثقافة” قدمتها في تكريم بيت الشعر لمثقفين وكنت أحدهم: يختفي مقاتل الغوار خلف سلاحه ويتمترس المثقف خلف وعيه.

لماذا لا ترتقي الكلمة إلى ذكاء الطلقة ومباشرتها؟ ليس جديدا أن الكلاب وحدها التي تخشى رائحة البارود، هذا ما أفادتنا به كلاب القرى. فحينما تصمت فجأة عن العواء والتعاوي المجاني نعرف أن دورية من مشاة الاحتلال على مشارف القرية.

 

تشومسكي صهيوني وليس أيقونة

 

لاحظت في السنوات الأخيرة ان كثرة من المثقفين والأكاديميين العرب قد اكتشفوا نوحام تشومسكي، طبعا بعد اربعين سنة من اكتشاف حتى بسطاء المثقفين في العالم له. ولاحظت احتفائهم به فوق العادة وفوق ما تستحق مواقفه وخاصة من القضية الفلسطينية مما يرغمك على استنشاق رائحة استجداء الاعتراف الذي لن يأتي، ولا قيمة له حتى لو أتى!

مثقفو الاحتفاء العرب “الاحتفائيون” حًفاة من الكرامة عُراة من الانتماء. هم انفسهم الذين حينما يذكرون هيجل لا يذكروا للقارىء بأنه مؤسس العنصرية الألمانية، وبأن مارتن هيدجر داعية نازية، وبان ميشيل فوكو لم يتحدث عن الاستعمار الذي نحر الأمة العربية ومختلف بلدان المحيط، وبأن ديريدا يدعوا شعوب المستعمرات لشطب مآىسيها واحتجاز تطورها ومن ثم التسامح، وبأن أرسطو وقف مع الأحرار ضد المستعبدين…الخ والقائمة تطول. كل هؤلاء مفكرين كبار لا شك، ولكن مثقفينا خلقوا منهم آلهة تعلو على النقد مما يؤسس لتبعية فكر وخطاب. أليست هذه انتماءات وحتى اختيارات عبودية حقة رغم  الجرائم الفكرية الواضحة لهؤلاء، بينما سقطة واحدة ل ماركس (عن الاستعمار البريطاني في الهند) وُضعت في غير مكانها، تمتلىء بها أفواه “معلمي” الجامعات العربية حتى وهم في مضاجع الأحلام بأن الرجل مركزاني أوروبي ومستشرق!.

ناحوم تشومسكي لا يخفي أنه يهودي/ صهيوني من نوع خاص ، وبأنه عاش في الكيبوتسات، وبأنه مع بقاء دولة لليهود خالصة لهم، وهو ضد دولة مشتركة مع الفلسطينيين…الخ.

ومع ذلك يقوم مثقفون عرب بلوي أعناق اقواله بل كتاباته التي هي شديدة الإلتواء ليجعلوا منها كلاماً مستقيماً مقبولا في محاولات تصحيح “ذيل الكلب”. وحتى حين ينقدونه فذلك بارتعاش (انظر مقالة سماح إدريس أدناه). ولست أدري، وأود أن أدري لماذا!

ناحوم تشومسكي مثل مختلف المثقفين المركزانيين الغربيين لا يخفون مواقفهم  ولا يخجلون من عنصريتهم، فما الذي يرغم مثقفينا على شطف مقولات هؤلاء وهي وسخة وخاصة ضدنا؟ ماذا غير استدخال الهزيمة وماذا غير قرار بتدنيس وعي أجيالنا القادمة؟ اليست هذه كولونيالية فكرية، أليس هذا تذويت التبعية وإستعادة هيمنة الخطاب التي تشكل التمهيد الطبيعي والضروري لاستعادة بل استدعاء الاستعمار حتى بشكله العسكري؟

 

نشرنا في مجلة كنعان في العدد 119 تشرين أول 2004 مقالة نقدية ل نوح كوهين والكاتب واضح من هو من إسمه، بعنوان “اعتذاريات اليسار” تفند  مواقف ناحوم تشومسكي من الصراع العربي الصهيوني ترجمناها عن الموقع الذي نشرت فيه وهو :

Axis of Logic. Noah Cohen, “Noam Chomsky and ‘Left’ Apologetics for Injustice in Palestine”, August  23 >http://www.axisoflogic.com/artman/publish/article_11169.shtm12004,

 

ومقالة نوح كوهين هي رد على أقوال تشومسكي في مقابلة أجراها معه جستين بدور و ستيفن شالوم :

Noam Chomsky interviewed by Justin Pdour and Stephen Shalom. March. 3, 2004: http://www.zmag.org/content/showarticle.cfm?ItemID=5240

 

