العلاقات الأوراسية وكسر الهيمنة القطبية
آدم غاري آدم غاري

العلاقات الأوراسية وكسر الهيمنة القطبية

ثمة تغيرات إستراتيجية تجري على صعيد العلاقات الدولية اليوم، فبينما يتراجع منطق القطب الواحد المهيمن الذي ساد في الحقبة الماضية، هنالك نموذج جديد يصعد قائم على التعاون وعلى منطق «ربح– ربح»، وتترسخ هذه الرؤية يوماً بعد يوم وعلى أصعدة عديدة، وفي هذا المقال نستعرض انعكاس هذا المنطق على العلاقات الصينية مع كلٍّ من الاتحاد الأوروبي، ومع دول جنوب شرق آسيا.

تعريب: عروة درويش

عندما يتعلق الأمر بحروب ترامب الجيوسياسية الكلامية، وبعيداً عن فنزويلا وإيران، فإنّ معظم غضبه البلاغي يُصَب على الصين والاتحاد الأوروبي. لكن وفي حين أنّ الولايات المتحدة قد أقامت علاقات رسمية مع جمهورية الصين الشعبية في عام 1979، فإنّ صانعي السياسات الأمريكية قد دافعوا عن الوحدة الأوروبية منذ أربعينيات القرن العشرين، لتصبح الولايات المتحدة منذ ذلك الحين داعمة لكلٍ من الدول الأوروبية منفردة وللاتحاد الأوروبي ككل.
الاستقواء على أوروبا
لقد تغيّر الكثير من ذلك في ظلّ قيادة دونالد ترامب. ففي حين أنّ ترامب قد دعم بشكل لفظي حكومة الانفصال في تايبيه الصينية، فقد ألقى بالكثير من الشكوك حول الدعم الذي كان يتم بشكل آلي فيما مضى للاتحاد الأوروبي. إنّ أفضل أصدقاء ترامب في أوروبا هم المشككون بأوروبا، وقبيل انتخابه للرئاسة عام 2016، فقد أيّد ترامب بشكل علني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
كما أنّه يستمر باتهام الصين «بالعبث» بالولايات المتحدة في الصفقات التجارية، وبأنّها قد «استغلّت حماقة» الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه، ويتهم الصين بشكل مثير للغرابة بأنّها «تعيش بحالة جيدة». ومع ذلك فلا يزال الرئيس ترامب يشير إلى الرئيس الصيني تشي جين بينغ بأنّه صديقه. على العكس من ذلك تربطه بامرأة ألمانيا القوية أنجيلا ميركل علاقة باردة مثيلة لعلاقات باردة مع معظم الأشخاص المهمين في بروكسل.
قال ترامب في تموز هذا العام التالي عن الاتحاد الأوروبي: «الاتحاد الأوربي ربّما سيء بقدر الصين، لكن فقط أصغر». وقد عرض منذ وقت قريب نقداً أعنف لأوروبا. فعندما تلقّى سؤالاً حول تحالف أمريكا التقليدي مع الاتحاد الأوروبي قال: «أيّ حليف هذا؟ إنّ لدينا علاقات رائعة مع الكثيرين، لكن لا أحد يعاملنا أسوأ من الاتحاد الأوروبي. فقد تمّ تشكيل الاتحاد الأوروبي ليستغلنا في التجارة، وهذا ما فعله». وعندما اتهمه المحاور بأنّ ردّه عدائي قال: «هذه ليست عدائية. أتعرف ما هي العدائية؟ إنّها الطريقة التي يعاملوننا بها. لقد لعبنا دور الدولة الغبية لسنوات».
الصين أم أوروبا، أيّهم يكرهه ترامب أكثر؟
لا تزال الصين شريكاً تجارياً مع الولايات المتحدة أهم من الاتحاد الأوروبي، رغم أنّ الاتحاد الأوروبي والصين يديران فوائض تجارية مع الولايات المتحدة. في حين أنّ ترامب ليس راضياً بشكل واضح من إدارة أيّ عجز تجاري مع أيّة دولة أو أيّة سوق، فهو لا يزال يبدو متفائلاً أكثر بخصوص الصين، وقد يكون الأمر عائداً لأنّ مجتمع الأعمال الأمريكي مهتمٌ بإبقاء باب التجارة مفتوحاً مع الصين وليس مع أوروبا.
