السرطان يدمر حامله: انقسام الطبقة المهيمنة
فاروق تشاودهوري فاروق تشاودهوري

السرطان يدمر حامله: انقسام الطبقة المهيمنة

كتب المؤلف والمحلل غزير الإنتاج فاروق تشاودهوري مقالاً طويلاً شاملاً ومليئاً بالأمثلة، يحلل فيه انقسام الطبقة الرأسمالية المهيمنة على نفسها، متخذاً من التنابذ الشديد بين الإعلام الأمريكي السائد من جهة ومؤسسة الحكم وعلى رأسها ترامب من جهة ثانية، منطلقاً لتحليله. وسنورد تالياً أبرز ما جاء في المقال مع بعض الإعداد الذي لا يمس جوهره بشيء.

تعريب وإعداد: عروة درويش

قال الرئيس الأمريكي ترامب مؤخراً عن الصحيفة البرجوازية اليومية فائقة الشهرة مؤخراً بأنّها: «العدو الحقيقي للشعب». وقد افترض الجميع بأنّ الدفاع لذلك هو المقال الذي نشر في الصحيفة قبل يوم من التصريح يتحدث عن حرب يشنها ترامب منذ عامين على التحقيق الخاص به. لكن الرئيس الأمريكي يهاجم باستمرار منصات وسائل الإعلام السائد ويقول بأنّها تبث أخبار مزيفة. وبأنّ الصحافيين لا يتكبدون حتّى عناء الاتصال بالبيت الأبيض للتحقق من ادعاءاتهم. وهو الأمر الذي ينكره الصحافيون، مثلما فعلت الصحفية من نيويورك تايمز ماغي هيبرمان والتي قالت بأنّهم يرسلون عدّة رسائل إلكترونية للبيت الأبيض ولوزارة العدل ولكنّهم لا يتلقون جواباً.

  • وقح وأوقح:

ويمضي الصحافيون في إنكار تعليقات ترامب أبعد من ذلك حتّى. فكما قالت ماغي هيبرمان عن ترامب: «إنّها كذبة، وأنا لا أعلم إن كان يكذب أم أنّه مقتنع بأنّه يخبر نفسه بالحقيقة وإن كان طاقمه لا يخبره بأننا حاولنا التحقق. لكنني لا أصدق بأنّ طاقمه لا يخبرونه بمختصر عن مثل هذه التقارير».

أن تقول بأنّ أحدهم يكذب ليست كلمات جميلة بحقّ أي شخص، فما بالك وأنت تتحدث عن رأس الدولة؟ إنّها النوع من الكلمات التي لا يمكن تخيلها تحصل عادة ضمن المعايير الطبيعية للمؤسسات البرجوازية.

وليست مسألة النيويورك تايمز فريدة من نوعها، فقد حصل ذلك بين ترامب والبي بي سي. وكذلك بين ترامب والواشنطن بوست، وكذلك بينه وبين الهوفنغتن بوست والسي-ان-ان وغيرها من وسائل الإعلام البرجوازية الشهيرة. تصل هذه الحوادث إلى الآلاف وليس المئات فقط.

لطالما كان هناك انقسام داخل نظام الحكم في الولايات المتحدة، لكن أن تطفو المشاحنات بمثل هذه الوقاحة إلى السطح ليس بالأمر الشائع الحدوث بل النادر. وتأخذ المسألة منحى تصعيدياً أكبر إذا ما نظرنا مثلاً إلى شهادة مايكل كوهين، محامي ترامب في الفترة ما بين 2006 و2018 أمام الهفنغتون بوست على سبيل المثال. حيث قال بأنّ ترامب «عنصري» و «محتال» و «مخادع». ومايكل كوهن هو الذي قال قبل التصريحات المتتالية التي هاجم ترامب فيها، أمام لجنة التحقيق في مجلس النواب: «أدرك بأنّ البعض منكم قد يشكك ويهاجم مصداقيتي... قد أكذب، ولكنني لست كاذباً. لقد قمت بأشياء سيئة، لكنني لست شخصاً سيئاً».

