التدمير الممنهج للطبيعة

التدمير الممنهج للطبيعة

«لقد أذهلوني بأطنان القطن والكاكاو التي يتمّ تصديرها، وبمساحات الأرض التي زرعت بأشجار الزيتون وبكروم العنب. أتكلم هنا عن الاقتصادات الطبيعية التي تمّ تمزيقها، أي الاقتصادات الحيوية والمتناغمة والمتكيفة مع السكان المحليين، وعن المحاصيل الزراعية التي تمّ تدميرها، وعن أنظمة التغذية السيئة التي تمّ إدخالها، وعن التطوير الزراعي الموجه فقط ناحية نفع الدول ذات الحواضر الكبرى. أتكلم هنا عن سلب المنتجات، وعن سلب المواد الخام» - آيمي سيزير: محاضرة حول الكولونيالية-الاستعمارية.

تعريب: عروة درويش

وصف آيمي في محاضرته المذكورة كيفيّة تسهيل الاستعماريّة تدمير كامل المجتمعات التي كانت قبل وصولها إليها تقدّم طرقاً عن التعايش جنباً إلى جنب مع الطبيعة، وكيف خلقت عالماً جديداً. أظهر كيف ركزت الاستعماريّة على ما يتمّ إنتاجه دون إيلاء أيّ اهتمام لعمليّة الإنتاج، وأخفت الفقر وقدمت سوء التغذية وكيف اتبعت سياسة إزاحة وتدمير البيئة الضروريتين من أجل زيادة صادرات المواد الخام.

كان يتمّ تبرير المساعي الاستعماريّة الواسعة والبعيدة عبر وصفها بأنّها جهد «لتحضير Civilize» الأمم البربريّة، وكانت تحمل الهدف الأبعد باستبدال النماذج المحلية من الزراعة والصناعة والطبخ، من بين بقيّة الأشياء، بالنموذج الغربي المفضّل، وذلك من أجل تسهيل نموّ الأسواق للبضائع الغربيّة. ولأجل تشجيع هذه النقلة، تمّ إظهار المعارف المحليّة بأنّها غير دقيقة وناقصة ولا يمكن الاعتماد عليها. وأنّه بالإمكان حلّ هذه الثغرات في المعارف الأصليّة عن طريق اعتماد الأساليب والعلوم الغربية.

يعني تأليه هذه النماذج العلمية بأنّ يتمّ النظر إلى النماذج البديلة التي تعتمد على التقاليد والمعرفة المحلية ليس بوصفها ممارسات مكملة، بل كمنافس للنماذج العلميّة الموجودة. من الحريّ بنا أن ننظر إلى العلم كواحد من عدّة نماذج للوقوف على الحقائق حول الطبيعة وعلاقتنا ببعضنا البعض. يخفي التبني غير النقدي للمعرفة العلميّة وراءه كيف يقوم الحافز الربحي والاستعماري غالباً بالتأثير على مصداقيّة مثل هذه المكتشفات. وعندما يؤدي إيلاء الأولوية للنماذج العلمية والغربية إلى منع المجتمعات المحليّة من السيطرة على أرضها وغذائها، فهذا يؤدي لحرمانهم من تقرير المصير ومن الحيويّة الثقافيّة.

أصل «علم الأحراج»

يتناول جيمس سكوت في كتاب «أن ترى مثل دولة» قضيّة دراسيّة مذهلة عن أصل علم الأحراج في القرن الثامن عشر، وهو الأمر المتصل بنا اليوم لكونه أصبح الأساس لتقنيات إدارة الأحراج في أوروبا وفي الولايات المتحدة وعبر الجنوب العالمي. يصف سكوت وجهة نظر الدول الأوربيّة المبكرة عن الأحراج بأنّها كانت أولاً وقبل كلّ شيء مصدراً لتوليد الربح من الأخشاب. وأنّ الدول باستخدامها لمثل هذا المنظور الضيّق الأفق قامت بتجاهل أيّ اعتبارات أخرى في إدارة الأحراج: مثل الأشجار والأكمّة والنباتات التي لا يمكن بيعها تجارياً على شكل علف أو فاكهة أو غراس أو جذور ...الخ. كان يهدف علم الأحراج إلى «تقديم أكبر قدر ثابت ممكن من الأخشاب».

ومن أجل هذه الغاية، قام العلماء بحساب وقياس عينات من قطع الأشجار بعناية، وخرجوا بحسابات دقيقة لأحجام الأشجار وأعمارها في ظلّ ظروف نموّ طبيعية. أظهر سكوت بأنّ الدول استخدمت علم الأحراج والهندسة من أجل تحويل الغابات الحيّة القديمة المتنوعة إلى أحراج جديدة أكثر تماثلاً. وفي سبيل الوصول إلى الأحراج النموذجيّة علمياً، تمّت إزالة الشجيرات الدغليّة، وتم تقليص عدد الأنواع، وتمّ اعتماد الصفوف المستقيمة في الزراعة على مساحات كبيرة. تمّ النظر إلى الأحراج الألمانيّة بنموذجها الأصلي بوصفها نصراً للسيطرة والإدارة العلميّة، وأصبح علم الحراج الألماني هو المعيار في نهاية القرن التاسع عشر.

بأي حال، وخلال قرن من تبني نموذج الغابات الجديد، أصبحت العواقب البيولوجية والتجارية السلبيّة على الغابات المخدّرة جليّة. فالجيل الثاني من الصنوبريات قد تراجعت من حيث النوعيّة، ممّا خلق خسارة واضحة في الأخشاب المتاحة للبيع. وعند فحص أسباب هذا التراجع في الحراج، يتضح لنا بأنّ الجيل الأول من الأشجار قد ازدهر بشكل لا يصدق على حساب التربة الغنيّة التي نمت فيها الغابات القديمة التي حلّ محلها. وفي أثناء السعي نحو غابات منظمة وقابلة للإدارة وتسرّ النظر، مزقت هذه التجربة الألمانيّة عمليّة بناء التربة المعقدة، وامتصاص المغذيات، والنظام البيئي المترابط للفطريات والحشرات والثدييات والنباتات.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني

آخر تعديل على الأحد, 12 أيار 2019 23:32