قراءة في تقارير صندوق النقد الدولي الأخيرة
شبل سبع شبل سبع

قراءة في تقارير صندوق النقد الدولي الأخيرة

في كانون الأول الفائت رفع صندوق النقد الدولي ثلاثة تقارير مخصصة لثلاث دول في المنطقة، وهي تركيا والمغرب والأردن. وهذا تلخيص لأهم ما فيها وتعليق حين يلزم.

تركيا

ذكرتُ في مقال سابق، ان النموذج الاقتصادي التركي آتٍ لا محالة إلى أزمة اقتصادية كبيرة نتيجة تنمية غير متوازنة وغير عادلة، لأنها مبنية على تدفق الرساميل الأجنبية القصيرة المدى التي تشجع الاستهلاك والاستيراد وتؤدي إلى تفاوت اقتصادي كبير. (راجع «هــل تركيـا نمــوذج يســـتـحـق الاقــتـــداء به؟» بتاريخ 10/10/2012).

يأتي هذا التقرير لصندوق النقد الدولي على خلفية انخفاض تاريخي لليرة التركية، وهروب الأموال إلى الخارج، ليؤكد مسألة عدم توازن النمو الاقتصادي خلال السنة الماضية، لا بل خلال السنوات القليلة الماضية. ومن سخرية التاريخ أن تلك التراجعات المذكورة من قبل الصندوق تأتي في وقت تحسّن كبير لميزانية الدولة، إذ أن العجز في الميزانية ينخفض بالوقت نفسه الذي تنخفض فيه ديون القطاع العام والدولة. فحكومة أردوغان من هذه الناحية أنجزت ما لم تستطع أي دولة غربية أن تنجزه منذ بداية الأزمة العالمية سنة 2008. 

بيد ان هذا الانجاز تم على حساب القطاع الخاص، إذ انتقل الدين من الدولة إلى المصارف والمستهلك التركي. ويشدد تقرير صندوق النقد الدولي على نقاط ضعف الاقتصاد التركي وعدم توازن نموه، وهي:

ـــ انخفاض الادخار بشكل كبير وارتفاع الديون في القطاع الخاص.

ـــ تأتي هذه الديون من قروض خارجية للمصارف تستثمر كقروض للمستهلك التركي.

ـــ أدى ذلك إلى تدهور الوضع التنافسي لتركيا في التجارة العالمية فارتفع الاستيراد (9 في المئة) أكثر بكثير من ارتفاع التصدير (+3 في المئة) مقارنة بالدخل القومي منذ 2003. وهذا التدهور في الوضع التنافسي يعود إلى تضخم كبير (حوالي 8 في المئة العام 2013)، ويؤدي بالنتيجة إلى ازدياد كبير بالعجز التجاري (أكثر من 7 في المئة من الدخول القومي).

يخلص التقرير إلى القول إن الحلول لتدهور الليرة والميزانية وازدياد الدين الخاص يكمن في:

ـــ رفع القدرة التنافسية للتصدير التركي من خلال السيطرة على التضخم، ويتم ذلك من خلال السيطرة على الأجور والاتجاه إلى فصلها عن التضخم.ـــ تخفيض حجم الاستيراد من خلال تخفيض القروض ورفع الادخار وتخفيض النمو الاقتصادي إلى حوالي 3 في المئة طالما لم تتحسّن الميزانية من خلال تحسين التصدير.ـــ وأخيراً، يجب على تركيا أن تخفض من اعتمادها على الرساميل الخارجية القصيرة المدى الذي تذهب بأكثرها إلى القطاع المصرفي، وتشجيع الاستثمار الطويل المدى.

 

المغرب

أصدر خبراء صندوق النقد الدولي، على أثر زيارتهم للمغرب في أواخر 2013، تقريراً مصغراً بعد مراجعة سريعة لأداء الاقتصاد المغربي في ظل الاتفاق الذي يدعمه «خط الوقاية والسيولة»، هذا الاتفاق الذي ينص على إعطاء الصندوق تسهيلات للمغرب بقيمة ستة مليارات دولارات مقابل تنفيذ بعض «الإصلاحات». يبدو تقرير الصندوق متساهلاً مع تنفيذ تلك الإصلاحات المفروضة.

ويشدّد على إيجابيات الاقتصاد المغربي خلال السنة الفائتة، إذ يشيد بتراجع العجز في الميزان التجاري وارتفاع النمو إلى 5 في المئة تقريباً. حتى أن «الصندوق» يعتبر أن العجز الحكومي الذي سيكون حوالي 5 في المئة من الناتج القومي، أصبح عجزاً «ملائماً»، كما ورد في النص، مخالفاً بذلك كل الأدبيات الاقتصادية المعاصرة. بل يتجاوز التقرير ذلك إذ يعتبر الخبراء أن الحكومة المغربية ستستطيع بالتأكيد تخفيض المساعدات المالية للعديد من القطاعات (غذاء، طاقة الخ)، وهذا ما لم تتمكن أي دولة في المنطقة أن تفعله من دون أن يؤدي ذلك إلى انتفاضات سياسية.