حتّى أنّ كوهن علّق على ما كان يعتبره النظام الأمريكي عملاً «مقدساً»، وهو المشاركة في حرب فيتنام. حيث اتهم ترامب بالتهرّب كذباً لدواعٍ صحية من الخدمة، وبأنّه أخبره أن يكون ضبابياً عندما يستفسر منه أحد على سجله الطبي الذي ادعى بأنّه «مزور».

  • مشهد ساخر ومنقلبون كثر:

وقد سبقت شهادة كوهن حوادث ليست بأقلّ سخرية ضمن هذا المشهد. فقد نشر النائب الجمهوري مات غيتز تغريدة على تويتر وهو يهدد كوهن بقوله له إن كانت زوجته وحماه يعرفان عن عشيقته. ثمّ قام غيتز فيما بعد بالاعتذار ومسح التغريدة وأعلن بأنّه اختار كلماته بدون عناية وأنّها فهمت خطأ على أنّها تهديد. لكن قبل أن يفعل ذلك قام ريتشارد بينتر المدعي المسؤول عن الحفاظ على الأخلاقيات في إدارة جورج بوش بالدعوة عبر تويتر إلى اعتقال عضو الكونغرس غيتز لكونه يحاول تهديد شاهد على جريمة فدرالية.

وحتّى مؤيدو ترامب القدامى الأعتى منهم من انقلب عليه. مثل آن كولتر التي هاجمت إعلانه حالة الطوارئ وسمته: «احتيال على أغبى الناس في قاعدته» وقال بأنّ ترامب: «كسول وغير كفؤ... ومخبول... وبأنّه قد يجد التحدي في 2020 من اليمين... وبأنّه كان يستطيع أن يوجه أمراً لوزارة الدفاع ووزارة الداخلية لبدء إنشار الجدار دون الحاجة لإعلان حالة الطوارئ». أو مثل شون هانيتي الذي قال بأنّ اتفاق الكونغرس بشأن أمن الحدود هو: «مساومة نفاية»، ولورا غرام التي قالت بأنّه: «مثير للشفقة»، ولو دوبس الذي قال بأنّه: «إهانة للشعب الأمريكي».

أو الفايننشال تايمز التي أعلنت في تقريرٍ لها: «تصريحات السيد ترامب هي دليل على أنّه في صراع مفتوح مع جميع مؤسسات الحكومة الأمريكية، من المخابرات إلى وزارة الداخلية إلى بقية قطاعات الخدمة المدنية...».

  • سيرك الصراع الداخلي:

إنّ هذا استعراض للصراع الداخلي يتبدى في الصيغ الوقحة واللغة التي تؤثر على الآلة الحاكمة.

إنّ وسائل الإعلام السائد هي جزء من النظام الحاكم، ورأس المال المهيمن هو من يملك وسائل الإعلام السائد. هذه الوسائل لا تملك لا الحرية ولا القوة ولا الحرية والسلطة لتذهب أبعد من الحدود التي وضعها رأس المال الذي يملكها. وهذه الوسائل تخدم في جوهرها رأس المال المهيمن بغض النظر عن علاقاته بفصيل أو بآخر. ولهذا فإنّ ما تقوله وسائل الإعلام هذه مرتبط بشكل أساسي برأس المال المهيمن. إنّ الأشخاص الذين يظهرون على الساحة لا دور شخصي لهم ولا خيار شخصي لهم أكثر من مغادرة القلعة إن هم لم يريدوا الائتمار بأمر حاكمها.

ولهذا فإنّ اتهامات الرئيس، وهو جزء من المنظومة المهيمنة، على وسائل الإعلام السائدة، وهي بدورها جزء أساسي في خدمة وتأمين النظام المهيمن ذاته، يعلن بأنّ هناك انفصال وانفكاك في مكان ما. ليس هذا الأمر عدم نضج من النظام حيث أنّ النظام بأكمله مفرط في النضج، ولكنّ هذا الانفصال أو الانفكاك أو تضارب المصالح لم يجد له بعد ما يصلحه.

