الصراع في القطب المتجمد الشمالي: خلاف على الثروات والحدود.. يحسمه العلم!
عفيف رزق عفيف رزق

الصراع في القطب المتجمد الشمالي: خلاف على الثروات والحدود.. يحسمه العلم!

«تحترم الصين جداً حقوق السيادة لكل بلد ضمن الحدود الرسمية المعترف بها؛ لكن منطقة القطب الشمالي ليست جميعها ضمن الحدود الإقليمية للبلدان المشاطئة لهذا المحيط، فهي ملك الإنسانية جمعاء، ولا يُمكن لأي أمة الادعاء بالسيادة على أجزاء خارج حدودها الإقليمية. وبما ان عدد سكان الصين يُمثل خُمس سكان العالم، اذاً تُطالب الصين بخمس الثروات الطبيعية الموجودة في منطقة القطب الشمالي خارج الحدود الإقليمية للبلدان المشاطئة... ».

 هذه العبارات تعود إلى أحد الأميرالات الصينيين الكبار ين زهو، وقد أطلقها كمشاركة في النقاش الدائر في الصين حول ما يجري من تحركات في منطقة القطب الشمالي الغنية بالثروات الطبيعية من بترول وغاز ومعادن، وغيرها، فضلاً عن موقف الصين من هذه القضية. لذلك يمكننا اعتبار، ما جاء على لسان هذا الاميرال، تجسيداً لواقع سائد حالياً بدءاً من تحرك البلدان المشاطئة للمحيط لقوننة علاقتها بالواقع الجغرافي تمهيداً لتحديد ملكيتها، مروراً بجميع المهتمين بهذه الثروات وكيفية استثمارها. إن أبلغ دليل على هذا الاهتمام هو ما قامت به الصين في المنطقة، واعتُبر»انضماماً» إلى ساحة المنافسة. لقد ارسلت بكين في العام الماضي اول سفينة كاسحة للجليد، ثم ارسلت، في آب الماضي سفينة تجارية أبحرت من مرفأ «داليان» (شمال ـ شرق)، فعبرت الممر الواقع في مضيق «بيرينغ» بين المحيط الاطلسي والهادئ، لتصل الى ميناء «روتردام» الاوروبي، ولتختصر فترة الرحلة ما بين 12 و15 يوماً.

الى جانب هذا الاهتمام قامت الصين بنسج علاقات ديبلوماسية مميزة مع العديد من الدول القريبة من هذا القطب، فمع إيسلندا، على سبيل المثال لا الحصر، البالغ عدد سكانها 316 ألف نسمة فقط وتقع عند المدخل الغربي ـ الشمالي للمحيط المتجمد الشمالي، ويُعتبر هذا الموقع الجغرافي من افضل المواقع لنقل البضائع بواسطة السفن العملاقة الحاملة للحاويات.. وضعت الصين في سفارتها، عدداً من الديبلوماسيين، يتجاوز عددهم عدد طاقم أي سفارة أخرى. كما ان السلطات الصينية الرسمية استقبلت رئيس هذه الدولة، لدى زيارته بكين، في الآونة الاخيرة، كرئيس دولة كبرى. ومؤخراً أرسلت سفينة ابحاث ودراسات إلى هناك.

يقع المحيط المتجمد الشمالي في أقصى الشمال الجغرافي، ويشغل معظم مساحة الدائرة القطبية الشمالية التي تقع على تماس مع بلدان عدة في عدد من القارات: روسيا من آسيا؛ النروج والدنمارك من اوروبا؛ والولايات المتحدة وكندا من القارة الاميركية. ويُعتبر هذا المحيط رقعة جليدية غير منتظمة الشكل بسبب العوامل المناخية. وقد بدأ الاهتمام بهذه المنطقة منذ سنوات فقط، وذلك مع تسارع الانحباس الحراري وتداعياته، ومن أهم هذه التداعيات ذوبان الكتل الجليدية الكبيرة في هذا المحيط.

الى جانب الآثار البيئية المصاحبة لهذا المنعطف المناخي المهم، يذكر المراقبون نتيجتين مهمتين لهذه التطورات: الاولى ظهور أقصر طرق ملاحية جديدة في المنطقة، وبالتحديد عبر مضيق «بيرينغ» الذي يربط المحيط الأطلسي (اوروبا)، بالمحيط الهادئ (آسيا). ومن المعلوم أنه لم يكن ممكناً استخدام هذه المعبر ملاحياً من قبل بسبب تجمّده الدائم؛ أما الثانية فهي انكشاف مساحات متزايدة من قعر هذا المحيط مما يُسهل إمكانية اكتشاف واستخراج الثروات البترولية والمعدنية وخلافهما. والجدير ذكره في هذا الإطار أن احتياط الثروة البترولية في المنطقة كما جاء في أحدث تقرير لخبراء جيولوجيين اميركيين، ونشرته صحيفة «الانديبندنت» البريطانية، يقدر بحوالي 90 مليار برميل، أي أكبر من احتياط كل من نيجيريا وكازاخستان والمكسيك مجتمعاً، كما يُلبي الاحتياجات الدولية كلها لمدة ثلاث سنوات على اساس الاستهلاك الحالي المقدر بـ 84 مليون برميل يومياً. اما الثروة الغازية فتوازي ثلث حجم الاحتياط العالمي المكتشف حتى الآن، أي ما يُقارب 48 مليار متر مكعب.

