في ذكرى الرحيل غاب الجسد ... لكن الفكرة ، باقية، و متجذرة في أرض الوطن الكبير

في ذكرى الرحيل غاب الجسد ... لكن الفكرة ، باقية، و متجذرة في أرض الوطن الكبير

تنويه لم أجد مايمكن أن أكتبه بمناسبة  ذكرى رحيل القائد، سوى إعادة  التذكير بما كنت قد كتبته في بداية شهر آذار / مارس 2008، ونشرته حينها ، مجلة الهدف وعدة مواقع الكترونية. بعد ذلك وجد المقال مساحة له في كتاب " الحكيم  جورج حبش ..ذاكرة وطن ...شهادات" ( صفحة 347 ) الصادر عن مؤسسة الهدف للنشر والتوثيق عام 2009.

جورج حبش- رجل المبادئ والمواقف الثورية

 

محمد العبد الله

ساعات قليلة تفصلنا عن انتهاء اليوم الأخير لمجلس العزاء بـ "الحكيم" في مخيم اليرموك بمدينة دمشق، وحزن مقيم فينا يمتد على أيامنا منذ مساء يوم السبت 26/1/2008، عندما توقف ذلك القلب الكبير المفعم بالإصرار والتحدي عن الخفقان في أحد مشافي العاصمة الأردنية. طوال تلك الأيام والساعات الثقيلة لم أستطع فيها أن أكتب عن الراحل العملاق.

الكلمات التي يغذيها دمع العين تعجز عن الرثاء والنعي، فكأن الواحد منا ينعي قطعة من جسده وروحه، نحن مَنْ تفتحت عقولنا قبل عيوننا على اسمه الذي تداولناه بيننا، في العائلة والمدرسة الثانوية قبل أربعة عقود ونيف، فهذا الاسم ، مَثّلَ لنا، المناضل القومي المنتمي لأمة عربية واحدة، الذي وهب حياته من أجل العمل على توحدها الحقيقي قي سبيل "تحررها واستردادها لفلسطين".

هكذا تعرفت على الاسم أولاً، ثم على المبادىء والأهداف والقيم لاحقاً. لقد اختزل الحكيم في حياته الكفاحية الممتدة على مدى ستة عقود، تاريخاً لأمةٍ بدأت تتلمس طريق نهضتها وتحررها الوطني بإطار جماعي. فمع البدايات الأولى لبلورة وعيه النظري/الثقافي الجنيني في جمعية "العروة الوثقى" أثناء دراسته الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت بدأت ترتسم الخطوط العامة لتكوين طالب كلية الطب القادم من مدينة "اللد" الفلسطينية، المنكوبة كشقيقاتها بالانتداب البريطاني، الذي يظلل التمدد السرطاني لليهود، المتنوع الأشكال "استعماراً للأرض، جرائم التشكيلات العسكرية المسلحة" والذي أمسى منذ منتصف عام 1948 واقعاً احتلالياً في صيغة الكيان الصهيوني. جاء الرد سريعاً من الحكيم وزملائه فقرروا إنشاء "كتائب الفداء العربي" التي تَرَكَز عملها الفردي في بعض العمليات "الثأرية" المحدودة التي استهدفت مراكز يهودية، والتي لم تكن أكثر من ردة فعل مارسها بعض من الشباب المتحمس الذي أدرك لاحقاً أهمية العمل الجماهيري المنظم، ومن هنا بدأ تشكيل النواة الصلبة لـ"حركة القوميين العرب". كوكبة من الشباب انزرعت في تربة الوطن العربي الكبير، وبدأت بذورها في النمو، إذ روتها الأجيال الملتحقة بالنضال القومي بالعرق والدماء، فالمئات منهم سقطوا شهداء على طريق الكفاح المسلح - العنف الثوري المنظم كما عبّر عنه الحكيم - في فلسطين وجنوب اليمن، والآلاف الأخرى عرفت كل أصناف الاضطهاد والقمع والاعتقال في سجون الأنظمة العربية المغرقة في تخلفها ورجعيتها.

جورج حبش المسكون بالفكر القومي/الإنساني، الحالم بوحدة هذه الأمة وتحررها، عمل من أجل تحقيق مبادئه على بناء المؤسسة/التنظيم/الحزب المستندة إلى التطور الطبيعي للبعد النظري/الأيديولوجي في رفد الحركة التنظيمية "الشرائح والقوى الاجتماعية المغادرة أو المنضوية في البنية الداخلية للحركة" والتي انعكست تفاعلاتها في الخطاب السياسي/الاجتماعي لبيانات وتعاميم وأدبيات الحركة والجبهة لاحقاً، وقد واجه في مسيرة التطور تلك " دعاة فكر" طفولي توضحت دلالات مراهقته اليسارية باكراً على الموقف الوطني وفي بعده النظري.