وعليه فإنّ هذا الخصام الذي يأخذ صيغة علنية هو فشل في التوافقات. وهي ناجمة بشكل رئيسي عن الفشل في تولي أمر التناقضات الداخلية لرأس المال المهيمن والطبقات الحاكمة والنظام الحاكم. وهي إشارة جدية على الوضع الصعب الذي يمرّ فيه النظام الحاكم.

كم مرة وصل فيها الخطاب في البلدان التي تمارس الديمقراطية البرجوازية، أو الكومبرادورية، إلى هذا الحد في الدوائر السياسية؟ وحتّى في الولايات المتحدة التي هي موضوع نقاشنا؟ لا تنسوا بأنّ هذا الخطاب يحدث في أحد أكثر الأنظمة السياسية قوّة وتعقيداً في العالم، في نظام برجوازي وإمبريالي.

وإنّ أحبّ أحدهم أن يقول بأنّ هذا الخطاب لازم للاستهلاك العام لأهداف حشدية أو انتخابية أو كمناورات سياسية، فعلينا إذاً أن نسأله: لماذا هم بحاجة لمثل هذا المنتج؟ وماهي الظروف التي دفعت السوق السياسي لتتاجر بمثل هذه المنتجات؟ إنّها بكل تأكيد ليست التعبيرات المعتادة لسوق برجوازية. فالمعلقون هنا ليسوا معلقين من الخارج، بل هم قادة ورؤوس النظام الحاكم.

  • السرطان يدمر حامله:

لقد وصلت وسائل الإعلام السائد اليوم إلى موقع غير محترم لم تصله يوماً. إنّ أيام الإعلام الليبرالي «التقدمي» و «المصداقية والحيادية» التي كانت موجودة قبل خمسين عاماً لم يبقى منها سوى رماد.

وجدت مؤسسة غالوب في استطلاع عن مدى ثقة الأمريكيين وإيمانهم بوسائل إعلامهم أجري عام 2016 بأنّه قد وصل إلى أدنى مستوى له في التاريخ. هناك 32% فقط هم من قالوا بأنّهم يملكون ثقة وإيماناً بالإعلام بوسائله المتنوعة، وهذه النسبة أدنى بـ 8% من نتائج عام 2015. ورغم ما أعلنته غالوب عن تحسن في هذه النسب في عام 2018 لتصل إلى 54%، فإنّها تبقى أدنى بكثير ممّا كانت عليه في التسعينيات وفي بداية الألفية.

وإن كنّا نتحدث عن مثل هذه النسب المتدنية داخل الولايات المتحدة، فيمكننا أن نعلم بأنّ الثقة في هذه الوسائل وفي المنصات الإعلامية التابعة لها خارج الولايات المتحدة قد تقارب الأرقام الصفرية في بعض الدول التي اختبرت شعوبها الكذب الخاص بالمصالح الإمبريالية. فسواء كان في إندونيسيا أو الفلبين أو نيبال أو أفغانستان أو العراق أو سوريا أو زيمبابوي أو موزمبيق أو ليبيا أو اليونان أو أوكرانيا أو بوليفيا أو فنزويلا...الخ، كان الحضور يشاهدون على الدوام تقارير وصور وأخبار تشيطن الأشخاص والبلدان التي تحاول الخروج من الأفق الإمبريالي. بينما كان ذات الحضور يشاهدون التقارير والصور والأخبار عن الدول الإمبريالية الغربية وهي تقدسها وتظهرها دولاً لا فقر فيها ولا انعدام مساواة ولا فساد مالي وسياسي ولا حكومات شمولية. ولهذا فالسبب منطقي في فقدان الجميع ثقته في هذا الإعلام.

وفي ختام المقال، نقتبس من الصحيفة البرجوازية الأخرى: ديرشبيغل موصفة التراجع الأمريكي الذي لا يعد لغيمة مهما كبرت أن تحجبه تخسر واشنطن لصالح روسيا والصين وحتّى إيران: «أمريكا لم تعد تقود، بل تتراجع. هناك قوى أخرى تتحرك لتملئ الفراغ... الصين وروسيا ... وإيران. الولايات المتحدة لم تعد تقود، بل تتفرج فقط».

آخر تعديل على الأحد, 24 آذار/مارس 2019 22:19