بداية ترجمة التوازن الدولي الجديد والتحضيرات الأخيرة لـ«يالطا-2»

بداية ترجمة التوازن الدولي الجديد والتحضيرات الأخيرة لـ«يالطا-2»

احتل عام 2013، بزخم التغيرات التي حملها معه، موقعاً مفصلياً هاماً ضمن حقبة انعطافية على المستوى العالمي لمّا تصل إلى نهاياتها بعد، ولكنها تحث الخطا سريعاً نحو تثبيت التوازنات الدولية الجديدة، بكل ما يعنيه ذلك من انعكاسات إقليمية وداخلية سورية. وسنحاول في هذه البانوراما أن نكثف الإضافات المعرفية الأساسية التي قدمها «حزب الإرادة الشعبية» عبر افتتاحيات جريدته «قاسيون» في قراءته للمشهد الدولي والإقليمي والداخلي خلال العام المنصرم، وفي القلب من ذلك تطورات الأزمة السورية ومآلاتها..

التوازن و«يالطا-2»

التقطت «قاسيون» بدايات التراجع الأمريكي مبكراً، منذ عام 2002، مستندةً إلى قراءةٍ معمقة للأزمة الرأسمالية العالمية العميقة التي دفعت بواشنطن للخروج إلى ما أسمته «الحرب على الإرهاب». الحرب التي لم تستطع تحقيق الغايات المرجوة منها، ما أدى إلى انفجار الأزمة بطورها المالي سنة 2008، والذي تليه الأطوار الاقتصادية فالاجتماعية فالسياسية.. ويمكن القول إن التوازن الدولي الجديد بين منظومة «بريكس» وحلفائها من جهة، وبين المنظومة الغربية من جهة أخرى، قد غدا أمراً واقعاً منذ 2008 بإحداثياته الاقتصادية والعسكرية والأمنية، والصراع العالمي الجاري حتى اللحظة، بأحد مركباته، ليس إلا صراعاً من أجل ترجمة هذا التوازن سياسياً، تلك الترجمة التي بدأت فعلياً بالفيتو الروسي- الصيني الأول من المسألة السورية، الترجمة التي تضمنت جنيف الإيراني وستتضمن جنيف السوري تحت يافطة عريضة يمكن تسميتها بـ«يالطا-2» على غرار اتفاق «يالطا» الذي أرسى قواعد النفوذ السياسي في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.. ولأن الأزمة الرأسمالية العالمية هي أزمة تشمل كامل المنظومة الرأسمالية وتهددها بالفناء ولا تستثني بالتالي منظومة البريكس، فإنّ التوازن الذي يجري الحديث عنه هو توازن مؤقت، لن يستقر طويلاً (كما كانت حال الحرب الباردة مثلاً) ولكنه سرعان ما سيتحول نحو الاستقطاب الحقيقي بين الشعوب من جهة وبين النظام الرأسمالي العالمي كاملاً من جهة أخرى..
ولعل الجديد الذي طفا على السطح بشكل واضح خلال العام المنصرم، وغدا جزءاً أساسياً من طريقة رؤية التحولات العالمية، هو بروز التشققات داخل الإدارة الأمريكية بشكل أكثر وضوحاً، وهو أمر طبيعي تصاب به جميع القوى المتراجعة عبر التاريخ..
الفاشية الجديدة
«بما أن التوازن الدولي الجديد يفرض على الولايات المتحدة ومعسكرها أحد أمرين لا ثالث لهما، إما تراجع منتظم تحتل فيه «واشنطن» حجماً يماثل إسهامها في الناتج العالمي الذي لم يتجاوز 18% قبل عشر سنوات وهو الآن أقل من ذلك بكثير، أو انهيار صاعق وبالمكان، فإن الخيار الأول هو الأكثر عقلانية. ولكن خيار التراجع المنتظم هو في الوقت ذاته انهيار بالنسبة لجزء محدد من المنظومة الرأسمالية هو ذلك الجزء المالي والمصرفي البحت غير الإنتاجي وعلى رأسه الصهيونية العالمية، ما يعني أن خيار استمرار الحرب عبر شكلٍ «فاشي جديد» بالنسبة لهذا الجزء سيبقى مشروعاً «يناضل» من أجله..» (افتتاحية قاسيون/العدد 620)
