نحو تصور أوسع للرأسمالية وأزماتها
نانسي فريزر نانسي فريزر

نحو تصور أوسع للرأسمالية وأزماتها

(هذا المقال هو ترجمة بتصرّف لورقة قدمتها الكاتبة1 خلال حوارية عقدت في جامعة (CUNY) في نيويورك، شارك فيها أيضًا أستاذ الجغرافيا والأنثروبولوجيا ديفيد هارفي. تستند الورقة إلى كتاب لفريزر وراهيل ييغي سيصدر الصيف المقبل بعنوان «الرأسمالية: حوار في النظرية النقدية»).

إن عنوان هذه الفعالية، «الخروج عن السيطرة: مصير رأس المال والرأسمالية في القرن الحادي والعشرين»، هو تشخيصٌ مكثف وموحٍ بشدة لوضعنا الراهن. أرى في الجزء الأول من هذا العنوان إشارةً إلى أزمة، وأرى في الجزء الثاني منه تحديدًا لموضوع هذه الأزمة، أي الرأسمالية، أو بالأحرى، الشكل الحالي من الرأسمالية التي نعيشها في القرن الحادي والعشرين، أي الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة المُؤَموَلة2. لذا، أود بدايةً أن أوضح أنني على قناعة تامة بأن هنالك أزمة كهذه، وأنها بالفعل أزمة رأسمالية.

بالنسبة لي، فإن ما هو مهم هو كيف نفسر المفهومين الأساسيين اللذين يشكلان هذا العنوان، أي مفهوم الأزمة ومفهوم الرأسمالية. ما أود طرحه هو أن هنالك طريقتين على الأقل لتفسير مفهومي الأزمة والرأسمالية، إحداهما ضيقة بينما الأخرى واسعة. لذا، سأعرض هاتين الطريقتين، وأقدم حجتي في صالح الطريقة الثانية، التي سأسميها التصور الموسع للرأسمالية ولأزماتها. وسأطرح أن هذا التصور يساعدنا على توضيح أن «الأزمة الرأسمالية» هي بالفعل التوصيف الدقيق لوضعنا الحالي، كما أنه قد يساعدنا على تخيل ردٍ على هذه الأزمة بوسعه أن يضعنا على الطريق نحو بديل تحرري.

كثيرًا ما تُفهم الرأسمالية بشكل ضيق بصفتها نظامًا اقتصاديًا. ولا أقصد هنا من قبل الاقتصاديين البرجوازيين القادمين من المدارس [الليبرالية] الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة فحسب، فحتى بعض الماركسيين يتبنون أحد أشكال هذا التعريف الضيق بصورة أو بأخرى. بالطبع، صحيحٌ أنهم يتبعون ماركس في تجاوز المنظور البرجوازي [المحصور في] تبادل السلع في السوق إلى المستوى الأعمق المتمثل في إنتاج السلع، حيث ينكشف أن سر تراكم [رأس المال] هو الاستغلال الرأسمالي للعمال المأجورين الذين لا يتقاضون سوى الكلفة الضرورية اجتماعيًا لإعادة إنتاجهم هُم، فيما يذهب فائض القيمة الذي يولّده عملهم إلى الرأسماليين.

بالتالي، في هذا المنظور الماركسي التقليدي كما سأسميه، فإن عملية الاستغلال هذه هي القلب النابض للنظام الرأسمالي، وهي منبع القدرة «الغامضة» لرأس المال على ما يسمى بالتوسع الذاتي (إنه ليس ذاتيًا على الإطلاق). تقبع هذه القدرة بشكل أساسي في العلاقة بين طبقتين: الرأسماليون الذين يملكون وسائل الإنتاج في المجتمع ويستولون على فائض القيمة فيه، من جهة؛ والمنتجون «الأحرار» الذين لا ملكية لهم، المجبرون على بيع قوة عملهم بالتجزئة حتى يعيشوا، من جهة أخرى. الرأسمالية، في هذا المنظور، هي نظام للهيمنة الطبقية. لكن الهيمنة الطبقية في هذا التفسير هي، في جوهرها، علاقة تقع داخل الاقتصاد الرأسمالي وفي الخانة الاقتصادية المسماة «القيمة».

