السودان إلى أين؟
د .أيمن شبانة د .أيمن شبانة

السودان إلى أين؟

 على الرغم من أن الاهتمام بالشأن السياسي ليس من تقاليد الطبقات الكادحة، إلا أن الوضع صار جد مختلفاً في السودان، حيث أصبح الحديث عن مصير نظام الإنقاذ الوطني ومستقبل الدولة قاسماً مشتركاً في أحاديث البسطاء من الناس . بل إنه أضحى موضوعاً خصباً لتندرات العرافين، بعد أن باتت السودان على رأس قائمة البلاد المرشحة للانضمام إلى قطار الربيع العربي .

السودان يعيش الآن فوق صفيح ساخن، بعد اتساع نطاق التوترات السياسة والانفلات الأمني ليشمل جميع ربوع الوطن، في ظل الاستقطاب الحاد في المواقف بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والمعارضة السياسة والمسلحة، وهو الاستقطاب الذي أرخى سدوله المظلمة على الأوضاع في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وكذا في دارفور والجبهة الشرقية وأبيي وغيرها، كما أدى لاستمرار التدهور الاقتصادي في البلاد، والحصار الخارجي لها . 
ففي ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، تواصل القتال إثر فشل المفاوضات بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية- قطاع الشمال، بعد جولتها الخامسة في أديس أبابا، حيث أخفق طرفا التفاوض في الوصول إلى توافق بشأن وقف العدائيات، وفتح ممرات الإغاثة الإنسانية . وازداد الموقف سوءاً بعد الحكم بالإعدام على القياديين بالحركة الشعبية مالك عقار وياسر عرمان، الأمر الذي ربما ينذر بالوصول إلى نقطة اللاعودة من الجانبين . 
وفي دارفور، استمر العنف القبلي في ولايات الإقليم الثلاث، وتعرض والي شمال دارفور لمحاولة اغتيال فاشلة، وتصاعدت حدة المواجهات بين الحكومة والحركات المسلحة، خاصة العدل والمساواة، وحركة تحرير السودان- جناح منى أركو مناوي، ما أدى إلى نزوح قرابة خمسين ألف مواطن هرباً من ويلات القتال، وسط أداء هزيل لبعثة (يوناميد) في دارفور . وفي أبيي، قضى الكثيرون نحبهم إثر استمرار المواجهات بين المسيرية والدينكا نقوك، في ظل عدم قدرة قوات حفظ السلام الإثيوبية على إيقافها، وعدم إنفاذ مبادرة أهل الله لوقف النزاعات القبلية في البلاد . 
وفي الشرق، تصاعد التوتر مجدداً، نظراً لعدم تنفيذ كثير من بنود اتفاق أسمرة للسلام، لذا تم إسناد قيادة جبهة الشرق إلى سليمان أونور، بدلاً من القيادة السابقة، التي اتهمت بالتخاذل والمولاة لنظام الإنقاذ . 
وعلى الصعيد الاقتصادي، لا تزال آثار انفصال الجنوب تخيم على البلاد . إذ تجاوزت الديون الخارجية 40 مليار دولار، وبلغ التضخم نحو 45% . وارتفعت معدلات البطالة بشكل غير مسبوق . وأصبحت أزمات الوقود، ونقص السلع مشهداً مألوفاً في الحياة اليومية للسودانيين، من دون أن تلوح في الأفق بادرة أمل للفكاك من براثن الأزمة، مع استمرار وقف صادرات نفط الجنوب عبر ميناء بورتسودان، وإصرار الولايات المتحدة على إنفاذ العقوبات الاقتصادية ضد السودان، وإيقاف الولايات المتحدة والسعودية وبعض البنوك الأوروبية تعاملاتها مع مصرف السودان المركزي، بعد أن أضحت السودان هي الدولة الثالثة بين قائمة الدول التي يعمها الفساد السياسي والاقتصادي . ويزداد الأمر سوءاً في ظل عزلة الرئيس البشير، والإصرار على توقيفه من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وتوتر العلاقات بين نظام الإنقاذ والغرب، خاصة الولايات المتحدة، التي تواصل الضغط على النظام السوداني عبر إدانة انتهاكاته لحقوق الإنسان، والمطالبة بإيجاد بديل لمنبر الدوحة لأجل تسوية الصراع في دارفور، فضلاً عن سقوط نظام الإخوان المسلمين في مصر، وتوتر العلاقات بين دول الخليج العربية ونظام الإنقاذ، بسبب تمسكه بالعلاقات مع إيران، ما أربك حسابات البشير الذي كان يرى في إخوان مصر ودول الخليج سنداً قوياً لنظامه المتداعي . 