«يتمثل الخيار الفاشي الجديد في وقتنا المعاصر بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي وأدوات الاقتحام الملحقة به من قاعدة وما شابهها، باعتبارهما معاً منظومةً مالية واسعة الانتشار وقادرة على تقديم أكثر الأشكال رجعية لحكم الطغم المالية، وقادرة أساساً وبالجوهر على خلق الحروب المستمرة الهادفة في نهاية المطاف إلى ضرب تطور القوى المنتجة على المستوى العالمي والذي لم يعد تحمله بالنسبة للمنظومة الرأسمالية ممكناً..» (المرجع السابق) ويمكن تفسير المواقف المتشددة لبعض الدول الإقليمية ولجزء من المعارضة بارتباط هؤلاء بالجزء الفاشي من الإدارة الأمريكية وتبعيتهم له.
تحولات إقليمية
شهدت مناطق متعددة في العالم بداية ترجمة التوازن الدولي الجديد على المستويات الإقليمية، ففي مصر سقط تنظيم الإخوان وبدأت العلاقات الروسية المصرية بالسير قدماً وبشكل متسارع، وفي تركيا تراجعت شعبية «العدالة والتنمية» تراجعاً حاداً وخاصةً بعد الفضيحة الأخيرة وبدأ ينكفئ دوره في الملف السوري، إضافةً إلى تخبط وتراجع البدائل الأمريكية في كلٍ من تونس وليبيا. وفي أوكرانيا بدأت العودة بشكل أكبر إلى الفضاء الروسي.. وتنحت قطر عن واجهة التدخل في سورية لمصلحة السعودية.. في ضوء هذه التغيرات العاصفة فإنّ «واشنطن» وإذا كانت «خلال ما مضى من عمر الأزمة السورية غير راغبة بأية حلول سياسية ومصرةً منذ البداية ولا تزال بوسائل تدخلها غير المباشر على «إحراق سورية من الداخل»، إلا أنها اليوم أمام حقيقة مفادها: «في كل يوم جديد ستكون أمريكا أضعف من الذي سبقه» ولذا فإن ما يمكن أن تحصله بحل سياسيٍ ضمن توازن القوى الحالي سيكون أكبر بكثير مما يمكن لها تحصيله– وربما عدم تحصيله- لاحقاً..» (افتتاحية قاسيون/العدد 616)
التهديد بالعدوان والنووي والكيميائي
وفي إطار التحولات الإقليمية السريعة جرى لجم العدوان الأمريكي على سورية ذلك العدوان الذي كان فشله محسوماً منذ الإعلان عنه «فإذا انكفأت أمريكا وامتنعت عن القيام بالهجوم فهذا يعني اعترافها بتوازن القوى الدولي الجديد، وقبولها بدور جديد بحجم جديد ضمن عالم جديد، ويعني أيضاً– في الخاص السوري- ذهابها إلى جنيف صاغرةً وبتنازلات أعلى من كل ما أعلنته سابقاً» وتتابع افتتاحية قاسيون (محكومون بالانتصار/العدد 617) «وفي حال قيام أمريكا بغاراتها على سورية، ضمن تصور تغيير ميزان القوى على الأرض، فإنها ورغم التكاليف الكبيرة البشرية والمادية التي ستدفعها سورية إلا أن تغييراً حقيقياً لميزان القوى لن يجري دون موافقة إقليمية ودولية، أي أن العمل على