هذا المنظور الماركسي التقليدي يشكل تقدمًا مهولًا مقارنةً بالمنظور البائس الذي يقدمه العلماء الذين تطفح بهم أقسام الاقتصاد في الجامعات كلها تقريبًا (مع كون جامعتي استثناءً مرحبًا به). فالتحليل الذي يقدمه هذا المنظور الماركسي للاستغلال والهيمنة الطبقية في غاية الدقة في تحديد بعض أهم القوى التي تحرك التطورات في المجتمعات الرأسمالية، وأشدها حتمية، كما أنه يقدم موقفًا نقديًا حقًا تجاه هذه القوى، على عكس المؤدلجين [الكلاسيكيين] الذين لا يرون في هذه الأوضاع أي عيب. المنتسبون لهذا المنظور الماركسي يضعون استغلال الطبقة العاملة في لبّ هذا النظام الاقتصادي الرأسمالي، ولا يرونه نظامًا ظالمًا فحسب، بل نظامًا تلازمه الأزمات في جوهره كذلك. ووفق هذا المنظور، فإن نزوع الرأسمالية باتجاه التراكم اللامحدود عبر استغلال العمال المأجورين يؤدي مع الوقت إلى زيادة التركيب العضوي لرأس المال، ما يخلق ضغطًا يدفع معدل الربح للانخفاض، واشتدادًا في المنافسة، ويشجع التكهنات المالية، وكلها تطورات تقود بشكل دوري إلى أزمات اقتصادية. إنْ وضعنا جانبًا تفاصيل هذه الحجة المعقدة، يمكننا القول إن جذور الأزمة الرأسمالية في المنظور الماركسي التقليدي تكمن في نظام اقتصادي يستبطن حتميات متناقضة تتجلى بأشكال اقتصادية.

مرة أخرى، فإنني أسلّم بأن هذه التحليلات للرأسمالية وأزماتها مستبصرة بحق، وأن لها قيمة نقدية حقيقية في واقعنا الاجتماعي. لكنني رغم ذلك أجدها ضيقة؛ أضيق من أن تستطيع توضيح الأزمة الرأسمالية الحقيقية التي نعيشها اليوم. المشكلة هي أن هذا المنظور التقليدي يركز بشكل مفرط على عمليات وعلاقات اجتماعية مُنحت قيمةً في المجتمع الرأسمالي. سواء كنا نتحدث عن الإنتاج أو التوزيع أو إعادة التوزيع، فإن العلاقات التي تتضمنها تقع داخل المجال الذي يصنّفه المجتمع الرأسمالي نفسه كمجال اقتصادي، كما أن هذه العمليات تكتنف أنشطة يسبغ رأس المال نفسه عليها قيمةً.

إن هذا، في نظري، تصور محدود للرأسمالية، يجرّ معه تصورًا محدودًا للأزمات الرأسمالية. فهو يفرط في التركيز على التناقضات الداخلية للاقتصاد الرأسمالي. وفي هذا المنظور، ما يوّلد الأزمة هو ديناميكيات داخلية في النظام الاقتصادي الذي يحمل بحكم تكوينه نزوعًا نحو زعزعة استقرار ذاته. والتعبير الرئيسي عن الأزمة الرأسمالية هو تعبيرٌ اقتصادي كذلك: انهيار أسواق، وسلاسل من الإفلاسات، وانفجار فقاعات التكهنات، واندفاعات لسحب العملات من البنوك، وكسادات، وتعطيل للإنتاج على نطاق واسع، وانتشار للبطالة.