ففي حين أنّ مجتمع الأعمال الأمريكي قد كان صامتاً حيال خطاب ترامب مع أوروبا مع شعور الأعمال الأمريكية بالمرارة بخصوص نموذج التجارة المعزول للاتحاد الأوروبي، فعندما يتعلق الأمر بالصين فقد تمّ الردّ على ترامب بالفعل وبشكل علني من قبل لاعبين رئيسين في القطّاع الخاص الأمريكي. وفي حين أنّ الصين تستمر بفتح أسواقها لواردات جديدة، فإنّ حرب ترامب التجارية قد منعت شركات الولايات المتحدة من استغلال الدخول السهل إلى أكبر سوق وطنيّة في العالم من حيث تعادل القوّة الشرائية.
علاوة على ذلك، ففي حين أنّ الشركات الأمريكية التي تصنّع البضائع في الاتحاد الأوروبي تقوم بذلك عموماً فقط في مجال البضائع المخصصة للاتحاد الأوروبي، فإنّ الشركات الأمريكية التي تنتج في الصين تنتج البضائع لصالح التصدير العالمي، ويتضمن ذلك الصادرات العائدة إلى الولايات المتحدة. وعليه فإنّ الكثير من الشركات قد جاهرت بخوفها من أنّ عدائية ترامب تجاه الصين قد تؤثر على هذه العلاقة بشكل سلبي.
فلم يقتصر الأمر على استمرار غرفة التجارة الأمريكية في معارضة حرب ترامب التجارية مع الصين، بل تُظهر الأحداث الأخيرة أن شركات التقانة الأمريكية العملاقة ليست متحمسة بالمرّة للاشتراك في نظريات المؤامرة المناهضة للصين التي تتضمن ادعاءات كرتونية بتخريب قام به جيش التحرير الشعبي الصيني. علاوة على ذلك فإنّ شركات النقل الجوية الأمريكية «دلتا» و«ينايتد» والخطوط الجوية الأمريكية قد تحدّت جميعها واشنطن عندما عصرنت إشاراتها ورموزها للرحلات المتجهة إلى تايبيه من أجل موائمة الرموز والإشارات الصينية بشكل دقيق. وفيما يتخطى الولايات المتحدة، فإنّ شركات غربية أخرى ترى بأنّ العلاقات الجيدة مع الصين هي أمرٌ أساسي للأعمال.
لابدّ وأنّ ترامب على علم بهذه الأفعال رغم ميله لإغفالها حين يسوّق لحربه التجارية مع الصين أمام جمهوره. لكن وعلى المستوى الشخصي، فعندما يتعلق الأمر بالعداء فإنّ ترامب يعادي الاتحاد الأوروبي بشكل يفوق بكثير الصين.
ففي حين أنّ ترامب يميل للحديث عن الصين بوصفها منافس يحترمه في مستويات معينة، فإنّ خطابه ومشاعره الشخصية حول الاتحاد الأوروبي لا تتعدى الازدراء. وليس ذلك فقط بسبب العجز التجاري، بل لأنّ الاتحاد الأوروبي يعدّ آخر معقل لليبرالية العالمية حيث قام ترامب بتغيير موقع الولايات المتحدة بشكل جذري فيما يخص الإيديولوجيا الليبرالية.
تستمر أوروبا بمقاومة أمريكا
لكنّها لا تفعل ذلك مع الصين
إنّها حقيقة واقعة أنّ الاتحاد الأوروبي قد قام في خضمّ حرب ترامب التجارية بزيادة مصالحه في الصين على عدّة مستويات، وتحديداً على مستوى التجارة. وفي الوقت ذاته لا يزال العديد من صانعي السياسة الأوروبية مستمرين بالتشبث بنظرة ضيقة الأفق حول التجارة الحرة، مما يعيق بروكسل من الاندفاع نحو إبرام اتفاقيات تجارة حرة أو شبه حرة مع الصين «مثل تلك التي وقعها الاتحاد الأوروبي مؤخراً مع اليابان بعد فترة مفاوضات طويلة».
يمكن لجبهة موحدة بين اتحاد أوروبي يتبنى التجارة الحرة مع الصين، وبين صين تتطلع لفتح أسواقها لكثير من المنتجين الأجانب بما فيهم الأوروبيون، أن تمثل أيضاً حِصناً إيجابياً هاماً في المعركة العالمية بين التجارة الحرة من جهة والقطب الواحد من جهة أخرى. لكن وبسبب إخفاق الاتحاد الأوروبي في تنويع وتنشيط وعصرنة الكثير من آفاقه الاقتصادية، فإنّ الصين لا تزال تملك خيارات عالمية أكثر بكثير عند البحث عن شركاء تجاريين خارج الولايات المتحدة.
إنّ حقيقة الأمر هي أنّه رغم كون العمل بقرب أكثر مع الصين سيعطي الاتحاد الأوروبي نفوذاً أكبر مع واشنطن في خضمّ حرب ترامب التجارية المناهضة للأوروبيين، فإنّ الحماس لتنفيذ إستراتيجية «ربح- ربح» هذه لا يزال ضعيفاً في أوروبا. ولهذا السبب فإنّ أوروبا تضيّع فرصة ذهبية على أعمالها وعلى مستهلكيها.