في خضم تلك التفاعلات الداخلية، لم تدفعه المواجهة للارتداد نحو الانغلاق، بل فتحت له أبواباً مشرعة نحو المزج الخلاق بين النظرية الماركسية-اللينينية والفكر القومي، يقول الحكيم في هذا الصدد (أنا ماركسي، يساري الثقافة، والتراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية، معنيّ بالإسلام بقدر أي حركة سياسية اسلامية، كما أن القومية العربية مكوّن أصيل من مكوناتي، إنني في حالة انسجام مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية). وقد ساهم الوضوح النظري اليساري، المستند إلى جلاء صورة العدو الاحتلالي الاجلائي العنصري، بأن شَكَلَ للحكيم وللجبهة، صمام أمان فكري/سياسي منعها من الانزلاق - كما اندفع بعض أدعياء اليسار - للرهان على دور ما يسمى بـ"اليسار الاسرائيلي".

لقد أدت الانعكاسات الدراماتيكية المفجعة لهزيمة الخامس من حزيران 1967 على كل تشكيلات العمل الحزبي القومي في الوطن العربي فكراً وممارسة، وانعكست بشكل واضح على برنامج ونشاط "حركة القوميين العرب" التي ربطتها بالناصرية علاقات أثارت في محطات سياسية جدلاً واسعاً في صفوف الحركيين، عبرت عنه مجلة "الحرية" الناطقة باسمها في تلك الفترة - مقالات محسن إبراهيم ومحمد كشلي تحديداً -، مما أدى لتسريع خطوات الانهيار في تشكيلات الحركة، واتخاذ بعض الأقاليم والفروع قراراً بـ"حل نفسها".

لم يتأخر الحكيم ورفاقه في الفرع الفلسطيني للحركة على صوغ الإجابة على الهزيمة التي أدت لاحتلال الضفة والقطاع وأراض عربية أخرى، فبدأ التنشيط لمجال الحركة النضالي، الذي بدأ قبل سنوات عديدة بالتوجه نحو استطلاع إمكانية العمل الجماهيري والمسلح داخل فلسطين المحتلة عام 1948، وقدم شهيده الأول "خالد أبو عيشة" فوق تراب الوطن، وهذا ما وفر مع عوامل عديدة سرعة تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي أثبتت حضوراً متميزاً في نشاطها الجماهيري وعملياتها المسلحة ضد قوات الاحتلال الصهيوني، أتاح للجبهة تلك المكانة الأساسية والمتقدمة في المشهد الكفاحي الفلسطيني ومؤسسات عمله الجماعية، ومع اندفاع القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير في برنامجها التسووي، أكد الحكيم رفضه التبريرات التي قدمتها تلك القيادة لتعاطيها مع الأطروحات الانهزامية والاستسلامية تحت ذريعة التعامل مع ما هو مطروح للحصول على "الممكن"! وهذا ما عبّر عنه رده على كل سياسة الإذعان والخنوع والتفريط بصرخته التي عكست نبض قلب كل مناضل (الثورة الفلسطينية قامت لتحقيق المستحيل لا الممكن) لأن شكل "الدولة الفلسطينية" الموعودة في بنود الاتفاقات المذلة، التي عبّر عنها "اتفاق أوسلو" كما يراها الحكيم (لا يمكن إلاّ أن تكون كاريكاتوراً، لأن السلطة الفلسطينية قبلت بالعمل على تقديم التنازلات تلو التنازلات).

تميزت مسيرة كفاحه الطويلة بمحطات نضالية استثنائية، يشهد له أعداؤه قبل رفاقه، بأنه تعامل معها بصلابة لا تعرف المهادنة. فكل تجارب العمل السري، ومواجهات "أيلول الأسود" بالأردن وصولاً لغزو لبنان، أكدت شموخ وبسالة هذا الرجل الذي يؤكد (لا وجود لليأس في قاموسي، ولا أستطيع التسليم بانتصار دائم للظلم) فكل من عرفه طوال مراحل نضاله أكد أن الحكيم يمتلك إرادة فولاذية لا تؤثر فيها وحشية أدوات العدو الرهيبة (تستطيعون أن تدمروا بيوتنا لكنكم لا تستطيعون تدمير إرادة المقاومة فينا). هذه الإرادة التي صمدت أيضاً في وجه المرض واعتلال الجسد، فلا إرهاق القلب ولا إصابة الدماغ استطاعت أن توقف العقل والجسد عن الدور النضالي المتقدم الذي يتطلبه دور الأمين العام للجبهة الذي شغله الحكيم حتى المؤتمر السادس للجبهة الذي انعقد عام 2000.