حتى يتبين لِمَ أسمّي هذا التصور ضيقًا، علينا أن نفكر في أنه يستبعد مساحة واسعة من العلاقات والعمليات الاجتماعية التي تصنّف رسميًا على أنها غير اقتصادية، رغم أنها توفر الشروط المسبقة التي لا غنى للاقتصاد الرأسمالي عنها. إنني أفكر هنا، على سبيل المثال، بالأنشطة غير المأجورة لإعادة الإنتاج الاجتماعي التي تضمن تَوفّر العمل للإنتاج الاقتصادي، وتخلق وتصون في الوقت ذاته الروابط الاجتماعية والتضامن وأشكال الثقة التي تستديم المجتمع الرأسمالي بصورة عامة. لا يمكن للاقتصاد الرأسمالي، حرفيًا، أن يشتغل دون هذه الأنشطة، رغم أنه لم يسبغ عليها، تاريخيًا، أي قيمة مادية، أو أسبغ عليها قيمة ضئيلة، وما يزال حتى اليوم لا يقابلها بالأجر.

الأمر ذاته ينطبق على أجهزة السلطة العامة: القانون، والشرطة، والمؤسسات التنظيمية، والصلاحيات التوجيهية، التي توفر النظام والقدرة على التنبؤ والبنى التحتية التي تتطلبها استدامة التراكم. هذه الشروط أيضًا لا غنى للتجارة الرأسمالية عنها، حتى وإن كان رأس المال على استعداد تام لاستنزافها إلى حد الهاوية كلما استطاع.

شرطٌ آخر مهم بالقدر ذاته للاقتصاد الرأسمالي هو التنظيم المستدام نسبيًا لتفاعلنا الحيوي مع بقية الطبيعة. هذا التنظيم يضمن توفر الإمدادات الأساسية من الطاقة والمواد الخام لإنتاج السلع، فضلًا عن الحفاظ على كوكب صالح للعيش وقادر على استدامة الحياة. بغياب هذا الشرط البيئي، فإن التراكم الرأسمالي سيضمحل.

من هنا، فإن ما أقصده بالتصور الموسع للرأسمالية هو التصور الذي يشمل في الآن ذاته هذه الشروط المسبقة والنظام الاقتصادي الذي تسنده. إن النقلة المفاهيمية المحورية التي أطرحها هنا تشابه تلك التي طرحها ماركس في المجلد الأول من رأس المال، إذ اعتبر الإنتاج الاستغلالي سردابًا مخفيًا تحت سطح تبادل السوق، وهناك يُخبأ السر القذر للاستغلال، الذي يتمثل، مرة أخرى، في أن العمال يتقاضون الكلفة الضرورية اجتماعيًا لإنتاجهم، لا أكثر. بالطريقة ذاتها، فإن التصور الموسع للرأسمالية يَعدّ إعادة الإنتاج الاجتماعي والسلطة العامة والطبيعة التاريخية سراديب إضافية لا تزال مخفية تحت سطح الإنتاج، وتخبئ سرًا أشد قذارة يتمثل في أن رأس المال يستغلها بلا عناء وبالمجان، مُصادرًا المدخلات الإنتاجية وشروط الإنتاج لأولئك الذين يعيدون الإنتاج بلا أجر، على عكس العمل، أو بأجور زهيدة للغاية. بالتالي، فإن هذا الشكل من المُصادرة يقبع تحت سطح الاستغلال ويجعله ممكنًا.

في هذا التصور الموسع، ليست الرأسمالية مجرد نظام اقتصادي، بل نظامًا اجتماعيًا ممأسسًا، على غرار الإقطاعية على سبيل المثال. ينبني هذا النظام على مجموعة محددة من التقسيمات المؤسسية: أولًا، الفصل بين الإنتاج الاقتصادي وإعادة الإنتاج الاجتماعي، الذي يماثل الفصل بين العمل المأجور الذي يمارسه الرجال بالدرجة الأولى، على الأقل تاريخيًا، والعمل غير المأجور الذي لا تزال النساء تمارسنه في الغالبية الساحقة من الحالات حتى اليوم. ثانيًا، الفصل بين الاقتصادي والسياسي، الذي يماثل الفصل بين السلطتين الخاصة والعامة، إلى جانب الفصل بين المركز والأطراف. وأخيرًا، الفصل بين المجتمع البشري والطبيعة غير البشرية، وهو فصلٌ وُجد قبل الرأسمالية بالطبع، لكنه اشتد وتكثف بسببها.