في هذا السياق، أصبحت سفينة نظام الإنقاذ على وشك الغرق، فقفز منها البعض بدعوى الإصلاح، وفي مقدمتهم القيادي غازي صلاح الدين، ليكونوا تنظيمات جديدة مثل حركة الإصلاح الآن والحركة الوطنية للتغيير . كما تخفف البشير من الحمل الثقيل للبعض الآخر، وعلى رأسهم نائبه الأول علي عثمان طه، ومساعده د .نافع علي نافع بعد أن استنفدوا خدماتهم . 
هنا سعى المؤتمر الوطني للتقارب مع قوى المعارضة وتهدئة الجماهير الساخطة، عبر الدعوة إلى الحوار الوطني، والخطابات المفعمة بالوعود البراقة، وعقد اللقاءات مع قادة المعارضة، وفي مقدمتهم الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة القومي، ومحمد عثمان الميرغني، زعيم الحزب الاتحادي، وهي اللقاءات التي توجت بلقاء الغريمين البشير والترابي "أصدقاء الأمس" يوم 14 مارس الماضي، بعد أن كان مجرد التفكير في عقد مثل هذا اللقاء مستحيلاً . 
في المقابل، يرفع معظم قوى المعارضة السياسية والمسلحة شعار إسقاط النظام، باعتبار أن الأزمة الراهنة هي نتاج تراكم سياساته الفاشلة، مؤكدة أن هذا النظام- الذي لا يجيد سوى لغة القمع والرصاص- لا يزال يصر على ممارسة هوايته المعهودة في المناورة وكسب الوقت، بهدف قطع الطريق أمام التغيير الجذري . 
فخطاب البشير في قاعة الصداقة في 27 يناير الماضي، الذي تحدث فيه عن السلام والأمن والديمقراطية، نقضه البشير ذاته في خطابه الذي ألقاه مؤخراً في بورتسودان، عندما تحدث عن لاءاته الأربعة: لا حكومة قومية، لا فترة انتقالية، لا تأجيل للانتخابات، ولا تفكيك لدولة المؤتمر الوطني . وهو ما تأكد مع قمع النظام تظاهرات الطلاب في جامعة الخرطوم، عندما خرجوا للتظاهر ضد استمرار نزيف الدم في دارفور . لذا تتمسك المعارضة بميثاق (الفجر الجديد)، الذي يتضمن استخدام جميع الوسائل السلمية والمسلحة للإطاحة بالنظام، مع تطبيق برنامجها بشأن (البديل الديمقراطي)، الذي يتضمن حلاً شاملاً يقوم على إزاحة نظام الإنقاذ، وبدء فترة انتقالية لمراجعة الدستور، وفتح حوار وطني شامل لا يستثني أحداً، ومعالجة تحديات السلام والأمن والديمقراطية، والإصلاح الاقتصادي، وإدارة الهوية والتنوع .
وما بين محاولات البشير المستميتة للإبقاء على نظامه، عبر الإصلاحات التدريجية، وطموحات المعارضة في التغيير الشامل، يثور التساؤل حول مستقبل نظام الإنقاذ، أو بالأحرى مستقبل الدولة في السودان . وفي هذا السياق يمكن طرح بعض السيناريوهات التي تدور حول استمرار نظام الإنقاذ، أو الإطاحة به عبر انتفاضة شعبية، مدعومة من القوات المسلحة، مثلما حدث عام 1985 . 