وفي بادرة استثنائية في العمل الحزبي العربي، قرر د. جورج حبش التنحي، ليتيح لآخرين في الجبهة تبوء هذا المنصب، الذي شغله رفيق دربه "أبو علي مصطفى" الذي اغتالته قوات العدو بمكتبه في رام الله بصاروخ أطلقته إحدى طائراتها في الثامن والعشرين من آب/أغسطس عام 2001. غادر الحكيم موقعه كمسؤول أول للجبهة، لكنه بقي في قلب الحدث/الصراع، انتقل إلى ساحة أخرى لا تقل أهمية عن سواها، إلى حقل الدراسات النظرية والفكرية من أجل التفرغ لكتابة تاريخ حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وتجربته النضالية، كما عمل على تأسيس مركز "الغد العربي للدراسات" من أجل دراسة أسباب الهزائم المتتالية التي أصابت المشروع القومي التحرري، بما يتطلبه ذلك من استنهاض للقدرات الفكرية لدى نخبة من المفكرين والكتاب، لدراسة تاريخ الصراع العربي الصهيوني ونتائج ذلك على كافة المستويات، لقد أشرف الحكيم على المركز الذي استطاع تزويد المكتبة العربية بعشرات الكتب والدراسات الهامة، في ظروف مالية صعبة وقاسية، واستطاع مع القلة القليلة المحيطة به في المركز العمل الدؤوب من أجل تذليلها. لم يتوقف جهد الدكتور جورج حبش عند ذلك، فقد عمل وتابع الفكرة الأساسية التي انطلق منها مبكراً: العمل على تشكيل نواة عمل قومي تلتئم في إطارها القوى القومية واليسارية المناضلة من أجل صياغة الرد على المشروع الامبريالي الصهيوني في المنطقة.

في تجربة الحكيم العديد من الدروس والعبر، إذ توحد فيها الخاص والعام، وامتزج فيها النضال الوطني بالقومي ومن ثَمَ بالأممي والطبقي، ومع تطور مراحل المسيرة الفكرية والسياسية والكفاحية تلك، يتلمس المدقق في بعض محطاتها السياسية الأبرز بعض الاجتهادات التي واكبتها بعض الانتقادات من الحلفاء الأوفياء والأنصار المقربين من التجربة، لأن العديدين منهم كانوا يرون في مواقف المؤسس نزوعا نحو التطهرية في السنوات الأخيرة من عمره الزاخر بالعطاء والبحث. كان تركيزه على ضرورة القراءة النقدية لتجربة العمل القومي العربي، بهدف التوصل إلى رؤية جديدة ومتجددة تسعى لإرساء بنية جدية لحركة عربية يسارية موحدة، تنهض بمهام المواجهة للمشروع الإمبريالي الصهيوني الذي يستهدف الأمة العربية والوطن الكبير، تاريخاً ووجوداً ومستقبلاً. وهنا أستحضر ما كتبه "سعد محيو" في مقالته المنشورة قبل أيام عن الحكيم (كان الأجدى بأن يتواجد جورج حبش في قمرة قيادة القومية العربية لا في غرفة قيادة الجبهة الشعبية) وأضيف، أنه كان بمقدور الحكيم التواجد بنفس الموقعين نظراً للتداخل العميق في مهمات الحركتين.

قبل توقف القلب الكبير بساعات، كان أحبته في المشفى، القلة منهم تتناوب على الدخول لغرفته، كان يسألهم عن تطورات الأوضاع في فلسطين، وخاصة في غزة الصامدة المقاتلة، ألح على الاطلاع التفصيلي على أحوال شعبه هناك، وعندما علم أن الجماهير التواقة للحرية وللدواء والغذاء قد اقتحمت المعبر بأمواج بشرية هائلة حطمت الحدود المصطنعة بين أبناء الأمة الواحدة، ارتسمت علائم الفرح على قسمات الوجه الجميل الذي أنهكه المرض، لتأتي الكلمات معبّرة عن الأمل/الحلم الذي حمله المناضل القومي والأممي (ممتاز.. ممتاز.. سيأتي حتماً اليوم الذي تهدم فيه الحدود التي صنعتها "سايكس - بيكو" ويتحقق حلم الوحدة). إنه شعبك كما عرفته أيها المؤسس، فقد تنفس الهواء خارج السجن، واشترى بدراهمه وكرامته الغذاء والدواء، ولم يمارس التخريب والنهب كما تفعل قطعان الغوغاء في أكثر من مكان، وقد أكدت نساء هذا الشعب أن دورهن لا يقل عن دور الرجال، إذ تحولت أياديهن وهن يطرقن بوابات الجدار في مبادرتهن التاريخية - كما طرق الشبان في رواية غسان كنفاني جدار الخزان - إلى معاول هدم ليس للسجن وحده وإنما لعقلية وممارسة السجان.