إنني أدعي أن أشكال الفصل المؤسسي هذه خاصة بالمجتمع الرأسمالي ومُؤسِّسة له. إنها مصكوكة في حمضه النووي، وعليه، فهي مشؤومة تاريخيًا، إن لم نقل فاسدة ببساطة. فالمجتمعات الرأسمالية تفصل اقتصاداتها عن الشروط التي لا غنى عنها لوجود هذه الاقتصادات، مُمكّنة إياها من إهمال هذه الشروط، ومن تدميرها أحيانًا. بالتالي، فإن الاقتصادات الرسمية في المجتمعات الرأسمالية تعتمد على عمليات وعلاقات اجتماعية تنكر [هذه المجتمعات] قيمتها. هذه العلاقة الغريبة من الفصل والاعتماد والإنكار هي، في اعتقادي، منبع داخلي للأزمات أو القلقلات المحتملة. فمن جهة، لا يمكن للتراكم الرأسمالي استدامة نفسه، بل هو يعتمد على إعادة الإنتاج الاجتماعي، والسلطة العامة، والطبيعة التاريخية بأشكالها المختلفة. ومن جهة أخرى، فإن نزوعه نحو التراكم اللامحدود يهدد بزعزعة استقرار العمليات والقدرات نفسها التي يحتاجها رأس المال، فضلًا عن حاجتنا جميعًا لها. ومع الوقت، قد يؤدي ذلك إلى المخاطرة بالشروط المسبقة للاقتصاد الرأسمالي. بكلمات أخرى، فإن المجتمع الرأسمالي مفطورٌ على أكل ذيله.

إننا نتحدث هنا لا عن أزمة اقتصادية فحسب، بل عن أزمات اجتماعية وسياسية وبيئية كذلك. في التصور الموسع للرأسمالية، ليست هذه الاختلالات «غير الاقتصادية» مصادفة، بل هي متجذرة في التناقضات الكامنة في عمق بنية المجتمع الرأسمالي، تمامًا مثل الاختلالات الاقتصادية التي تم تأطيرها نظريًا في التصور الضيق. إلا أن التناقضات، في هذه الحالة، لا تقع داخل الاقتصاد الرأسمالي، بل على الحدود التي تفصل وتربط في آن واحد الإنتاج بإعادة الإنتاج، والاقتصاد بالحكم، والمجتمع البشري بالطبيعة غير البشرية. هذه التناقضات لا تكمن داخل الاقتصاد ولا داخل أي مجال اجتماعي، بل بين العناصر المُؤسِّسة للمجتمع. أرى هذه التناقضات أحيانًا بوصفها ميولًا للأزمات بالمعنى البولانيّ3، أكثر منها ميولًا للأزمات بالمعنى الماركسي، لكن هذه الطريقة في التفكير مفيدة فقط إن كنا مدركين أن هذين المعنيين ليسا بديلين عن بعضهما، وأن كلا المصدرين للأزمات ضروريان في هذا التصور الموسع للرأسمالية. لذا، فإن كارليْن أفضل من كارل واحد.

باعتقادي، لهذا التصور الموسع عدة مزايا. فبابتعاده عن الاقتصادوية4، يعيد هذا التصور الاعتبار للتدهور البيئي والتفكك الاجتماعي ونزع الدمقرطة، بوصفها تعبيراتٍ غير عَرَضية عن تناقضات عميقة، من حيث هي بحد ذاتها أبعادٌ جذرية للأزمة الرأسمالية، لا مجرد ظواهر فوقية تعكس اختلالات اقتصادية «حقيقية». فلأن الرأسمالية تفصل إنتاج السلع المبني على العمل المأجور عن إعادة الإنتاج الاجتماعي المبنية في الغالب على عمل النساء غير المأجور، ولأنها تجعل الأول يعتمد على الثاني منكرةً في الوقت ذاته قيمة الثاني، فإنها تزعزع بصورة دورية استقرار إعادة الإنتاج الاجتماعي. وعلى امتداد تاريخ الرأسمالية، شهدنا اندلاعًا متكررًا لأزمات في مجال إعادة الإنتاج الاجتماعي ومحاولات متكررة لإعادة هيكلة الرأسمالية بصورة تبدد تأثير هذه الأزمات وتحد منها، إن لم نقل تتغلب عليها بالكامل.