 

الأردن

يعتبر صندوق النقد الدولي في آخر تقرير له أن الأردن قد أخفق في إجراء الإصلاحات اللازمة في الوقت المفروض، ويعيد ذلك إلى عوامل خارجية منها الأزمة السورية (اللاجئون) والأزمة المصرية (انقطاع الغاز)، وبالتالي يبقي الصندوق على المساعدات والقروض المجدولة وهي حوالي 250 مليون دولار إضافية.يبقى أن الإخفاقات تطال كل جوانب الحياة الاقتصادية، وهي بنيوية وسابقة للأزمة الاقتصادية الأخيرة. ويعدد الصندوق المشاكل التي تعترض الاقتصاد الأردني:

ـــ البطالة المرتفعة (14 في المئة)، التضخم المرتفع (5 ـ 6 في المئة).

ـــ العجز الهائل للميزانية التجارية إذ يصل إلى 19 في المئة من الدخل القومي، وقد يتحسّن على المدى المتوسط ليصل إلى 11 في المئة. والكل يعلم ان هذا النوع من العجز كارثي هو من أكبر مستويات العجز في العالم.ـ يترافق هذا العجز في الميزان التجاري مع فائض في ميزان المدفوعات، إذ تم تحويل الكثير من الرساميل من بلدان الخليج في أيلول/سبتمبر 2013. فارتفع فجأة الاحتياطي من العملات الأجنبية والذهب إلى 8 مليارات دولار، بعد أن كانت التوقعات لا تتعدى 3 مليارات. وقد ترافقت هذه التحويلات مع استدانة الحكومة 1,25 مليار دولار، مؤمنة من خلال الولايات المتحدة.

ـــ بيد أن كل ذلك لم يمنع من ارتفاع عجز ميزان الدولة نتيجة دفع مؤخرات لشركات الكهرباء والماء والضمان الصحي. فوصل دين الدولة إلى حوالي الـ90 في المئة من الدخل القومي.الإصلاحات التي يطلبها الصندوق من الأردن ما زالت على حالها، إلا أن الخبراء اقتنعوا أخيراً ان ذلك لا يمكن يتم سريعاً، فخفضوا من وتيرة الإصلاحات التي تطال:

ــ رفع الضرائب على المعاشات من خلال تخفيض الحد الأدنى للذي يتوجب عليه دفع الضريبة وزيادة الحد الأقصى.

ـــ زيادة الضرائب على الشركات.

ـــ تخفيض المساعدات لقطاعات الماء والكهرباء والصحة والغذاء، ومرافقة ذلك بزيادة الإعانات للعائلات الأكثر فقراً بشكل مباشر.

ـــ إعطاء رخص لمؤسسات قرضية، لزيادة القروض للقطاع الخاص، التي هي هنا في أسوأ المستويات عالمياً.

 

خلاصة

من الواضح من كل تلك التقارير أن صندوق النقد الدولي، بالرغم من إلحاحه على إجراء «الإصلاحات البنيوية» كتخفيض المساعدات والهبات إلى القطاع العام، وتخفيض دور الدولة المباشر في المؤسسات النفعية من ماء وكهرباء وصحة، وتخفيض عجز الميزانية التجارية وميزانية الدولة، يبرر لكل من تلك الدول عدم التزامها بتلك الإصلاحات، ويعطيها وقتاً أكبر.

والسؤال: لماذا هذه المراعاة لبعض الدول في فترات معينة، وعدم مراعاتها في فترات أخرى، أو عدم مراعاة دول أخرى كمصر تحت حكم مرسي مثلاً؟ أيعود ذلك لأسباب سياسية محضة؟ وبالنسبة لتركيا، فيبدو أن الحكومة التركية ارتكبت خطأ كبيراً بتخفيض دينها العام، وبالتالي تخفيض مصاريفها في فترة ازداد الدين الخاص بشكل دراماتيكي. 

وكان الأوجب أن يحصل العكس، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى ضعف قاعدة النظام وهي مقبلة على انتخابات. والحكومة التركية تبنت وصفات الصندوق بكاملها إلا ان ذلك أدى إلى مشاكل عدة: الميزانية التجارية، التضخم ـ الدين الخاص... ويشدد الصندوق لأول مرة على الخلل الاقتصادي الكبير في التنمية التركية غير المتوازنة، من دون أن يتطرق إلى الخلل الاجتماعي الناتج عن ذلك.

 

* أستاذ الاقتصاد في جامعة السوربون – باريس

المصدر: السفير