ما كل ما يُعرف يُقال؟ العرب في خدمة الأمن الإسرائيلي
د. لبيب قمحاوي د. لبيب قمحاوي

ما كل ما يُعرف يُقال؟ العرب في خدمة الأمن الإسرائيلي

حماية أمن إسرائيل من الفلسطينيين قد تصبح مهمة أردنية بغطاء عربي . ومع أن الحكمة الدارجة تقول بأن “ما كل ما يُعرَف يقال “، إلا أنه في حالة البيع والشراء الجارية الآن في المفاوضات الدائرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بإطلالة أردنية تحولت إلى مشاركة كاملة، فإن كل ما يُعرف يجب أن يُقال في محاولة استباقية لدرء المخاطر . وهذا المقال، كالذي سبقه، يهدف إلى قرع ناقوس الخطر قبل أن يقع الفأس في الرأس .

 

ما هو مطروح على الفلسطينيين والأردن في المفاوضات الجارية الآن هو إغلاق ملف القضية الفلسطينية وليس حلها. وهنا تكمن خطورة ما نحن مقبلون عليه خصوصاً وأن جميع الأطراف المعنية في المفاوضات تتصرف كأنها في عجلة من أمرها ولأسباب مختلفة، ابتداءً من السلطة الفلسطينية ومروراً بأمريكا والأردن.

تشير المعلومات الواردة من داخل أروقة المفاوضات إلى أن خطة جون كيري تعتمد على صياغة فضفاضة غير حاسمة وتحتمل التأويل والتفسير لأربعة ملفات فرعية تشكل صلب اتفاق الإطار الذي يُفتًرضْ أن يؤدي إلى إغلاق الملف الرئيسي وهو القضية الفلسطينية . والملفات التي يقترحها كيري ويدور البحث حولها  هي :-

أولاً : ملف المستوطنات و تبادل الأراضي بين المناطق المحتلة عام 1967 والمحتلة عام 1948. وهذا الموضوع يهدف إلى استبدال أراضي المستوطنات الرئيسية في الضفة الغربية بأراضٍ في منطقة المثلث المحتلة عام 1948 والمزدحمة بالسكان العرب الفلسطينيين، والذي يعني تغييراً ديموغرافياً في الاتجاهين يساهم مساهمة فعالة في دعم “يهودية دولة اسرائيل” من خلال افراغها من سكانها الفلسطينيين العرب .

ثانياً : ملف القدس : ويهدف إلى القبول بفكرة القدس الكبرى تمهيداً لاقتسامها كعاصمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين بحيث يُعطى الفلسطينيون ضاحية أبو ديس والمناطق المحيطة بها مع جسر موصل إلى المسجد الأقصى والصخرة باعتبارها جزءاً من القدس، ويأخذ الاسرائيليون القدس الحقيقية وكل ما تبقى .

ثالثاُ : ملف اللاجئين : حيث يتم إعطاء معاني وأبعاد جديدة لطبيعة الحلول لمشكلة اللاجئين باستعمال إصطلاحات مثل “الحلول المريحة” والتي لا يعلم أحد ماذا تعني وإلى أين ستؤدي بقضية اللاجئين .

رابعاً : ملف الأمن : ويتعامل مع الحدود ووادي الأردن وأماكن تواجد القوات الإسرائيلية والأمريكية والأردنية والدور الأمني المناط بالأردن في الأراضي الفلسطينية والمناطق الحدودية .