وفي ضوء هذه الوقائع والتطورات، كيف يبدو الصراع في المنطقة، وما هي أبعاده ونتائجه؟

ترعى العلاقة بين البلدان المشاطئة والاوضاع القائمة في المنطقة اتفاقية حقوق الملكية في الجرف القاري، الصادرة عن الامم المتحدة في العام 1982، ودخلت حيز التنفيذ في العام 1994 بعدها صادقت عليها 150 دولة من بينها روسيا والنروج فقط من البلدان المشاطئة، وتسمح نصوص الاتفاقية للدول المشاطئة استثمار الثروة البحرية على مسافة 200 ميل بحري من شواطئها، إنما بعد المصادقة من قبل الدولة المعنية، وحددت الاتفاقية في العام 2013 كآخر تاريخ للمصادقة. والجدير ذكره أن الولايات المتحدة ما زالت تنتظر مصادقة الكونغرس عليها، في حين أن كندا تقدّمت بطلب اولي الى اللجنة الخاصة بانتظار اكمال المستندات المطلوبة.

من الاطلاع على مسار التطورات في منطقة القطب الشمالي، نجد أن روسيا هي البلد الوحيد، من بين البلدان المعنية، الذي تعامل بجدية مع هذه القضية. لقد تقدم الوفد الروسي المكلف بهذا الملف الى اللجنة الاممية بمستندات تثبت ان امتداد هضابه يشكل امتداداً طبيعياً للهضبة القارية ليُسمح لبلده الاستثمار على بعد 350 ميلاً بحرياً، وذلك بحسب احد بنود الاتفاقية. وعندما رُفض الطلب الروسي من قبل اللجنة لعدم وجود مستندات كافية، عاد هذا الوفد ووعد باستكمال الملف، ثم ارسلت روسيا، في تموز العام 2007، غواصتين صغيرتين تحملان بعثة علمية الى القطب الشمالي، وركزت علماً روسياً على هضبة في هذا القطب على بعد اربعة كيلومترات. اعترضت كل الدول المعنية على التصرف الروسي، الذي اعتُبر تحدياً، حتى أن وزارة الخارجية الاميركية اعتبرت ان نصب العلم الروسي بمثابة اعلان حرب على القطب، وان واشنطن تعتزم الرد على تحدي موسكو. اما بالنسبة للخلاف بين الولايات المتحدة وكندا فالنقطة المحورية فيه تدور حول تقاعس الولايات المتحدة في القبول بترسيم الحدود مع كندا، وضرورة اعتراف أميركي بسيادة كندا على اجزاء من القطب الشمالي.

ليس الخلاف الكندي ـ الاميركي هو الوحيد في ما يخص البلدان الأخرى والقطب الشمالي، فهناك حرب كلامية بين الدنمارك وكندا بشأن ملكية جزيرة صغيرة «هانس» بالقرب من شاطئ غروينلاند، وخلاف اشد حدة بين روسيا والنروج في القسم الجنوبي ـ الشرقي من منطقة القطب الشمالي.

وفي المحصلة النهائية أن المعضلة الاساسية، التي تقف وراء احتدام هذا النزاع، هي في الخلاف بين الاطراف المعنية حول من له الأحقية بالسيطرة على منابع تلك الثروة، وضمن أي مجال سيادي يجب أن تؤول إليه ملكية اعماق المحيط المتجمد الشمالي ـ حيث القسم المهم من الثروة البترولية والسمكية ـ والممرات الملاحية المنتظر العثور عليها خلال السنوات المقبلة. ثم ما هو مصير المساحات التي تقع خارج الحدود الإقليمية للدول المشاطئة، والتي اشار اليها بقوة الاميرال الصيني؟ لكن ما هو مدى هذا النزاع؟ يرى أحد المحللين والعارفين بشؤون المنطقة أن لهذا النزاع وجهاً تفرّد به هو ان عامل الحسم وكلمة الفصل فيه لن تكون في الاغلب للساسة والسياسيين، كما هو معهود، وانما للعلم والعلماء؟!

 

 

المصدر: السفير

آخر تعديل على الجمعة, 27 كانون1/ديسمبر 2013 19:50