صناعة الإعلان وثقافة الاستهلاك
سوت جالي سوت جالي

صناعة الإعلان وثقافة الاستهلاك

في هذا المقال، يحاول الكاتب إثبات فكرة بسيطة، وهي: أن النظام الإعلاني في القرن العشرين، هو نظام نشر البروباغندا الأقوى والأكثر استمراراً في تاريخ البشر وآثارهم الثقافيّة المتراكمة، وسيكون مسؤولاً عن دمار العالم كما نعرفه، ما لم يتم إعادة النظر به. وسيتسبب أثناء ذلك بقتل مئات الآلاف من أفراد الشعوب غير الغربيّة، وسيمنع البشر جميعهم في هذا العالم، من الوصول إلى السعادة الحقيقيّة. الأمر بهذه البساطة: يعتمد بقاؤنا كنوع، على تقليص تهديد النظام الإعلاني والثقافة الاستهلاكيّة التي ولدّها.

تعريب وإعداد: عروة درويش

لا يكفي إنتاج «مجموعة واسعة جدّاً من السلع» وحسب، بل يجب بيعها أيضاً، بحيث يكون الاستثمار مجدياً. فما أن يتمّ إنتاج السلع، يجب أن تمرّ خلال دورة التوزيع والتبادل والاستهلاك، بحيث يمكن إعادة الأرباح إلى أصحاب رأس المال، ويمكن تحقيق «القيمة» من جديد على شكل نقود. إن لم يتم إنهاء هذه الدورة فسوف ينهار النظام، ويدخل في الركود والكساد. وبالتالي، فإنّ على الرأسمالية أن تضمن بيع السلع مهما كلّف الأمر. وبهذا المعنى، فليست مشكلة الرأسمالية هي في الإنتاج الغزير، بل هي في مشكلة الاستهلاك. ولهذا فإنّ استخدام مصطلح «ثقافة الاستهلاك» هو أكثر دقّة من أجل وصف المجتمعات السوقيّة الصناعيّة الغربيّة، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

«صناعة الإعلان»
يحتل الاستهلاك أهميّة في بقاء النظام الرأسمالي الصناعي ونموه، لدرجة أنّه اخترع في نهاية القرن التاسع عشر مؤسسة جديدة فريدة من نوعها، هي: صناعة الإعلان، وذلك لضمان تحويل التراكم الهائل للسلع إلى صيغة مالية من جديد. وتتمثل وظيفة هذه الصناعة الجديدة في توظيف أفضل المواهب الإبداعية في المجتمع، من أجل خلق ثقافة يمكن من خلالها دمج الرغبة والهوية بالسلع، ممّا يؤدي إلى بثّ الحياة في عالم الأشياء الجامدة بالإمكانات البشرية والاجتماعية، وهو ما تنبأ به، كارل ماركس، باسم «الشهوة للسلع». وبالفعل، لم يكن هنالك أيّ جهد موازٍ للجهود الدعائية في القرن العشرين. فقد قاد التفكير والجهد والإبداع والوقت والاهتمام بالتفاصيل، إلى تغيير الوعي البشري العام، وأحد المؤشرات البسيطة على ذلك هو: مقدار المال الذي تمّ إنفاقه على هذه الجهود. اليوم، في الولايات المتحدة وحدها، يتمّ إنفاق ما يزيد عن 175 مليار دولار سنوياً لبيعنا أشياء، ومثل هذا الجهد المركّز هو أمر غير مسبوق!
تستعمر المصالح التجارية المزيد والمزيد من مساحاتنا الثقافية. مثال: تمّ تطوير وسائل الإعلام بأكملها، من تلفزيون ومطبوعات، ليكون نظام تسليم للمسوقين، وظيفته الرئيسة هي إنتاج جمهور من المشترين. ونظام السينما الذي كان في يوم ما خارج التأثير المباشر لنظام الدعاية الأوسع، هو اليوم مدمج بالكامل فيه عبر استراتيجيات، مثل: الترخيص والربط ووضع المنتجات. لقد باتت وظيفة العديد من أفلام هوليود اليوم، هي المساعدة في بيع مجموعة السلع الهائلة. وفي الوقت ذاته الذي يتمّ فيه سحب التمويل العام من القطاعات الثقافية غير التجارية، فإنّ المعارض الفنيّة والمتاحف والسيمفونيات ...الخ باتت مرتبطة برعاية الشركات. ولا يستثنى من هذا المدارس والصفوف الطلابية، والنوادي الرياضية، والمنشآت التابعة لها، مثل: الباصات والملاعب والكافتيريات... الخ. وكانت آخر صيحات شركة «دعاية الفضاء» هي إرسال صاروخ فضائي لنشر لوحة طويلة تنافس الشمس والقمر في الاستحواذ على اهتمام سكان الأرض!
والسؤال الصحيح الذي يجب أن نطرحه هنا، ليس إن كانت هذه الإعلانات قادرة على التلاعب بنا وبيعنا أشياءها، بل عن العالم الذي يدور حولها، وعن السلوك الذي تعززه، وعن الجيد والسيء. إنّ السؤال هو: عن القيم الدعائيّة التي تدفعها الإعلانات باستمرار؟