إن حالة التهالك والتكالب الرسمي الفلسطيني و الرسمي الأردني على اتفاق نهائي سوف يضع إسرائيل في أفضل موقع يمكن أن تحلم به . فإسرائيل تتفنن في وضع الشروط للقبول وللاستمرار في المفاوضات دون أن تلتزم بأي تنازلات حقيقية، بل والأهم من ذلك أنها انتقلت من الشروط السياسية والأمنية إلى الشروط التاريخية . فهي تريد تغيير التاريخ من خلال اعتراف الفلسطينيين والعرب بيهودية الدولة العبرية، وهي تريد تزويرالشرعية والإرادة الدولية من خلال إرغام الفلسطينيين والعرب على القبول بإلغاء “حق العودة” . كل هذا مقابل إعادة تسمية الاحتلال  بشئ آخر قد يكون عبارة عن “حكم ذاتي مُطَوَّر”، واستعمال إصطلاحات مطاطة توحي بشيء ولكنها لا تعني أي شيء، مثل أن تنص الوثيقة النهائية للمفاوضات الجارية على (احترام رغبة الفلسطينيين بأن تكون القدس الشرقية عاصمة لهم)، أو (تـَفـَّهُم رغبة الفلسطينيين في أن تكون لهم بالنتيجة دولة ذات سيادة قابلة للحياة …) إلى آخر ذلك من جمل غير مفيدة . نحن إذاً أمام احتمال أن تؤدي هذه المفاوضات إلى استبدال أدوات الاحتلال والقهر من اسرائيلية إلى عربية وقد تكون أردنية تحت غطاء عربي وبتكليف عربي، خصوصاً وأن دور الأردن في المفاوضات لن يتعدى تعبئة الفراغات كما تحددها إسرائيل وأمريكا، وهي في الغالب فراغات أمنية تهدف إلى استبدال الدور الأمني لقوات الاحتلال الإسرائيلي بدور أمني لقوات أردنية .

إن بقاء الأمور على حالها وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية مثل “احتلال” و”قوات احتلال” أفضل ألف مرة للفلسطينيين وقضيتهم من بقاء الاحتلال فعلياً وإعطاءه صفة آخرى وبشكل يوحي كذباً وكأن الاحتلال قد زال، وهذا ما يسعى إليه الأمريكيون والإسرائيليون من وراء المفاوضات الجارية حالياً. هذا بالضبط ما هو مطروح الآن على الفلسطينيين .

      أما فيما يتعلق بالقضايا الأساسية مثل حق العودة فالمطروح هو إستبداله بالتعويض فقط، ودفع ذلك التعويض للحكومات مع أن هذا لا ينسجم مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 الصادر في 1948/12/11 والقاضي بما يلي :-

 أولاً : إعطاء كل لاجئ فلسطيني الحق بالعودة إلى منزله في المنطقة التي هُجِّرَ منها في فلسطين عام 1948، ولم ينص على العودة إلى فلسطين بشكل عام كما هو مطروح الآن من عودة بعض الفلسطينيين إلى مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة حصراً . من خَرَجَ من يافا يعود إلى منزله في يافا ومن خَرَجَ من حيفا يعود إلى منزله في حيفا ومن خرج من صفد يعود الى منزله في صفد ……. الخ .

“… the refugees wishing to return to their homes [in Palestine] and live at peace with their neighbours should be permitted to do so at the earliest practicable date”.

ثانياً : التعويض المنصوص عليه في القرار المذكور هو ذو شقين :-

الشق الأول : يدفع التعويض للشخص الذي يختار أن لا يمارس حقه في العودة وذلك عن ممتلكاتـه وما يعود إليه في فلسـطـين ولـيس مقابـل التنازل عـن حقه في فلسطـيـن كوطن ولكـن عـن تـلك الممتلكات تحديداً، أي أن بيع حق اللاجئ الفلســطيني في وطنه فلسطيـن غير مشمول في  مبدأ التعويض، وهذا الحق لا يملك أحد التنازل عنه.

الشق الثاني : يـُدْفَعُ التعويض للاجئين الفلسـطينيين عن أي تلف أو ضرر أو تدمــير أصاب ممتلكاتهم في فلسطين وذلك لإعادتها كما كانت. ولا يشمل هذا الشق التعويض عن مصادرة تلك الممتلكات، وبالتالي لا تعترف الجمعيـة العامة للأمم المتحدة في هذا القرار بحق حكومـة اسرائيل في مصادرة ممتلكات اللأجئين الفلسطينيين طبقاً لقانونها المتعلق بأملاك الغائبين .