بالطريقة ذاتها، تفصل الرأسمالية بين الاقتصادي والسياسي رغم أنها تجعل الأول يستفيد من الثاني بالمجان. فبصورة دورية، نرى الرأسمالية تفرغ السلطات العامة من معناها؛ هذه السلطات نفسها التي تؤمّن إمكانية الاستيلاء الخاص على فائض القيمة. وبصورة دورية أيضًا، نرى على امتداد تاريخ الرأسمالية أزمات سياسية هائلة، سواء على المستوى الوطني، أم على المستوى الدولي، بما يشمل الصراعات ضد الإمبريالية والحكم الاستعماري. هذا جزء لا يتجزأ من تاريخ الرأسمالية وهو الدافع وراء محاولات متكررة لإعادة تشكيل الرأسمالية بطريقة تؤهلها للتعامل مع البعد السياسي من أزمتها.

أخيرًا، فإن كل ما ذكر آنفًا ينطبق كذلك على حقيقة أن الحتمية الرأسمالية المُمأسسة المتمثلة في [السعي نحو] التراكم اللامحدود تتساوق مع «اختراعها» للطبيعة بوصفها «الآخر» بالنسبة للبشرية، من أجل ضمان تسخير الطبيعة وتفكيكها، على نحو يؤدي بصورة دورية إلى إعطابها. هنا أيضًا نرى على امتداد تاريخ الرأسمالية تفشيًا لأزمات بيئية تدفع الرأسمالية نحو البحث عن طبيعة جديدة، وإعادة تنظيم علاقتها بالطبيعة.

دعوني أقل إن لا شيء مما قلته ينقض ماركس أو سردية الأزمة الاقتصادية التي يرويها الماركسيون. وجود التناقضات البينية التي ناقشتها لا يدحض بأي شكل فكرة أن النظام الاقتصادي الفرعي للرأسمالية يكتنف أيضًا تناقضات داخلية. هذه الفكرة توضح جانبًا هامًا من هذا النظام المهدد بكسادات اقتصادية متكررة وأزمات مالية. إلا أن ما يفعله هذا التصور الموسع هو إعادة موضعة التصور الضيق داخل إطار أرحب، بطريقة تشبه كيف أعاد آينشتاين موضعة [نظريات] نيوتن (حسنًا، لقد بدا هذا متحذلقًا بعض الشيء).

على أية حال، فإن هذا التصور الموسع يوضح لِمَ تظل الصراعات الاجتماعية تظهر مرارًا كصراعاتٍ على الطبيعة وإعادة الإنتاج الاجتماعي والإمبريالية والديمقراطية، فضلًا عن العمل والديون وقضايا اقتصادية أخرى. إن هذا التصور يدعونا لفهم هذه الصراعات بوصفها صراعات حدودية، أي صراعات تتعلق بوجود وموقع وطبيعة الحدود التي تفصل الاقتصاد عن الحكم، والإنتاج عن إعادة الإنتاج، والمجتمع عن الطبيعة غير البشرية. هذه الحدود تمثل خطوط الفصل المؤسسي الذي ذكرته سابقًا، لكنها ليست مرسومة بشكل ثابت للأبد. فعلى العكس، كثيرًا ما تمكن الفاعلون الاجتماعيون والحركات الاجتماعية من تعبئة الناس إزاء هذه الحدود، ساعين لإعادة موضعتها أو لمقاومتها أو للدفاع عنها، خاصةً في أوقات الأزمات، وفي بعض الأحيان، نجحوا بالفعل في إعادة رسمها. فالديمقراطية الاجتماعية، على سبيل المثال، نجحت بشكل بارز في إعادة رسم بعد هذه الحدود.