وبهذا المعنى فقد منح التشكك الأوروبي الدائم، وبشكل مثير للسخرية، الصين نفوذاً أقوى في الحرب التجارية الدائرة، فالمسؤولون الصينيون يخبرون واشنطن الآن بأنّه في حال عدم حلّ الحرب التجارية عمّا قريب، فإنّه سيتم استبدال «الكاديلاك» في الشوارع الصينية بآليات «مرسيدس»، وبأنّ المنتجات الزراعية الأوروبية قد تستبدل المنتجات التي كانت تستوردها الصين بشكل كبير من الولايات المتحدة قبل الحرب التجارية. في واقع الأمر يمكن للصين أن تكسب أكثر من الانفتاح التجاري على الولايات المتحدة أو على الاتحاد الأوربي أو على كليهما سوياً. هذا ما سيحدث في أيّ سيناريو قادم على المدى الطويل.
جنوب شرق آسيا يعمق علاقاته مع الصين
من جهة أخرى وعلى صعيد العلاقات الصينية مع دول رابطة دول جنوب شرق آسيا «آسيان»، فإن التعاون آخذ بالنمو على عدة أصعدة.
فبعد التمرينات الإستراتيجية العسكرية الناجحة هذا الصيف بين جيش التحرير الشعبي الصيني وعدّة قوات مسلحة من «آسيان»، ستقوم الصين هذا الشهر هي وأعضاء الرابطة الرئيسيون، ماليزيا وتايلاند، بإجراء تمارين عسكرية مشتركة في المياه والأراضي الماليزية بهدف تعميق التعاون ضدّ تهديد القرصنة والإرهاب وتهريب المخدرات. يشكّل هذا التطوّر خطوة إيجابية بشكل مذهل ضمن إطار تعميق التعاون بين دول الرابطة والصين.
تمّ إنشاء «رابطة دول جنوب شرق آسيا» أساساً عام 1967 من قبل إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند. كان الهدف من إنشاء المجموعة الإشارة إلى حقبة جديدة من العلاقات الإيجابية بين إندونيسيا وماليزيا، وتحديداً بعد المواجهة في جزيرة بورنيو/كاليمنتان، التي حدثت بين عامي 1963 و1967. السمة الأخرى للرابطة حين تأسيسها أنّ جميع الدول كانت إمّا شريكة قديمة أو جديدة للولايات المتحدة «وللعالم الرأسمالي» الأوسع.
لقد تغيّرت روح الرابطة منذ التسعينيات عندما انضمت الدول الشيوعية: فيتنام ولاوس وكمبوديا إلى مجموعة الدول هذه مع ميانمار المعزولة بشكل تقليدي. اليوم تمثّل المجموعة واحدة من أكثر الأجزاء الديناميكية اقتصادياً في العالم، فهيكلية الرابطة تهدف لتعزيز التجارة الحرة الداخلية بين أعضائها في الوقت ذاته الذي لدى عدد من أعضائها اتفاقات تجارة حرة مع عدد من الدول، مثل: الصين وكوريا الجنوبية واليابان والهند ونيوزلندا وأستراليا. تبقى الرابطة كذلك مناهضة لانتشار الأسلحة النووية وللهيمنة الداخلية فهي مرتكزة على بنية متساوية حيث لا تستطيع دولة واحدة أن تسيطر على أيّة دولة أخرى.
تعاون آسيوي متكامل 
منذ الثمانينيات أصبحت الصين شريكاً اقتصادياً رئيساً لعدد من دول الرابطة، ولاتزال الصين اليوم أكبر شريك تجاري للرابطة ككل. تعمل الصين كذلك مع شركائها في الرابطة من أجل بناء شراكات مستدامة طويلة الأجل في سياق «مبادرة الحزام والطريق» التي ستشهد الرابطة مرور الطرق السريعة فيها للتجارة والتبادل ما بين القارات.
ولا يشمل التعاون مجرّد الاستثمارات والتجارة المتزايدة والتبادل الثقافي والأبحاث الطبية والعلمية المشتركة، فإنّه أيضاً يشتمل على التعاون الأمني. تواجه الصين وشركائها في الرابطة العديد من التهديدات الأمنية الإقليمية المتماثلة سواء أكانت الإرهاب أو القرصنة قرب مضائق ملقة أو تجارة المخدرات. إنّها التهديدات العابرة للدول التي يجب على كلّ دولة من شرقي وجنوبي آسيا أن تواجهها بطريقة أو بأخرى، ولذلك من المهم أن تعمل القوى العسكرية الصينية الكبيرة عن قرب مع جميع أعضاء الرابطة.