السعادة!
لدى كلّ مجتمع قصته الخاصة التي يرويها عن السعادة، وعن كيفيّة تحقيق الأفراد لها، والشعور بالرضى الموضوعي والذاتي. ويملك النظام الثقافي الإعلاني جواباً محدداً على هذه المسألة للمجتمعات جميعها: يمكن تحقيق السعادة والرضى عبر استهلاك الأشياء من خلال السوق. السلع هي من تجعلنا سعداء. هذه هي الرسالة المستمرة والواضحة المتضمنة في التواصل السوقي.
يجب أن يتمّ استهلاك هذه المجموعة الهائلة من السلع. وكما قال فيكتور لايبو، محلل التجارة بالمفرق بُعيْد الحرب العالمية الثانية: «إنّ اقتصادنا هائل الإنتاج... يتطلب أن يكون الاستهلاك هو طريقة حياتنا، وبأن نحوّل بيع وشراء البضائع إلى طقوس، وأن نسعى لإيجاد رضانا الروحي ورضانا الذاتي في السلع... يجب أن نستهلك الأشياء، ونتخلص منها، ونستبدلها ونهجرها بمعدلات أعلى بشكل متزايد».
بهذا لا يتم تبرير النمو الاقتصادي بوصفه أساساً لتزويدنا بالعمالة وحسب_ فالكثير من النشاطات غير المنتجة يمكنها تزويدنا بالعمالة كذلك_ بل أيضاً بكونه يمنحنا القدرة على الوصول إلى الأشياء التي تجعلنا سعداء. لقد تمّ تمرير هذا المنطق لنا عبر الإعلانات بكلّ الطرق الممكنة. إنّ ربط سعادة الإنسان ورضاه بشكل حميمي بالسوق، وبالنمو الاقتصادي، هو أحد الدوافع الرئيسة للتغيير الاجتماعي الذي بدأ منذ القرن الحادي والعشرين.
لقد تمّ دفع الاضطرابات الاجتماعية في أوروبا الشرقية عبر هذه الرؤية. وكما صاغت، غلوريا ستاينهم، التحوّل في ألمانيا الشرقية: «لقد حظينا بثورة أولاً، ثم مضينا للتسوّق». ليس من الصعب شرح الانجذاب لهذه الرؤية في «العالم الثالث». فحين يكون واقعك هو المعدة الخاوية، والرفوف الفارغة، فليس هنالك عجب في أنّ السوق ستبدو مثل الترياق لمشاكلك. عندما يكون واقعك هو الجوع واليأس فليس من المفاجئ أن تكون صور الإغراء والشهوة والوفرة في النظام الإعلاني مؤثرة جداً في تفكيرك، حيال السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولا يقتصر الأمر على السعادة فقط، بل يشمل الدعاية للحرية السياسيّة ذاتها، والتي تصبح متاحة عند إتاحة مجموعة السلع الهائلة. إنّ القصص الكثيرة والقويّة التي تدمج بين السعادة والحرية، وبين الاستهلاك، هي سلاح إعلاني رهيب في جعبة البروباغندا الرأسماليّة.
والسؤال الذي يجب أن يطرح هنا: هل هذا حقيقي؟ هل تأتي السعادة من الأشياء المادية؟ هل نصبح أسعد كمجتمع عندما يكون لدينا إمكانيّة الوصول إلى مجموعة أوسع من الأشياء؟ من الواضح بأنّ هذه المسألة معقدة، لكنّ الجواب العام على هذا السؤال هو: لا.
في مجموعة من الاستطلاعات المستمرّة التي بدأت في الولايات المتحدة منذ عام 1945، والتي أُطلق عليها اسم «استطلاعات السعادة»، قام الباحثون بفحص ما يربط بين الثروة المادية والسعادة الذاتية، واستنتجوا: أنّ الارتباط بينهما ضعيف جداً. وتشير نتائج البحث المستمرة، إلى أنّه عند تقسيم عناصر الرضى إلى قيم اجتماعية «حب وعائلة وأصدقاء»، وإلى قيم مادية «أمان ونجاح اقتصادي»، فإنّ القيم الاجتماعية تسبق القيم المادية. لقد قال الناس بأنّ ما يريدونه حقّاً من الحياة هو: الاستقلال والتحكم بالحياة، وتقدير جيد للذات، وعلاقات عائلية حميميّة، ووقت فراغ خالٍ من التوتر، وأصدقاء قريبون وحميميون، وكذلك عاطفة وحب. ولا يعني هذا بأنّ القيم المادية ليست مهمة، فهي تشكل عناصر هامة لنوعية حياة جيدة. لكن فوق مستوى معين من الرخاء والراحة، تتوقف الأشياء المادية عن منحنا الرضى الذي يصرّ عالم الإعلان السحري في قدرتها على منحنا إياه.
ولأنّ البضائع والسوق لا يستطيعان منحنا الحب والصداقة، والاختلاط الاجتماعي الذي يجعلنا سعداء، فقد تحوّلت صناعة الإعلانات منذ عشرينيات القرن الماضي، من عرض نوعية الأشياء المادية فقط، إلى ربط السلع بشكل متزايد بصورة الحياة الاجتماعية القوية المرغوبة بشدّة من قبل الناس. ولهذا فمن غير المستغرب أنّ الإعلانات جذابة وقويّة ومغرية جدّاً لنا. إنّها تعرض لنا صوراً عن مصادر سعادتنا الحقيقية: الحياة العائلية والعاطفة والحب والجنس والمتعة والصداقة والاختلاط والهوايات، والارتياح والاستقلال والتحكم بالذات، وتقوم بدمجها بمجموعة السلع الهائلة. وكما يصيغ المدير الإعلاني جيري غوديز الأمر: «لا تقوم الإعلانات بعكس أفعال الناس، بل أحلامهم».