السيناريو الأول، يرى قدرة نظام الإنقاذ على تجاوز محنته الحالية . نظراً لانقسام المعارضة، وعدم اتفاقها على آليات محددة للإطاحة بالنظام، سواء في إطار الجبهة الثورية أو تحالف الإجماع الوطني، الذي تلقى ضربة قوية بانسحاب حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي منه، واتجاههما مع أحزاب أخرى للتقارب مع النظام، بالموافقة على الحوار، والإصلاح التدريجي، ولعل في اللقاءات التي جمعت البشير وقيادات المعارضة ما يؤكد ذلك . 
في هذا الإطار، يمكن لنظام الإنقاذ أن يستمر تحت قيادة البشير، الذي أحكم قبضته على الحركة الإسلامية، إذا ما قرر خوض الانتخابات الرئاسية في إبريل 2015 . فإذا انسحب البشير من السباق الرئاسي، لضغوط سياسية أو لأسباب صحية، فمن المرجح أن يخلفه نائبه الأول الفريق بكري حسن صالح، رفيق كفاحه السابق في سلاح المظلات، والقيادي الوحيد الباقي من بين أعضاء مجلس قيادة الإنقاذ، الذي جاء إلى السلطة في يونيو ،1989 حيث يوفر ذلك للبشير خروجاً آمناً، يطوي معه ملفات الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، وكذا يضمن عدم تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية . بيد أن هذا السيناريو يظل مؤقتاً، ولا يمكن أن يدوم طويلاً في ظل السياسات الراهنة لنظام الإنقاذ، وهو ما يعني أن تحققه واستمراره يظل مرهوناً بقدرة النظام على الحفاظ على شبكة الولاء الإثني، وتماسك مؤسسات الدولة، خاصة الجيش، واختراق صفوف المعارضة وتقسيمها، مع إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية، تكفل قدراً من الحريات السياسية، وتسمح للمعارضة بالمشاركة في السلطة، وتؤدي إلى تسوية عادلة للصراعات الأمنية في البلاد، بما يحافظ على وحدة أراضيها .
أما السيناريو الثاني، فيتمثل في الإطاحة بنظام الإنقاذ . وهو أمر متوقع في ظل الإحباطات التي أصابت قطاعات عريضة من الشعب والقوى السياسية والمجتمع المدني، حيث يرى هؤلاء أن النظام يتشبث بالبقاء، بدليل تواصله مجدداً مع المؤتمر الشعبي، بعد أن استنفد جميع الفرص التي أتيحت له للبقاء في السلطة، خاصة بعد التصدعات التي أصابت جسد الحزب الحاكم، وتخلي أبرز حلفاء البشير عنه، وعدم وجود برنامج واضح المعالم للإصلاح السياسي والاقتصادي، وتعثر الوصول إلى تسويات سياسية لصراعات جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، وعدم حسم القضايا العالقة مع جنوب السودان، خاصة بعد صراع السلطة الدائر حالياً في الجنوب . 
وفي حال حدوث هذا السيناريو، فمن المتوقع أن يتحول الصراع بين النظام والمعارضة إلى صراع داخل أجنحة المعارضة ذاتها، حيث لا يبدو أن المعارضين يملكون أجندة حقيقية لمواجهة استحقاقات وتحديات ما بعد الإنقاذ، الأمر الذي قد يؤدي إلى نوع من فراغ السلطة، ربما ينذر بمزيد من تفكك الدولة السودانية . وفي حال حدوث ذلك، فسوف يتحول السودان إلى بؤرة صراعية جديدة، يتجاوز خطرها السودان ذاتها إلى دول الجوار أيضاً . فهل ينجح نظام الإنقاذ في تغيير سياساته ومواقفه، بحثاً عن حل سياسي شامل من خلاله، وبالتعاون مع المعارضة، أم يستمر في التلكؤ، حتى يفاجأ بانقضاض المعارضة على السلطة، على نحو ما حدث في دول الربيع العربي؟

*نائب مدير مركز الدراسات السودانية جامعة القاهرة