 “… compensation should be paid for the property of those choosing not to return and for loss of or damage to property….”

ثالثاً : ما علاقة الحكومات إذا بالتعويض ومَنْ طرح المقولة اللئيمة بأن ” التعويض يدفع للحكومات “؟ التعويض حسب قرار 194 يُدفع فقط عن الأملاك الشخصية في فلسطين لكل لاجئ فلسطيني وهو اذا تعويضٌ للأشخاص مقابل أملاكهم الشخصية اذا اختاروا عدم العودة، أو مقابل صيانة واصلاح أملاكهم إذا أصابها ضرر. التعويض لا يشمل بيع الحق في الوطن . وفي كل الأحوال، ما علاقة الحكومات بقبض التعويضات عن أملاك شخصية إلا إذا كانت النية المبيتة هي الالتفاف على القرار 194 بالتآمر مع قوى مثل أمريكا واسرائيل لبيع فلسطين نفسها وليس الأملاك الشخصية.

 تـُوَفِرُ الأوضاع السائدة حالياً في العالم العربي البيئة المثالية لفرض تسوية مجحفة بحق الفلسطينيين . مصر الدولة العربية الأكبر منشغلة تماماً في ترتيب أمورها الداخلية، وسوريا تخوض حرباً أهلية مدمرة، والسعودية خائفة ومرعوبة، والعراق مخلخل الى حد التفكيك ودماؤه تسيل يومياً، ولبنان وليبيا واليمن عيونها إلى الأمام ولكنها تسير إلى الخلف، والجزائر في غيبوبة . هل من وقت أفضل من هذا لفرض تسوية جائرة وبائسة على الفلسطينيين خصوصاً، وعلى العرب عموماً، في ظل وجود استسلام مخجل لدى القيادة الفلسطينية المهترئة للقيام بدور ما يبرر وجودها، وقيادة أردنية مستعدة لقبول الأمر الواقع والثمن معاً ؟ مَنْ مِنَ العرب يقبل أن يحمل وزر بيع فلسطين من خلال المساهمة في مثل هذه التسوية وأن يكون طرفاً فيها؟

يعْتـَبِرُ الكثير من الفلسطينيين أن البلاء الذي يتعرضون له الآن هو في الأساس من صنع السلطة الفلسطينية وسياساتها في إعطاء التنازلات المجانية إلى الحد الذي أفقد عدوهم الإسرائيلي الرغبة في التوصل إلى حل عادل معهم أو، في حقيقة الأمر، أي حل على الإطلاق. ولكن السلطة لا تعترف بذلك بل على العكس هي تبرر هرولتها نحو المفاوضات، وحسب الشروط الأمريكية والإسرائيلية، من خلال المنطق القائل بعدم وجود خيار آخر أمامها وأن عدم القبول بما هو مطروح عليها الآن من قبل أمريكا وإسرائيل سيؤدي إلى الفوضى وانهيار الوضع في المناطق الخاضعة لأشرافها !!

 إن التفاعلات على مسار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية تبدو أسرع من قدرة الكثيرين على الاستشراف والتحليل . كل أطراف التسوية ابتداء من السلطة الفلسطينية ومروراً بالأردن وأمريكا يتصرفون وكأنهم في عجلة من أمرهم، وان كان لأسباب مختلفة، خصوصاً وأن السلطة الفلسطينية على ما يبدو قد حسمت أمرها لصالح الموافقة على إغلاق ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إنطلاقاً، وكما أوضحنا سابقاً، من الفرضيات الخاطئة بأن الخيارات تكاد تكون معدومة وأن ما هو مطروح الآن، في حال رفضه، قد يصبح عزيز المنال لاحقاً، متناسين أن هذه الروح الانهزامية الاستسلامية للسلطة الفلسطينية هي التي أوصلت وضع الفلسطينيين إلى ما هو علية الآن . أما اسرائيل فيبدو أنها راغبة في إغلاق ملف الصراع العربي – الإسرائيلي (ولا أقول حل الصراع) بأرخص الأثمان, حيث أن الطرف الاسرائيلي في عجلة من أمره لخلق وقائع جديدة على الأرض لتعزيز مكاسبه وزيادتها, وهو يكاد لا يصدق أن الفلسطينيين والعرب قد وصلوا إلى هذه الدرجة من الاستسلام والخنوع والانحطاط السياسي.