ليس هنالك ما يُدعى «مجتمع»!
 ما هو المجتمع؟ ما هي الأشياء التي تربطنا بعضنا ببعض بشكل جماعي؟ ما هي الهموم والمصالح المشتركة التي نتشاطرها؟ إنّ الجواب السوقي الأفضل على هذه الأسئلة قد صاغته، مارغريت تاتشر، في واحدة من أشهر الاقتباسات عنها: «ليس هنالك ما يُدعى مجتمع. هنالك فقط أفراد وعائلاتهم». وتبعاً لذلك فليس هنالك شيء ثابت يُدعى مجتمع وليس هنالك قيم اجتماعية، ولا مصالح مشتركة، والشيء الوحيد الحقيقي هو مجموعة من الأفراد الذين يتصرفون لصالحهم الشخصي.
وهذه بالتالي هي الطريقة التي يخاطبنا بها النظام الإعلاني. إنّه يوجّه خطابه لنا لا كمجتمع له قضاياه المشتركة، بل كأفراد وحسب. إنّه يتحدث عن الاحتياجات والرغبات الفردية، وليس عن الأشياء التي تهمنا كمجموعة، مثل: الفقر والرعاية الصحية، والإسكان والتشرد والبيئة... الخ. وتقوم الأسواق بمخاطبة أسوأ ما فينا: الجشع والأنانية، وتقوّض أفضل ما فينا: التعاطف والرعاية والكرم. وليس على هذا أن يثير استغرابنا، فحيث تهيمن السوق، فصوتها هو الوحيد الذين يُسمع، وهي تتحدث بلغة الإعلانات.
ولكن، كيف لنا أن نجد حلولاً للمشاكل التي باتت تشكل كوابيس لمدننا ولكوكبنا، ضمن هذا الإطار السوقي؟ تحتاج قضايا، مثل: انتشار الفقر وسوء الرعاية الصحية وتدهور البيئة ...الخ إلى صيغة جماعية لا يمكن للسوق أن تؤمنها. فكما تقول باربرا إيرنرايخ: «تعرض علينا الإعلانات التجارية حلولاً لمئات المشاكل، التي لم نعلم بأننا نعاني منها حتّى، مثل رائحة الفم في الصباح وكثافة الشامبو. لكن أين في ثقافة الاستهلاك، نجد أيّ أحد يقدم لنا حلولاً لما نعانيه في دنيانا حقاً، مثل: رعاية صحية ورعاية طفولة، وإسكان وتعليم عال، لائق وبأسعار معقولة. إنّ الجانب المخفي من مشهد الاستهلاك، هو تجويع وإفقار القطاع العام. لدينا سلاحف النينجا المتحولون، لكننا غير قادرين على تعليم الأطفال الفقراء. لدينا مئات أنواع حبوب الإفطار، لكننا غير قادرين على مساعدة الجياع».
المهمّة الملحّة الآن أمام كلّ من يريد أن يدفع اتجاه مجموعة مختلفة من القيم، أن يجعل من الكفاح من أجل التغيير الاجتماعي أمراً ممتعاً وجذاباً. ولا أقصد بهذا أن نلجأ لاستخدام صور جنسيّة في كفاحنا، بل أن نجد طريقة للصراع ضدّ الفقر وضدّ التشرّد، ولتعزيز الرعاية الصحية ورعاية الطفولة، ولحماية البيئة، تكون ضمن مقاربات ممتعة وطريفة وسعيدة. ويجب أن نعلم: أنّ هذا هو التهديد الأكبر للرأسمالية التي تدرك تماماً بأنّ احتكار الخيال هو أمر حيوي لاستمرارها.