احتمال من هذا النوع يعني القرار بفتح حرب إقليمية دون أن يعلم أحد إلى أية حدود ستصل تلك الحرب. ووفقاً لحقيقة ميزان القوى الدولي ذاته فإن الخاسر الأكبر سيكون أمريكا ومعسكرها وفي مقدمتها «إسرائيل». وفي حال كانت الضربة محدودة ولم تغير شيئاً في ميزان القوى، فإن سيناريو التراجع عن الضربة لن يختلف كثيراً عن سيناريو ضربة مصغرة إلا في كونه أكثر كارثية بالنسبة للولايات المتحدة..» وتم الضغط بعكس اتجاه العدوان من خلال الانتقال إلى مرحلة الهجوم بطرح الملفين النووي الإيراني، والكيميائي السوري، ولعبت هذه المسائل الثلاث دوراً انعطافياً في إبراز التشقق الأمريكي الداخلي بين التيار الفاشي والتيار العقلاني، ودفع أيضاً إلى بدء اصطفاف عالمي جديد على أساس الموقف من قضية السلم العالمي، الاصطفاف الذي لم يكتمل بعد ولكنه يتقدم بسرعة ويحدد الملامح الأساسية لطبيعة مرحلة الاستقرار النسبي اللاحقة..
توازن متحرك وفرص ضائعة
«وإذا كنا قد أشرنا في وقت مضى إلى أن التوازن الدولي الصفري يؤمن ظرفاً ممتازاً لرفع الوزن النسبي للقوى الوطنية الداخلية في معادلة الصراع العامة الدولية والإقليمية والداخلية وفي التغيير المرتقب، وإذا كنا قد أشرنا إلى أن هذا الظرف هو فرصة سورية خاصة لم تتسن لتونس أو مصر أو ليبيا لأن عاملين أساسيين كانا الحاملين الماديين لهذه الفرصة هما: الدور المستجد لمجموعة دول «البريكس» من جهة، ووجود قوىً وطنية معارضة رفضت التدخل الخارجي بقوة إصرارها ذاته على التغيير الجذري العميق لبنية النظام السياسي القائم، فإن المماطلة في الاستفادة من هذا الظرف ستنتج بالضرورة عودة الوزن الأساسي في الحل لقوى الخارج على اختلافها وستنتج تدويلاً للأزمة السورية فوق تدويلها السابق، وهو ما يجري على قدم وساق.» (افتتاحية قاسيون/ العدد 589)
وما جرى هو أن فرصاً عديدة تمت إضاعتها «من رفع حالة الطوارئ قانونياً وبقائها عملياً، إلى عدم تنفيذ توصيات اللقاء التشاوري، ومن ثم طريقة انتخابات الإدارة المحلية وبعدها مجلس الشعب التي بقيت على خشبيتها وأحاديتها، ومن ثم الائتلاف الحكومي الذي كان يجب ويمكن أن يكون حكومة وطنية شاملة وليس ائتلافاً يبتعد عن بيانه التوافقي دون حسيب أو رقيب، وقبل ذلك وخلاله تخلف الخطاب الإعلامي الرسمي وأحاديته وضعفه وتبنيه المطلق لمقولات الحسم والكسر وإلى ما هنالك..» (افتتاحية قاسيون/العدد 590)
وبإضاعة هذه الفرص الواحدة تلو الأخرى، جرى الانتقال عملياً من مستوى محدد للتدويل إلى مستوى آخر أعلى وأعمق، حتى أصبحت سورية أمام واقع جديد لا يتوقف عند عدم جدوى دعوات متشددي الطرفيين المتكررة إلى «الحسم» و«الإسقاط»، بل يتعدى ذلك إلى واقع أن الوضع الميداني الداخلي في سورية، هو الآخر أصبح انعكاساً مباشراً للتوازن الدولي القائم، وذلك ضمن واقع الحدود المفتوحة لكل أنواع التدخلات والتي لا قدرة لسورية على ضبطها دون توافق دولي يضمن ذلك..