ولكن يبقى السؤال الكبير، لماذا يريد الأردن أن يكون طرفاً في مثل هذه المفاوضات ؟ ولماذا يخرج علينا عبدالله النسور، رئيس حكومة الأردن، كل يوم بحديث وفتوى عن حق حكومة الأردن في التفاوض نيابة عن اللاجئين المقيمين في الأردن وحقها في قبض قيمة التعويضات عن الممتلكات الخاصة بهم مفترضاً بذلك أن لا أحد يريد العودة وأن الجميع يريد التعويض وهذه نقطة الخطر الذي أشرنا إليها مسبقاً.

الحديث بهدوء عن موضوع ملتهب أمر صعب ولا يمكن التحكم بنتائجه . ولكن دعونا نبدأ بالسؤال الأهم الذي يطرح نفسه، ما هو المقصود “بمصالح الأردن العليا” عند الحديث عن مفاوضات السلام مع إسرائيل؟ وما هي مصالح الأردن العليا التي تتطلب من الأردن الدخول في عملية مفاوضات مهزومة ومنهزمة سلفاً ؟

هنالك محاولة واضحة من قبل النظام الأردني لابتزاز مواطنيه من خلال ربط “مصالح الأردن العليا” بحتمية ووجوب الدخول في المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية، والايحاء بأن كل من يعارض ذلك إنما يعمل ضد مصالح الأردن !! ولكن هل يستطيع أي مسؤول أردني أن يخاطب الشعب بصراحة موضحاً ما هي تلك المصالح العليا ؟ لا أحد يعرف ماهو المقصود بهذا الأصطلاح العاطفي والغامض . دعونا نَعْرِفْ ونـُعَرِّف تلك المصالح حتى نستطيع أن نخلق موقفاً وطنياً عاماً منها . فالمطلوب هو حوار وطني ليس بين شخصيات الحكم الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً، وإنما بين مكونات المجتمع الأردني دون أي إقصاء لأحد، حتى يتم التوافق على تحديد ماهية المصالح الوطنية الأردنية ويتم الاتفاق عليها، ولتصبح هي الإطار الحامي والمحدد للمفاوض الأردني، لمنعه من الانفراد والتفرد والتسيب والشطط والبيع والشراء وتنفيذ إرادة الغير القادمة من خارج الحدود. ولكن وللأسف فإن ما يجري الآن في الأردن في هذا السياق هو عبارة عن دعوات بعضها معلن وبعضها غير معلن،  محصورة بنخب مختاره وعلى شكل ندوات ومؤتمرات ومجالس عصف فكري هي أقرب إلى “حلقات الذِكرْ” التي يردد فيها الحاضرون نفس الكلام، وتهدف إلى محاولة خلق رأي عام أردني يقبل بمزاعم الدولة وتبريراتها للدخول في المفاوضات على أساس حماية ” مصالح الأردن العليا” دون أي محاولة جدية لايضاح معنى وطبيعة تلك المصالح .

لماذا يريد الأردن أن يكون طرفاً في مثل هذه المفاوضات ؟ نريد أن نعرف لماذا وهل يريد الأردن أن يقبض ثمن فلسطين ؟ أم أن يده مغلوله وأمره في يد آخرين، وفي هذه الحالة عليه أن يقر ويعترف علناً بذلك ؟ مرة أخرى وبصراحه نريد أن نعرف ما هي مصالح الأردن العليا التي تتطلب من الأردن الأنزلاق طوعاً في هذا المستنقع?

 

 

آخر تعديل على الأربعاء, 22 كانون2/يناير 2014 15:10