إن الصراعات الدائرة حول موقع وضرورة وكيفية رسم الحدود بين الأسواق والدول، والعائلات والمصانع، والمجتمعات والطبيعة، هي صراعات جوهرية بالنسبة للمجتمع الرأسمالي، ومتجذرة بعمق في بنيته المؤسسية، تمامًا كما هي النزاعات حول معدلات الاستغلال أو إعادة توزيع فائض القيمة. الأمثلة الحالية على ذلك تشمل الصراعات على المياه النظيفة، والإسكان، وحقوق الصيد، ورعاية الأطفال، إلى جانب مسائل أخرى عديدة. هذه الصراعات، التي تتعدى إشكالات التوزيع الاقتصادي أو تنظيم العمل، هي صراعات على قواعد الحياة الرأسمالية. وعلى عكس ما تراه الماركسية الاقتصادوية -التي قد تكون ماركسية ماركس وقد لا تكون- فإن هذه التناقضات ليست ثانوية، ولا تعبيرات عن ظواهر فوقية تعكس واقعًا اقتصاديًا. لكن، مجددًا، من الخطأ أن نرى هذه الصراعات الحدودية كبديل للصراعات الطبقية، فهذه الأخيرة لا تزال بالفعل تستوطن قلب المجتمعات الرأسمالية، ومن الحماقة التخلي عن هذه الفكرة لمجرد أن جبهات القتال العمالي باتت اليوم في غوانزو [الصينية]، لا في مانشستر أو ديترويت. هنا أيضًا، لحسن الحظ، ما من عائق أمام دمج المنظور الضيق للصراع الرأسمالي بالمنظور الموسع، فهما مكملان لبعضهما، لا متعاكسان.

للمنظور الموسع ميزة أخيرة. فهو يتيح الفرصة لدمج النظرية الماركسية بأفضل أفكار المدارس النسوية وما بعد الاستعمارية ونظرية العرق النقدية والبيئية السياسية. إذ يمكّننا هذا التصور من توظيف جميع هذه الموارد، إلى جانب الأفكار الماركسية، في نقدٍ لأشكال الأزمة البنيوية والصراعات الاجتماعية التي نشهدها اليوم في هذه الحقبة المُؤمْولة من الرأسمالية.

إن لهذه الأزمة وجوهًا عدة، وخيوطًا ليست اقتصادية فحسب، بل بيئية وسياسية واجتماعية أيضًا، ولا يمكن فهمها على نحو ملائم بأدوات نظرية نقدية اقتصادوية. إلا أن هذه الخيوط المتعددة التي تغزل الصراعات الراهنة لا تؤلّف مجموعًا متناثرًا، بل هي، على النقيض، مترابطةٌ وتنبع من جذر واحد. فجميعها تعود للبنية العميقة للرأسمالية المعاصرة.

على النظرية النقدية للأزمة المعاصرة أن تكون نظرية في الرأسمالية، وبشكل أخص، في الرأسمالية المُؤمْولة. لكن عليها أيضًا أن تكون نظرية تجتنب أي مسحة من الاقتصادوية الإنتاجية. وبدلًا من فهم الرأسمالية على نحو ضيق بصفتها نظامًا اقتصاديًا، على هذه النظرية أن تفهمها على نحو واسع بصفتها نظامًا اجتماعيًا مُمأسسًا. وحده هذا الفهم الموسع قادر على مجابهة أزمةٍ متعددة الأبعاد، ومتجذرة في تشكيل اجتماعي واحد محدد في الوقت ذاته.

 هوامش

1- نانسي فريزر ناقدة نسوية وأستاذة في العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة «ذا نيو سكول» في نيويورك.

2- من أمْوَلة، أي تعظيم اعتماد الاقتصاد على القطاع المالي (financialization).

3- نسبة لكارل بولاني (1886-1964)، وهو عالم اقتصاد مجري، كتب في الأنثروبولوجيا والتاريخ الاقتصاديين، والاقتصاد السياسي، والفلسفة والتاريخ الاجتماعيين.

4- أي النزعة التي تُبدّي التحليل الاقتصادي على أي تحليل آخر بوصفه الأشد علمية ومادية.

 

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الأحد, 19 أيار 2019 22:39