تحضيرات «جنيف-2».. المعرقلون والخطة «ب»

إما جنيف وإما استمرار «إحراق سورية من الداخل»

أمام درجة التدويل التي وصلت إليها المسألة السورية نتيجة إصرار متشددي الطرفين على رفض الحل السياسي بادئ الأمر، ثم الموافقة عليه في العلن وعرقلته في السر، فإنّ مركز ثقل المسألة السورية انتقل إلى خارج سورية، وأصبحت المسألة مثاراً للتجاذبات الدولية والإقليمية مهددةً باستمرار إحراق سورية من الداخل وصولاً إلى تحقيق الأهداف التفتيتية الأمريكية دون تدخل عسكري مباشر. ولذلك فقد غدا من غير الممكن تأمين أي مخرج من الوضع القائم دون إعادة مركز الثقل إلى الداخل السوري، الأمر الذي يلّخص مهمات جنيف الثلاثة: «إيقاف كل أشكال التدخل الخارجي، تخفيض العنف باتجاه إيقافه، إطلاق العملية السياسية» (افتتاحية قاسيون/العدد 625) ومهام جنيف هذه، هي مهام متسلسلة ومترابطة، فإيقاف التدخل الخارجي سيسمح بتخفيض مستوى العنف وبإطلاق العملية السياسية بالتوازي مع ذلك، والعملية السياسية الداخلية هي الكفيلة بتقدمها بتصفير مستوى العنف والانتقال نحو سورية الجديدة.. وفي السياق، فإن مكافحة الإرهاب في سورية مهمة مستحيلة التحقيق دون إيقاف التدخل الخارجي، لأن حوامل الإرهاب الأساسية في سورية بما يعنيه من عنف سياسي ذو أجندة خارجية، هي تحديداً تلك القوى التكفيرية القادمة مما وراء الحدود، إضافة إلى قلة قليلة من السوريين السائرين في ركابها، وهؤلاء متمايزون من حيث بنية التفكير وحتى طرائق العمل عن المسلحين السوريين الذين يتواجد بينهم من يقبل بالحل السياسي..

أعداء جنيف وماذا يريدون..

«يمكن تصنيف المتضررين من «جنيف» بين خارجيين وداخليين:
المتضررون الخارجيون، هم الفاشيون الجدد أصحاب رأس المال المالي الاحتكاري الإجرامي الذين تضيق المخارج بهم وتتعمق أزمتهم يومياً، ويصرّون على توسيع رقعة الحرب أفقياً وعمودياً كمخرج افتراضي وحيد من أزمتهم، ويسعون جهدهم لتفتيت سورية واستمرار إحراقها.
وأما الداخليون فهم الفاسدون الكبار الموجودون في النظام والمعارضة والمجتمع على حدٍ سواء، والمتمسكون ببنية جهاز الدولة الحالية التي تسمح لهم بالنهب، والذين لا ضمانات لديهم حول استمرار نهبهم ضمن بنية جديدة يفترض بـ«جنيف» أن يكون نقطة الانطلاق نحو الصراع السياسي على تشكيلها. إضافةً إلى كبار «الحرامية» الجدد من تجار الحرب الذين يقتاتون على موت السوريين وعذاباتهم، والمشتغلين بالأعمال القذرة كافة، من «تعزيل وتعفيش» بيوت المهجرين، إلى الإتجار بالدولار والسلاح، إلى المضاربة بالغذاء، إلى سمسرة الاعتقال والخطف وغيرها من الجرائم..» (افتتاحية قاسيون/العدد 624)
«إنّ الذهاب إلى جنيف ليس حلاً للأزمة السورية، لكنه بداية الحل. والمعركة السياسية والوطنية القادمة لن تكون أسهل من التي مرّت، ولكنها أصعب وأكثر تعقيداً وتحتاج إلى استنفار وعمل الوطنيين السوريين على اختلاف مواقعهم لتثبيت وحدة سورية أرضاً وشعباً ولضرب الفاسدين الكبار وحلفائهم الموضوعيين من «داعشيين» وأشباههم..»(المرجع السابق)
ويكمن في عمق مواقف القوى المعادية والمعرقلة للحل السياسي، خوفها من العملية السياسية باعتبار هذه الأخيرة في تكثيفها احتكاماً إلى الشعب السوري عبر صناديق الاقتراع، ذلك أن فرض نتائج العملية السياسية مسبقاً على السوريين من خلال تحاصص معين بين فاسدي الطرفين هو ضمانة هؤلاء الوحيدة للاستمرار كجزء مكون من مستقبل سورية، وإلا فإن مستقبلهم معرض لخطر حقيقي..