رحل الحكيم جسداً وبقيت روحه وأفكاره منغرسة في وجدان وضمير كل وطني، خاصة وأن المبادىء العظيمة التي حملها ونقلها للأجيال التي تربت في مدرسته السياسية والأخلاقية مازالت متوهجة. فطوال سنوات عمره المديدة، أعطى الحكيم لأمته وشعبه كل ما يملك، وغادر الحياة وهو لا يملك - بالمعنى المادي الذاتي – شيئاً، لم يعرف الحكيم حياة الترف والامتيازات، وهو ما أكد عليه أمين عام حركة الجهاد الإسلامي الدكتور "رمضان عبد الله شلح" في اليوم الثاني لتأبينه في مجلس العزاء (لم يُوَقع الحكيم في حياته على شيك).

عاش راحلنا الكبير عفيف اليد واللسان، وكان نموذجاً للآلاف من القيادات والكوادر والأعضاء في زهده بالحياة المادية ومظاهرها، ولنا في حياة الشهداء" وديع حداد، أبو علي مصطفى" كل الدلائل على ذلك السلوك، ناهيك عن القادة الأحياء الذين تبوءوا أرفع المراكز في الجبهة على مدى العقود الأربعة المنصرمة من تجربتها، والذين قدموا للشعب والأمة القدوة في التواضع والنزاهة.

في حضرة الموت كانت روح الحكيم تملأ القلوب والعقول، وفي داخل الكنيسة حيث كان الجسد الطاهر النبيل مسجى، كانت المبادىء الثورية التي زرعها في الأجيال تملأ المكان. لكننا نتقدم منك - أيها المقيم فينا، داخل أرواحنا وعقولنا - بالاعتذار الشديد لما شهدته قاعة الكنيسة، فقد أتاحت طقوس الوداع تواجد بعض "المهرولين" بالقرب من جسدك، الذين امتدت أياديهم لتدنس نعشك الملفوف بالعلم الفلسطيني وبراية الجبهة الحمراء، هذه الأيدي التي تراكضت لمصافحة الصهاينة، والتي تمادى بعضها الآخر ليوقع لهم في مدينة "جنيف" وثيقة التنازل عن القضية التي وهبت عمرك لها، وليشطبوا - واهمين - حق شعبك بالعودة لوطنه الذي ناضلت طوال سني عمرك من أجل تحقيقه.

يا حكيم أمتنا وشعبنا: لقد ودعك شعبك وأمتك بما يليق بك، فمن اللد إلى سخنين مروراً بكل مخيم وبلدة فلسطينية داخل الوطن الفلسطيني، وصولاً إلى العديد من المدن العربية، تحولت مجالس العزاء بك، لمهرجانات وطنية تستلهم الدروس من حياتك. غصت كل الأماكن بأبناء شعبك وبكل أحبتك من القوى والشخصيات العربية المناضلة، ولم يتأخر المناضلون الأمميون عن المشاركة، فالغيفاريون الجدد، بناة الاشتراكية في أمريكا اللاتينية، كانوا حاضرين من خلال سفيرة فنزويلا البوليفارية في مجلس عزائك باليرموك، كان ثوريو العالم معنا في مجالس تخليدك، والذين لم يستطيعوا الوصول، بعثوا رسائل الوفاء لك ولقضيتك.

أبا ميساء: نم قرير العين، فالقضية التي ضحيت من أجلها لازالت تتلألأ متوهجة في أحداق عيون الملايين من أبناء أمتك، تحميها سواعد وبنادق أبناء شعبك في الكتائب والسرايا والقوى العربية المقاتلة في العراق ولبنان من أجل تحرير الأرض والإنسان.

يا حكيمنا: إن غاب جسدك عنا، فروحك الكفاحية تملأ هواءنا وأرضنا، فالثوريون لا يموتون.