متغيرات التدخل الإمبريالي الأمريكي في النزاعات العالمية (1/2)
 البروفيسور جيمس بيتراس البروفيسور جيمس بيتراس

متغيرات التدخل الإمبريالي الأمريكي في النزاعات العالمية (1/2)

مرّ التدخل الإمبريالي الأمريكي بعدة مراحل في أعقاب حرب فيتنام. ففي الفترة التي تلت هذه الحرب مباشرة، واجهت الحكومة الأمريكية هزيمة عسكرية مذلة على أيدي قوات التحرير الفيتنامية، ورزحت تحت ضغط الرأي العام الأمريكي الذي سئم وتعب من هذه الحرب.


ترجمة وإعداد : نور طه

وبدأت كل من التدخلات الإمبريالية وعمليات التجسس الداخلي ضد المعارضين وسياسة إثارة الانقلابات وتغيير الأنظمة بالتراجع، وفي عهد الرئيسين جيرالد فورد وجيمي كارتر، نشأت - وببطء - عملية إحياء للإمبريالية تجلّت بتقديم دعم سري لبدائل عسكرية في دول جنوب إفريقيا كأنغولا وموزامبيق وغينيا وبيساو، ولديكتاتوريات عسكرية نيوليبرالية في أمريكا اللاتينية.

حقبة الحروب «منخفضة التكاليف»

فقد تم في النصف الثاني من ولاية الرئيس كارتر إطلاق الموجة الأولى من التدخل الإمبريالي واسع النطاق، حيث انطوت هذه الموجة على توجيه دعم هائل لـ «الانتفاضة الإسلامية» بوجه الحكومة في أفغانستان، إضافة لغزو الجهاديين المرتزقة المُموّل من السعودية وباكستان والولايات المتحدة الأمريكية في عام 1979. وتلا ذلك غزو أمريكي مباشر لكل من جرينادا* في عام 1983 في ظل إدارة الرئيس ريجان، وبنما عام 1989 والعراق عام 1991 تحت إدارة الرئيس بوش الأب، ويوغسلافيا عامي 1995-1999 أثناء حكم الرئيس كلينتون.
أخذت عملية الإحياء الإمبريالية في البداية طابع حروب منخفضة التكاليف وقصيرة المدة وقليلة الخسائر. وبالنتيجة، فقد كانت الأصوات المعارضة لهذه العملية والحركات المناهضة للحرب وللإمبريالية أقل مما كانت عليه في بداية السبعينيات.
لقد كانت عملية استعادة التدخلات الإمبريالية الأمريكية المباشرة تسير بالتدريج في الفترة الممتدة بين عامي 1973 و 1990، ولم تلقَ أية عوائق من الكونجرس أو من الرأي العام في حينها. ومن ثم بدأت هذه العملية بالتسارع في التسعينيات وصولاً إلى انطلاقها بشكل فعلي في الفترة التي تلت 11 أيلول من عام 2001.
في عام 2000، تم وبشكل كامل إعداد الجهاز الإيديولوجي والعسكري الإمبريالي المخصص للتدخل المباشر، ونتج عنه سلسلة من الحروب المطوّلة في مناطق متعددة، وتضمنت تعهدات بمداخيل اقتصادية واسعة وطويلة الأمد، ولم تواجه أية معارضة تُذكر من الكونجرس، كما أنها لم تلقَ - في البداية على الأقل - معارضة شعبية واسعة . وقد تم تحديد أهداف سلسلة الحروب هذه من الصهيونية ومهندسي الحروب وفق التالي :
1) تدمير الأنظمة والدول التي عارضت هيمنة «إسرائيل» على فلسطين، وخاصةً أجهزة الجيش والشرطة والبيروقراطيات المدنية الحاكمة في هذه الدول.
2) الإطاحة بالأنظمة التي تدعم سياسات الاستقلال الوطني، والتي تعارض أو تهدد دول الخليج التابعة، أو تلك الدول التي تقدم الدعم للحركات المعادية للإمبريالية والحركات العلمانية و«الإسلامية القومية» حول العالم.
ولم يتوقع أيٌ من الصهاينة أو «المدنيين العسكريين» داخل الإدارة الأمريكية، والذين أعمتهم غطرستهم الإمبريالية وعنصريتهم العارية، أن تستمر المقاومة الوطنية لأمدٍ طويل في هذه البلدان المُستهدفة.
لم تتمكن القوى الإمبريالية من إقامة أنظمة موالية وعميلة لها تتمتع بالاستقرار، وتكون مدعومة بجهاز دولة موحّد يحتكر القوة والعنف، وذلك لأن هذه القوى قد قامت مسبقاً - وعن عمد - بتدمير هذه البُنى «الجيش-الخدمات المدنية-البيروقراطية» خلال غزوها واحتلالها لتلك الدول. ولم تشكل حالة «الفراغ السياسي» هذه أي مشكلة للصهاينة في الإدارة الأمريكية، لأن هدفهم الأول والأخير هو تدمير أعداء «إسرائيل».
لقد أدت عمليات الغزو الأمريكية المتكررة إلى تعاظم القوة الإقليمية لـ «إسرائيل» دون أن تخسر الأخيرة جندياً أو شيكلاً* واحداً. هذا وقد قام الصهاينة المتواجدون داخل إدارة الرئيس بوش - وبنجاح - بتحميل مسؤولية المشاكل التي تلت الاحتلال كنشوء المقاومة المسلحة، على زملائهم العسكريين وعلى نخبة القادة في البنتاجون، وبهذا فقد «أنجزت المهمة» وغادر صهاينة الإدارة الأمريكية الحكومة، منتقلين إلى أعمال مربحة جداً في القطاع المالي الخاص.