الخطة «ب» والمزاج الشعبي

أفردت «قاسيون» افتتاحيات عدة منذ بدايات 2012 لمعالجة احتمال تحالف فاسدي الطرفين ضد مصلحة الشعب السوري، بدءً بافتتاحية «احتمال ثورة مضادة تحت سقف الحوار» في العدد 546، الاحتمال الذي لا يزال قائماً.. جاء في افتتاحية العدد 587 من جريدة قاسيون (سيناريو اللصوص..) «إذا كانت واشنطن تقف مع «إسقاط النظام»، فلأن هذا الشعار يعني في الظروف الملموسة، وفي ضوء تجربة الأشقاء المصريين والتونسيين، إسقاط الرئيس وإبقاء النظام/ الأنظمة على فسادها وتبعيتها وتخلفها بل وتعميق ذلك بالتوازي مع إسقاط أي توجه وطني معادٍ للغرب. إن استعصاء هذه العملية في سورية فتح الباب على سيناريو جديد يحقق النتيجة نفسها، أي أن المطلوب هو تغيير شكلي في قالب «ثوري»، أي أنه تغيير يبقي الجوانب الجوهرية الاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية على حالها المتردي..»
تتابع الافتتاحية: «إن جوهر السيناريو المطلوب هو تغيير شكلي للنظام، يقدم مخرجاً وهمياً من الأزمة الراهنة، ولكنه يبقي سورية على تخوم الأزمة، ويبقي احتمال انفجارها قائماً في كل لحظة، وإن استبعاد الفقراء وممثليهم من الحوار القادم ومن الحل السياسي القادم هو شرط أساسي لتحقيق هذا السيناريو، لأن لهؤلاء فهماً واحداً لطريقة الخروج من الأزمة، فهماً يرى الخروج من خلال تغيير جذري عميق في بنية النظام، تغيير يضع لصوص الطرفين في أماكنهم المناسبة.. حيث يستحقون».
يمتد التقاطع بين متشددي الطرفين المتناقضين شكلياً إلى «أمور عديدة تتفرع عن عقيدة النهب، فهما يشتركان في مفهومهما عن الديمقراطية بوصفها ديمقراطية توافقية، أي طائفية، ويشتركان بأدواتهما التي يشكل العنف أهمها، ويشتركان برؤيتهما الاقتصادية الليبرالية، ولن يتكلفوا عناءً كبيراً للاتفاق على المساومة على ثوابت سورية الوطنية..» (افتتاحية قاسيون/ العدد 589)
وعلى العكس من إرادة لصوص الطرفين «فإن الشعب السوري اليوم بأغلبيته الساحقة المنهوبة والمتضررة من سياسات المتشددين والفاسدين ووعودهم الخلبية، تريد وقف العنف ليس هروباً من المعركة الوطنية المستحقة، ولكنهم يريدون معركتهم الحقيقية التي لا يقتل الفقراء فيها بعضهم بعضاً، إنما يريدون معركة يقفون فيها معاً في وجه اللصوص الموجودين في الأطراف جميعها، ليحافظوا على وحدة بلدهم ولينجزوا التغيير الديمقراطي والاقتصادي- الاجتماعي الجذري والشامل والذي يعيد إليهم حقوقهم المسلوبة وليثبتوا مؤسسة جيشهم الوطني بصفتها ضمانة رئيسية لوحدة سورية تمهيداً للانتقال بها من الممانعة إلى المقاومة وصولاً للتحرير.» (افتتاحية قاسيون/العدد 594)

الغاية من التصعيد
يستقر وراء عمليات التصعيد الأخيرة مجموعة من الأسباب أهمها:

«أولاً: المأزق الذي تعانيه عدد من الدول الإقليمية الداعمة للعنف في سورية، والتي تجد في حل الأزمة السورية سياسياً تهديداً لمستقبلها وتأثيرها اللاحق على المعادلات الإقليمية، وعلى رأس هذه الدول تأتي السعودية المرتبطة بشكل نهائي مع الفاشية العالمية الجديدة ومركزها، أي الجزء المتشدد من الإدارة الأمريكية، وأدواته المباشرة المتمثلة بـ«داعش» وأشباهها..
ثانياً: المأزق الذي يعانيه ائتلاف الدوحة ومعه القوى الدولية والإقليمية التي يمثل مصالحها، والمتجسد بعدم قدرته على ضمان وجوده اللاحق داخل أي عملية سياسية سورية، نظراً لمعرفته العميقة بضعف تمثيله الشعبي، ولقناعته أنه سيتبخر بمجرد انحسار العنف والمواجهات..
ثالثاً: يشارك متشددو النظام ائتلاف الدوحة أزمته، فهم يخشون العملية السياسية ويخشون تحديداً من أن تؤدي هذه العملية إلى تغييرات بنيوية عميقة في بنية النظام القائم، وهو الأمر الذي لا يستطيعون ضمان عدم حدوثه، إلا بطريقة واحدة، هي رفع مستوى التصعيد إلى حدوده القصوى سعياً وراء تحويل جنيف من مكان لإيقاف التدخل الخارجي وإيقاف العنف وإطلاق العملية السياسية إلى مكان لإقرار نتائج هذه العملية مسبقاً وفرضها على السوريين، الأمر الذي لا يختلف بالجوهر عن طموحات الائتلاف، بما يسمح لمتشددي الطرفين بالحفاظ على النظام القائم من حيث جوهره الاقتصادي- الاجتماعي، وتحاصص السلطة فيما بينهم. ويلعب التصعيد العسكري هنا دوراً محدداً هو محاولة مصادرة نتائج جنيف قبل انعقاده، وبالضبط قطع الطريق على عملية سياسية حقيقية يتم الاحتكام فيها إلى الشعب السوري.
رابعاً: وراء محاولة متشددي الطرفين استباق نتائج المؤتمر، ومحاولاتهما تأجيله أو حتى إلغائه، تبقى واشنطن ومعسكرها وكل أعداء الشعب السوري المستفيد الأكبر من استمرار استنزاف سورية وإنهاكها لتصل إلى المؤتمر الدولي وهي بأضعف أحوالها..» (افتتاحية قاسيون/العدد 634)

القوى والبرامج والمآلات.. وخلاصة أولية
الحل السياسي.. صراع برامج

إنّ الإعاقات الكبرى لانطلاق الحل السياسي تكمن كما سبق في حقيقة تراجع الوزن السياسي للسلاح في حال انطلاقه، وبالتالي حصر أوزان القوى المختلفة تبعاً لشعبيتها وامتلاكها لبرامج متكاملة في الجوانب الوطنية والديمقراطية والاقتصادية- الاجتماعية، وطرح هذه البرامج أمام السوريين ليختاروا بينها.. ومشكلة القوى المتشددة هي أنها خبأت حتى الآن برامجها الحقيقية تحت صوت الرصاص، وبتراجع هذه الأصوات ستظهر عورات برامجهم الليبرالية.. ومن هنا فإنهم يعرفون مسبقاً مدى«شعبيتهم» ويحاولون لذلك استباق نتائج العملية السياسية وفرضها على السوريين، وإزاحة كل من يقف في وجه هذه العملية. «إن تركيز المتشددين على كل ما من شأنه أن يعيق جنيف، أياً كانت الحجج والذرائع الظاهرية التي يبررون من خلالها تخوفهم أو عدم ثقتهم بجدواه، إنما يعكس في جوهره عدم امتلاكهم أية برامج حقيقية، سواء لحكومة الوحدة الوطنية المقبلة أو لكيفية إدارة المرحلة الانتقالية أو لشكل سورية المستقبل، ويعكس لدى جزء من هؤلاء خشية عميقة من خسارة موارد النهب القديمة أو المستجدة التي خلقتها الأزمة، وهم لذلك لا يراهنون على المستقبل ولكن على الحاضر الذي يتشبثون به بأقصى طاقاتهم..» (افتتاحية قاسيون/ العدد 623).

قوى المعارضة وبرامجها

تعددت الأطر «المعارضة» خلال عمر الأزمة السورية، وتقلبت أحوال ومواقف العديد منها، فبعد انتهاء إمكانية التدخل المباشر تمّ تحييد مجلس اسطنبول من الواجهة، واستبدل بائتلاف الدوحة الذي قبل مؤخراً بالحل السياسي، وإن كان لا يزال يعبر في خطابه عن فهم مدد للحل السياسي يتركز على تسلمه للسلطة. وهذا الكيان من حيث برنامجه لا يختلف في النواحي الاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية عن النظام القائم، فكلاهما يتبنى الليبرالية الاقتصادية، وكلاهما يوافقان على قانون الانتخاب القائم حالياً ويعارضان قانون انتخابات الدائرة الواحدة النسبية، ويشتركان كذلك بعقلية الحزب القائد، ولا تبتعد هيئة التنسيق كثيراً عن التوصيف السابق، وإن كانت وضعت نفسها بموقع أفضل برفضها للتدخل الخارجي وللعنف، الرفض الذي عانى من هنّات وسقطات وعديدة..
وإن تركيز الحديث خلال الأشهر الماضية على «وفد موحد للمعارضة» وعدم القدرة على تحقيق ذلك حتى حينه، يعكس العديد من الحقائق.. من تخبط واشنطن وعدم قدرتها على تكوين معادل سياسي «وازن» لمشروعها التفتيتي، إلى الاختلاف الحقيقي العميق بين قوى المعارضة المختلفة، ليبقى خيار الوفود المتعددة هو الخيار المنطقي الوحيد حتى الآن..  