وهذا هو السبب الذي يجعل من التدريبات العسكرية المشتركة الصينية- التايلاندية- الماليزية القادمة حاسمة فيما يتعلق بالمساعدة على إنشاء نموذج مستدام للأمن المشترك في منطقة ذات ترابط عميق من العالم.
عصر حل المشاكل بالحوار
كجزء من الصيغة الحالية «3+X» للتعاون طويل الأجل بين الصين والرابطة، فإنّ الكثير من الأهداف الأساسية قد تمّ تحقيقها، ومن بينها الزيادة الكلية للتجارة بين دول الرابطة وبين الصين. كما تفوقت الصين مؤخراً على الولايات المتحدة بوصفها الوجهة الأولى للصادرات الفيتنامية. هذا مهم بشكل خاص حيث إنّ فيتنام كانت في السنوات الأخيرة أكثر أعضاء «الرابطة» خلافاً مع بكين، فالحقبة التالية هي عصر حلّ المشاكل بالاعتماد على الحوار. وبالمثل، فبعد أن كان رئيس الفلبين رودريغو دوتيرته هو الرائد في ذلك، فقد تبنت الرابطة بمجموع دولها مقاربة جديدة للنزاعات في بحر الصين الجنوبي، وهذه المقاربة تعطي الأولوية للشراكات الاقتصادية المتناغمة طويلة الأمد بين الرابطة والصين، بدلاً من العدائية في المناطق التي تشكّل الحدود البحرية بين الصين وشركائها في الرابطة.
وفي حين أنّه لا يزال هنالك بكل أسف انتهاكات استفزازية للسيادة البحرية الصينية من خلال محاولة الولايات المتحدة زرع الانقسام بين الصين وشركائها في الرابطة، فالواقع أنّ هذا العام قد حمل تباشير مرحلة جديدة من الحوار والتعاون بين دول الرابطة والصين بخصوص المخاوف في بحر الصين الجنوبي. فبعد أن قام الرئيس الفلبيني رودريغو دويترته بريادة عقد اتفاق «ربح- ربح» مع بكين لاستخراج الموارد من بحر الصين الجنوبي، فقد ساعدت الروح الذي صيغ فيها هذا الاتفاق الثنائي على تشكيل روح مُسّودة «قواعد التصرف» التي تم تبنيها هذا الصيف من قبل وزراء خارجية دول الرابطة في سنغافورة.
إنّ التفكير بأيّة صيغة عدوانية بين دول الرابطة والصين في القرن الحادي والعشرين تجري بشكل يناقض روح السلام العصرية التي تتبناها الرابطة بمجموعها، والتي تتسق مع الازدهار والروح الصينية القائمة على عدم التدخل وعلى التعاون بين الدول على مبدأ «ربح- ربح». وكلما أصبحت الشراكة بين الصين والرابطة بمجموعها أكثر شمولاً بخصوص جميع المجالات، كلّما صعب على المحرضين من كل الدول وغير الدول أن يلحقوا الضرر بهذه الشراكة الحيوية النافعة لجميع دول آسيا.
وبهذا المعنى، ففي حين أنّ التدريبات العسكرية الصينية-التايلاندية-الماليزية المشتركة تمثّل على المدى القصير وسيلة استباقية لمعالجة المشاكل الأمنية المشتركة، فهي على المدى الأطول خطوة أخرى في الاتجاه الإيجابي نحو علاقات «ربح- ربح» بين كلّ أجزاء الصين وكلّ أجزاء دول رابطة جنوب شرق آسيا.
بالنسبة لأوروبا فإنّ الإرباك السائد حول التعاون مع واشنطن، وعدم القدرة على التحرّك بشكل أفضل نحو اتفاقية تجارة حرة مع الصين، يستمر في خنق التطور الأوروبي في عصر يصبح فيه العالم مقسماً بين علاقات تجارية يربح فيها الجميع بريادة الصين، وبين علاقات أحادية القطب برعاية الولايات المتحدة. وفي حين أنّ الصين هي الاقتصاد الذي يملك أعلى معادل قوّة شرائية في العالم، فإنّ رابطة دول جنوب شرق آسيا تمثّل مجموعة اقتصادات متنوعة ونامية وديناميكية لدول ملتزمة بالسلام ولكل منها صلات تاريخية بالصين، ولهذا فمن الطبيعي أن يكون بين الصين ودول الرابطة المزيد من التعاون مبنياً على نموذج «ربح- ربح» في عصر التواصل العالمي المتنامي.

آخر تعديل على الأربعاء, 31 تموز/يوليو 2019 22:26