وخلاصة ما قاله تشومسكي:

 

إن الدعوة لدولة ديمقراطية علمانية لم تؤخذ بشكل جدي من قبل الراي العام الإسرائيلي والعالمي ، وهو مطلب واضح بتدمير إسرائيل… وهو أمر لم يؤخذ على محمل الجد من قبل الجمهور الإسرائيلي… ليس هناك تأييد دولي  لحق العودة يمكن تلمسه… إن اتفاقية جنيف مطابقة الى حد كبير للمواصفات ، ولذا يمكن القبول بها برأيي…إذا ما قرر رئيس الوزراء تطبيق مبادرة جنيف، فلا بد أن يذهب عميقا في التاريخ لتأكيد ان دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، بالاتفاق. وقد يكون هذا  حتى أكثر أهمية من إعلان الدولة عام 1948 “.

 

لست أدري إن كان سماح إدريس كاتب هذه المقالة في الأخبار قد سمع بمواقف تشومسكي من قبل أم لا، ومنها المقابلة التي اقتطفنا بعضها اعلاه، ولن نقول بأن ما تنشره كنعان يصل كل العالم، ولكن على من يكتب في القضية الفلسطينية ويطرح مواقف وحلول أن يكون متابعا، وإن لم يحصل، فها قد عرضنا له بعضا من مواقف الرجل. فهو ضد حق العودة ! فهل أوضح!!!

ومع ذلك، فإن ما تناوله إدريس من اقوال تشومسكي يستحق نقدا حاداً وشديداً حتى لو عزلناه عن اقواله السابقة، بل إن اقواله وقحة ضد حق شعبنا في التحرير والعودة.

 

يقول إدريس:

 

“…لكنّه يبدو مثابراً على الإيمان بفكرة «الدولتين». صحيح أنّه أقرب فكريّاً إلى «الدولة الواحدة» على امتداد فلسطين الانتدابية، أو ما يدعوه «الدولة الثنائية القومية»، بل هو أقرب إلى «اللادولة» كما يقول، استناداً ربما إلى فكره الفوضوي التحرري العريق المعادي لكلّ سلطة، غير أنّ ذلك لن يكون في رأيه تصوراً عمليّاً وعادلاً في الوقت نفسه”.

 

ما هذا النقد الغزلي!!! أين هذا من موقف النقد الثوري فما بالك بموقف المثقف الثوري النقدي المشتبك؟ فالمسألة هنا ليست محض فكرية، مثلا أن تكون ماركسيا ام أنارخياً،  هي دفاع عن وطن في وجه من يقف إلى جانب الكيان الاستيطاني العنصري الأبيض. لن نسأل هنا إن كان إدريس يقف على أرضية ماركسية، تختلف بشدة مع سرعة انطلاق الأنارخية باتجاه اللادولة واللاعملة فوراً. ولكن تشومسكي ضد دولة واحدة، ضد اي نمط من دولة واحدة بيننا وبينهم لنا ولهم على أرضنا وليست أرضهم كما اقتطفنا أعلاه. ربما لم يقل هذا تشومسكي في الجامعة الأميركية في زيارته التكريمية هذه، ربما نسي قول هذا، أو خشي أن يُفاجأ بطلبة غُواريين في تلك الجامعة كالذين طردوا القنصل البريطاني من جامعة بيرزيت بينما الإدارة “والمعلمون” يتحسرون على سيدهم وإلى جانبهم أربعة أنواع من المخابرات تتربص بالطلبة.  ولكن حتى ما قاله تشومسكي مع مذيعة التلفاز الصهيوني هو تأكيد لموقفه المضاد لحق شعبنا:

المذيعة: ومن ناحية أخرى، أنت أكثر المتكلمين انتقادا لإسرائيل ودعوةً لتقويض وجودها

تشومسكي: هذا غير صحيح إطلاقا. أنا لا أعد نفسي معاديا لإسرائيل، بل أنا داعم لها.

فقد كان موقفي أن لإسرائيل كل الحقوق التي تتمتع بها الدول، لا أكثر ولا أقل، لكن إسرائيل تطلب المزيد، ولا أقبل ذلك”.

لن نستدعي هنا ما قاله لينين للبوند (الجناح اليهودي في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي)  في بدايات القرن العشرين، بأن : “لا يحق لليهود إقامة دولة على أرض ليست لهم”. فكيف يقبل العربي اللبناني قول تشومسكي: “إن لإسرائيل كل الحقوق التي تتمتع بها الدول”. حين قبل السادات بهذا أُغتيل! ولكن الثورة المضادة ثأرت للسادات بأن حولت من اغتالوه إلى ملاين السادات عبر نفس قوى الدين السياسي  التي تحكم مصر اليوم وتحمي سفارة الكيان الصهيوني الأشكنازي وتغلق سفارة سوريا. هذا هو الشغل يا رئيس تحرير الآداب التي كما يبدو تتأدب كثيرا على يديك بعد الراحل الطيب ابيك.