أعداء «الإرادة الشعبية»

وإذا كان البحث عن وفد موحد للمعارضة تحت قيادة أمريكية مباشرة يهدف إلى إعادة خلق الأزمة من خلال الوصول إلى شكل من تحاصص النهب على أسس طائفية، فإن من بين الواقفين الأساسيين في وجه عملية إعادة التحاصص، كل من ائتلاف قوى التغيير السلمي والجبهة الشعبية للتغيير والتحرير وحزب الإرادة الشعبية، وعند هذا الحد يصبح من الطبيعي أن تتحول هذه الجهات إلى تقاطع لنيران الطرفين..
إن الهجوم على حزب الإرادة الشعبية في عمقه «هو ردٌ على خطٍ سياسيٍ تقدم بثبات طوال الأزمة ليخرب على الناهبين في الطرفين «رسمتهم» لتحاصص جديد يستظل ببعض التغييرات الشكلية وفقاً للنموذج التونسي/ المصري، ويبقي كل ما عدا ذلك على حاله..»
«أصر حزب الإرادة الشعبية على رفض أوهام الحسم العسكري وأوهام الإسقاط، مستنداً في ذلك إلى فهم التوازنات الدولية والداخلية، وأصر لذلك على الحوار والحل السياسي مخرجاً نحو المعركة الحقيقية.. ففي معركة اليوم يقتل الفقراء بعضهم بعضاً ليقتسم المتخمون دماءهم. والحل السياسي لذلك، ليس سوى أداةً في إعادة الاصطفاف الذي يسمح بثورة حقيقية تغيّر النظام في سورية تغييراً جذرياً عميقاً سلمياً، تغييراً اقتصادياً سياسياً وديمقراطياً، تغييراً يعزز دور سورية الممانع للهيمنة الأمريكية ويرتقي بها إلى مستوى المقاومة..»
«رفض حزب الإرادة الشعبية منذ اللحظات الأولى الانقسام الوهمي بين «موالي» و«معارض»، واشتغل على فرز عميق، وطني واقتصادي- اجتماعي وديمقراطي، فرز يضع السوريين في مواجهة منظومة النهب والقمع التي ينتمي إليها الطرفان المتشددان وميليشياتهم من «شبيحة» و«ذبيحة»، فرز ينهي مراسم دفن الفضاء السياسي القديم، ويسمح للجديد بالولادة. الفرز الحقيقي الذي لم يكن يوماً إلا بين ناهبين ومنهوبين، بين الذين يعملون وينتجون، وبين أولئك الذين لا ينتجون لكنهم يسرقون تعب الآخرين، الناهبون الموزعون في كل الأطراف ويرتدون طرابيش مختلفة سياسية وطائفية وقومية، والمنهوبون المنثورون بعرائهم وفقرهم في بقاع سورية كلّها.. إن الهجوم على هذه الطريقة في فهم الأمور، أمر مبرر من الناهبين، فإذا المنهوبون أدركوا وحدة حالهم وجمعوا شتاتهم، فإن للناهبين طريقاً واحداً للهرب، هو المرور من خرم الإبرة..» (افتتاحية قاسيون/العدد 586)

خلاصة أولية:

إذا كان التوازن الدولي في عام 2006 لم يسمح بترجمة انتصار تموز سياسياً، فإنّ التوازن اليوم لا يسمح فقط بترجمة الانتصارات ضد المشروع الأمريكي - الصهيوني على المستويات الإقليمية، ولكنه يسمح لهذه الانتصارات أيضاً بالتأثير على الميزان الدولي نفسه وتسريع تجسيده ضد المصلحة الأمريكية - الصهيونية..