أجندة الحروب الصهيونية

أما في ظل إدارة الرئيس أوباما، فقد ظهر «فريق» جديد من صهاينة الإدارة الأمريكية ليستهدفوا إيران وليحضّروا الولايات المتحدة لحرب جديدة بالنيابة عن «إسرائيل». إلا أن الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري كان قد تغير مع نهاية العقد الأول من القرن العشرين وانتخاب أوباما رئيساً، حيث إن التباين في الظروف بين السنوات الأولى من حكم الرئيس بوش الابن وبين الإدارة الأمريكية الحالية هو تباين صارخ.
فقد اتسمت المدة بين عامي 1980-2000 التي سبقت إطلاق أجندة الحروب المتسلسلة، بحروبٍ قصيرة وغير مكلفة وذات خسائر قليلة في كل من جرينادا وبنما ويوغسلافيا ناهيك عن حرب بالوكالة في أفغانستان. بالإضافة إلى الغزو والاعتداءات «الإسرائيلية» المتكررة ضد لبنان وسورية وفي الضفة الغربية المحتلة. دون أن ننسى الحرب الرئيسية الأمريكية ذات المدة القصيرة والخسائر المنخفضة في العراق «حرب الخليج الأولى» حيث نجحت هذه الحرب في إضعاف حكومة الرئيس السابق صدام حسين. في حينها، كان الاقتصاد الأمريكي مستقراً نسبياً وكان العجز فيه تحت السيطرة، وحتى أن النفقات العسكرية بدت تحت السيطرة ، حيث لم تكن الأزمة الاقتصادية الحقيقية قد بدأت بعد. أما الرأي العام الأمريكي المعادي لحرب الخليج الأولى، فقد تمت «تهدئته» نظراً لقصر مدة هذه الحرب ولانسحاب القوات الأمريكية المشاركة فيها. كما أن العراق ظل تحت مراقبة جوية واستمرت عمليات القصف والهجمات الصاروخية في كل مرة كانت تحاول الحكومة العراقية فيها استعادة السيطرة على شمال العراق. وبالنسبة لـ«إسرائيل»، فقد اضطرت في تلك الفترة إلى خوض حروبها بنفسها وأن تحافظ على احتلالها «المكلف» لجنوب لبنان نظراً لخسارتها العديد من جنودها هناك.

تغيرات استراتيجية بسبب الأزمة الاقتصادية

في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين اختلف كل شيء، كانت الولايات المتحدة تغوص في حرب واحتلال طويلين في أفغانستان استمرا لثلاثة عشر عاماً مع أملٍ ضئيل بإقامة نظام مستقر في كابول يكون موالياً لها. هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر فقد تسببت حرب السنوات السبع في العراق «حرب الخليج الثانية» وما رافقها من تجدد للصراع الديني والعرقي بخسائر كبيرة للولايات المتحدة، وأدت إلى نمو نفقاتها العسكرية بشكل كارثي. هذا وقد ازداد العجز في كل من الموازنة والميزان التجاري بشكل هائل بالتوازي مع انخفاض حصة الولايات المتحدة الأمريكية من السوق العالمية، حيث حلت الصين محلها بوصفها الشريك التجاري الرئيسي في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. ومن الجدير بالذكر أيضاً أنه تم شن سلسلة من الحروب «منخفضة الشدة» في اليمن والصومال وباكستان، وقد ألغت هذه الحروب احتمال إيقاف الاستنزاف الجاري للجيش والخزانة الأمريكيين.
لقد اختبرت الأغلبية الساحقة من الأمريكيين تدنياً واضحاً في معايير المعيشة، وباتوا مقتنعين بأن تكلفة الحروب الخارجية التي تشنها دولتهم هي عاملٌ مهم يساهم في حالتي الإفقار وانعدام الأمن النسبيين الذين يعانونهما. كما أن فاتورة إنقاذ مصارف «وول ستريت» خلال الانهيار الاقتصادي في عامي 2008-2009 والمُقدّرة بعدة مليارات، تسببت بتآكل وانخفاض التأييد الشعبي للنخبة المالية وأيضاً للنخبة العسكرية - الصهيونية التي استمرت في الدفع باتجاه شن المزيد من الحروب الإمبريالية.

هوامش :
جرينادا* : دولة تقع في جزر الهند الغربية في البحر الكاريبي.
الشيكل* : العملة النقدية في الكيان الصهيوني.