 

يضيف إدريس:

وفي الإطار نفسه، إطار العملانية والعدالة، رفض تشومسكي الكفاح الفلسطيني المسلح، وانتقد بعض جوانب مقاطعة إسرائيل. وجاء رفضه وانتقاده بشكل يفتقر، أحياناً، إلى الأسس المقنعة والموضوعية في رأيي المتواضع”.

 

ولست ادري ما معنى هذا النقد المؤدب جداً. ومتى؟ في لحظة من التاريخ صار الكفاح المسلح تاجها وصولجانها!  ثم هل الكيان مُقام على أرض فلسطين بالياسمين والبنفسج! لو كان طلبة الجامعة الأميركية عربا حقيقيين لطردوا هذا الصهيوني المتعالي إلى المطار فوراً، كما فعل طلبة بير زيت في جوسبان قبل عشر سنوات حينما هاجم حزب الله، وطردوا السفير البريطاني قبل شهرين. أما نقد إدريس الناعم فلا شك يُبعده فراسخاً عن دور وموقف المثقف المشتبك. خطورة النقد الناعم “النقد اللوَّام” أنه يخصي الجيل الجديد.

إن تشومسكي مخلص لصهيونيته ويهوديته وموقفه حين يرفض حتى المقاطعة الأكاديمية للكيان الصهيوني. ويرفض حتى  أل “بي.دي.سي” وهي المقاطعة التي لنعومتها تكاد تكون غزلا عذرياً. وهذا أساس الشيء اللافت والمؤسي مجسداً في أن كل ما قدَّر الله إدريس عليه أن يقول:

أما في مسالة المقاطعة، فموقف تشومسكي مربك (بكسر الباء) قليلاً. في شباط 2003، أعلن رفضه للمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل”.

 

موقف مربك للسيد إدريس، لكنه تشومسكي ليس مرتبكا في موقفه الكولونيالي بامتياز، ليس مرتبكاً لأنه صهيوني متعالٍ يعرف ما يريد ويصفع عرب الجامعة الأميركية مواجهة حتى وهي تكرمه ولا شك أن كثيرا من “المعلمين” العرب هناك صافحوه وبالغوا في تقبيل وجهه المجعد منذ شغله اليدوي في حفر اساسات الكيبوتسات! موقف مطابق لمصافحة وزراء الخارجية العرب وأمين عام الجامعة العربية لجون كيري وهو يهنئهم على تقديم أجزاء جديدة من أرض فلسطين للكيان الصهيوني!

أخيراً، يقدم السيد إدريس نفسه كعضو أو شريك في أل ” بي.دي.سي” والتي على نعومتها يرفضها تشومسكي، فكيف لا يرفع السلاح على الكفاح المسلح!. هذه المنظمة الناعمة لا تجرؤ على قول كلمة واحدة خارج نطاق  رفض التطبيع الأكاديمي. ولذها تحديداً يتم احتضانها والعزف على مؤخرتها من الإعلام الأكاديمي البرجوازي الغربي.  ومع ذلك، فأحد مؤسسيها السيد عمر برغوثي تقدم للدراسة في جامعة حيفا!  وبعد هجمة هائلة وفضيحة تراجع. أختم لأقول لك، في ندوة عن الدولة الواحدة في قاعة بلدية البيرة قبل 4 سنوات، بينما كنت اقدم مداخلة، قفز السيد عمر برغوثي ليقول: “أنا ضد الكفاح المسلح”. ضحكت وقلت له: أنا لم افتح مكتب تجنيد، ولو فعلت لن أدعوك! كان الرجل يرسل رسائل لمن سيوبخه لأنه جلس في مكان لم يلعن أحد الحضور فيه الكفاح المسلح. بقي أن يعرف كل الناس، أن مفهوم والموقف من التطبيع في الأرض المحتلة مختلط كالموقف من سوريا، فمن يثرثرون ضد التطبيع هم الغارقون فيه.

 

وعود إلى الخطاب. لماذا يتذيل خطاب الكثيرين منا لخطابهم العنصري والمتعالي والمعادي؟ تصوروا مثلاً، لو وقف القائد المصري البطل سعد الدين الشاذلي وامتدح شارون، أو لو وقف سيد المقاومة، وقدم تفسيرا يسوِّغ تسليح أوباما لآكلي الأكباد! ماذا سيقبى منهما!

آخر تعديل على الأحد, 19 كانون2/يناير 2014 18:12