نهاية العالم وإنقاذ البشرية
تعتمد الرؤية الاستهلاكيّة التي تنطق الإعلانات باسمها، والتي تحتل العالم بشكل رئيس، على فكرة النمو الاقتصادي. ويتطلب النموّ الموارد، أي مواد خام وطاقة، وتؤكد الأبحاث البيئيّة: عدم قدرة الأرض على تحمل نسب معينة من أنماط النشاط الاقتصادي الاستنزافية. ويستخدم النشاط الصناعي موارد وطاقة بنسب غير معهودة من قبل. فمنذ الخمسينيات، استهلك سكان الأرض موارد أكثر من الأجيال التي سبقتها جميعها على الإطلاق، أي، أننا وازينا في استخدامنا خلال 50 عاماً استخدام آلاف السنين. وأغلب هذه الموارد قد استهلكها الغرب والأمريكيون خصوصاً. ونحن نواجه مستقبلاً داكناً إن استمرينا على المنوال نفسه.
عانى الإنسان في القرن الماضي من مشكلة حيويّة لا تزال قائمة حتّى الآن. قال الفيلسوف، روبرت هيلبرونر، في 1980: «كيف لنا أن نشكل روابط مع الأجيال القادمة؟ إنّ مشكلة حاسمة لعالم المستقبل ستكون مصدر قلق للأجيال القادمة. أي ستظهر هذه المشكلة؟ لقد صاغ الإنسان الصناعي المعاصر، بسبب شهيته للحاضر ولقيم مجتمع عالي الاستهلاك، مستقبلاً متأثراً بقيم الأنانية السائدة، ولم يحمل إلّا حافزاً محدوداً لتشكيل مثل هذه الروابط. هنالك الكثير من الأشياء التي قد تضحي بها من أجل أولادك، ولكن ليس هنالك الكثير لتضحي به من أجل أحفادك».
إنّنا الجيل الذي وجد نفسه في موقع مسؤولية فريدة من تاريخ البشرية. يعود الأمر لنا بشكل حرفي كي ننقذ العالم، ونصنع الفارق الذي نحتاجه. إن لم نفعل ذلك، فسوف ندخل طور البربريّة والوحشية خلال 70 عاماً. لكننا غير قادرين على فعل ذلك ضمن السياق الحالي، الذي يركز على الاحتياجات الفردية بدلاً من الجماعية، وعلى الأوضاع الآنية بدلاً من النظر أبعد. يشكل النظام الإعلاني الأرضيّة التي نفكر فيها بمستقبل الجنس البشري، وهذا لن يمنحنا أيّ أملٍ لتطوير منظورنا. إنّ قيم المستقبل الاجتماعي المشترك، هي قيم لا ولن تجد تعبيراً عن نفسها داخل الثقافة المهيمن عليها تجارياً. والقيم السائدة لا تمنح أيّ حافز لتطوير روابط مع الأجيال المستقبلية، وهي تحمل معانٍ حقيقيّة للعدميّة واليأس من المستقبل، وتؤدي لإغلاق الأبواب أمام الآخرين.
إنّ الجوانب المدمرة للرأسمالية: طبيعتها قصيرة الأمد، وإنكارها للقيم الجماعية، وتشديدها على الحياة المادية، تتمادى لدرجة أنّها تركز في خطابها الإعلاني على حاجاتنا الفردية والخاصة، وتدفع أيّ نقاش عن قضايانا المشتركة إلى الهامش. تتحدث عن الحاضر فقط، وهذا يجعل التفكير في المستقبل أمراً صعباً. ولهذا فإنّ النظام الإعلاني قد أصبح عقبة رئيسة أمام نجاتنا كجنس، وسيتطلب عكس هذا الواقع جهداً هائلاً.
السبب الذي يسمح لهذه الطرق الاستهلاكية في النظر إلى العالم بالاستمرار في الوجود، هو: مليارات الدولارات التي يتمّ إنفاقها عليها يومياً من الرأسمالية، والتي تحاول جاهدة إقناعنا بقيمة الرؤية التجارية للعالم، عبر وسائل علاقاتها العامة المتنوعة، ولهذا لا يمكن نسيان ثقافة الاستهلاك ببساطة. ويجب كي نستبدلها: أن يكون لدينا بديل قابل للحياة يحلّ محلها، ويحفز الناس على الإيمان بمستقبل مختلف. إن كانت هنالك أفكار ممتعة وقويّة وممتعة وتثير الشغف، فسيتبناها الناس.

«تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة»
يذكرنا ما سبق بعبارة، أنطونيو غرامشي، الشهيرة: «تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة». يعني «تشاؤم العقل» أن ندرك واقع ظروفنا الحاليّة، وأن نحلل القوى الهائلة التي تنتظم ضدنا. لكنّ الإصرار على الإمكانيّة والرغبة الأخلاقية بالتغيير الاجتماعي هو ما يشكّل «تفاؤل الإرادة»، بحيث نؤمن بالقيم البشريّة التي ستلهمنا في صراعنا من أجل البقاء. هذا لا يعني التفاؤل غير المنطقي، بخصوص إمكانيّة التغيير الاجتماعي. فنحن لسنا بحاجة إلى النضال في سبيل القيم الجماعية وحسب، بل أيضاً في سبيل القيم الاجتماعية التي تعترف بحقوق الأفراد والإبداع الفردي. وكما كتبت إيرنريتش: «لا يجب أن نتخيّل مجتمعاً تكون لقيمه «الجماعية» آثار كئيبة من التطابق الإلزامي. بل مجتمعاً يدعو للعيش المشترك، والذي يمكن تشييده على البنية الاجتماعية ذات الفرص، ومستويات المشاركة الديمقراطية المجزية جميعها. يجب أن نتخيّل مجتمعاً لا يرفض الفرديّة، بل يقدّر حقّاً التعبيرات الإبداعيّة الفردية. ويتضمن هذا الاختلاف والنقاش، وعدم التطابق والتعبير الفني بالمعنى الواسع لهذه المفاهيم. وبهذا يبقى المشروع كما كان دائماً: استبدال ثقافة الاستهلاك بثقافة إنسانيّة حقيقيّة».

آخر تعديل على السبت, 23 آذار/مارس 2019 02:43